كان في مخيلتي التي تتسم بالطابع الخيالي، أنه بعد إعادة مشروع قانون الإجراءات الجنائية مرة جديدة إلى مجلس النواب بملاحظات رئاسية، أنه سيتم إعادة النظر في مشروع القانون برمته، ولن يقف الأمر عن حدود بعينها، ولكن علمت، بأن خطاب رد المشروع إلى مجلس النواب كان متضمناً عددا من المواد، لا تتعدى ثماني مواد، وإن كان أكثرها متعلق ببعض الإصلاحات البسيطة في مشروع القانون.
وقد أتبع ذلك، أن نشرت الجريدة الرسمية القرار الجمهوري رقم 546 لسنة 2025 الذي دعا فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية مجلس النواب للانعقاد، وذلك يوم الأربعاء الموافق الأول من أكتوبر في تمام الساعة العاشرة صباحا، وذلك لافتتاح دور الانعقاد العادي السادس من الفصل التشريعي الثاني. وذلك على الرغم من قرب انتهاء الفصل التشريعي كاملاً، والذي سينتهي في شهر يناير المقبل، بحسب نص المادة 116 من الدستور المصري، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض الازدواجية، إذ أن المناخ العام المصري في حالة استعداد لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي من المقرر أن تتم في شهر نوفمبر المقبل.
وإذا كان من الواضح، أن هذه الدعوة مرتبطة بإقرار التعديلات الواردة على قانون الإجراءات الجنائية، وهو ما يوحي أن هذه المناقشات المتعلقة بتلك التعديلات، سوف تتم في عجالة من أمرها، وهو الأمر الذي لا يتناسب مع قيمة قانون الإجراءات الجنائية وأهميته المجتمعية والحقوقية، وهو ما يؤكد أن أمر هذه التعديلات سيقف عند حد ما ورد بمذكرة رئاسة الجمهورية، وبذات المواد الواردة بها لا أكثر ولا أقل. إذ أنه وفقا لبيان رئاسة الجمهورية، فإن المواد المعترض عليها، تتعلق باعتبارات الحوكمة والوضوح والواقعية، بما يوجب إعادة دراستها لتحقيق مزيد من الضمانات المقررة لحرمة المسكن ولحقوق المتهم أمام جهات التحقيق والمحاكمة، وزيادة بدائل الحبس الاحتياطي للحد من اللجوء إليه، وإزالة أي غموض في الصياغة يؤدي إلى تعدد التفسيرات أو وقوع مشاكل عند التطبيق على أرض الواقع، وإتاحة الوقت المناسب أمام الوزارات والجهات المعنية لتنفيذ الآليات والنماذج المستحدثة في مشروع القانون والإلمام بأحكامه؛ ليتم تطبيقها بكل دقة ويسر، وصولاً إلى العدالة الناجزة في إطار من الدستور والقانون.
إذن، وبحسب ما ورد في بيان وزير الشؤون البرلمانية أو النيابية، أن أمر نظر البرلمان سيقف عند حد المواد الثمانية التي وردت في مذكرة رئاسة الجمهورية، وعرضها على المؤتمر العام لمجلس النواب، وهو الأمر الذي يوحي، بأننا سنقف عند هذا الحد من التعديلات التي ستتوافق بالطبع مع رؤية السلطة التنفيذية.
وإذ أن العودة إلى مناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية من جديد، وبهذه الطريقة وفق رؤية رئاسة الجمهورية، على الرغم من أن ذلك المشروع يسيء إلى سمعة مصر في المحافل القانونية، وأنه لا يتناسب بشكل أولى مع كم الخبرات القانونية والقامات العلمية التي تحتويها مصر، في شتى أنواع القانون، بحسبه أحد أهم أدوات المعرفة الإنسانية، ذلك بخلاف القامات القضائية والفقهية التي تُصدرها مصر إلى العالم، فهل سيتم تمرير مثل هذا التشريع المتخاذل على المجتمع المصري، فعلى الرغم من تعالي أصوات المعارضة ضد هذا المشروع، بشكل أرى أنه لم يسبق له مثيل، من خلال نقابة الصحفيين أو المحامين أو نادي القضاة، بخلاف الأصوات المتناثرة على مواقع السوشيال ميديا، فيجب والحال كذلك، أن تحترم السلطات أصوات من داخلها، وتعود بهذا المشروع إلى المربع صفر، وتبدأ من حيث يبدأ الخبراء في عرضه على المتخصصين وأهل الخبرة وأصحاب الحق في مناقشتهم قبل عرضه على مجلس النواب بحسبه السلطة التشريعية.
وحتى يستقيم القول، فلا بد وأن نؤكد على أن قانون الإجراءات الجنائية يمثل الظهير الحامي لحدود الشرعية، فيما تتخذه السلطات من إجراءات حال تنفيذها للقوانين العقابية، بداية من لحظة حدوث الجريمة، حيث لا يمكن في جميع الأحوال تصور الوصول إلى العدالة الناجزة في المواد الجنائية، والتي لا تقف إلا عند حد توقيع العقاب الملائم على المتهم؛ جزاءً بما اقترفت يداه، كذلك الأمر أو ربما أشد فلا يمكن تصور تحقق تلك الغاية المتمثلة في معاقبة المجرمين، إلا من خلال إجراءات جنائية، تصون حقوقهم، في كافة مراحل التقاضي، بداية من لحظة القبض عليهم، نهاية بتنفيذ العقوبة المقضي بها، أو القضاء بتبرئة من تم تقديمه للمحاكمة، وإذ أنه لما كان التشريع «القانون» هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذي يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فإن ما تقره التشريعات من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، ويتعين أن يكون منصفا ومبررا، وبالتالي فإنه لا يجوز للسلطة التقديرية للمشرع، أن تتجاوز أو تنحرف عن الأهداف الدستورية في طريقة وكيفية مباشرته لاختصاصه الفريد، وقد اشترط الدستور لتحديد قواعد الإجراءات الجنائية، مستندا إلى مبدأ عام وهو الثقة في القانون لتنظيم الحريات.
ولا بد وأن نعاود التأكيد على أن تعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل عام من الأمور ذات الحساسية المفرطة لتعلقه بكيفية ضمان حقوق وحريات المواطنين، وبالتالي فيجب أن يتم ذلك الأمر على نحو من الدقة والمهنية، بما يضمن أن تكون القواعد الجديدة متماشية بصورة كبيرة مع التزامات مصر الدولية والحقوقية، التي ضمنتها الاتفاقيات والمواثيق التي وقعت عليها مصر، بخلاف ما حدده الدستور المصري من قواعد وجب الالتزام بها، وتحقيقها على أرض الواقع من خلال تضمينها للقواعد القانونية، وذلك ما لم نجد له صدى في ما يتم الترويج له بمشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، والذي ورد به العديد من النقاط السلبية التي تصادر حقوق الأفراد، وهو الأمر الذي يتعارض مع حقيقة شرعية ومشروعية الإجراءات الجنائية، وأن الهدف الرئيسي من وجود مثل هذا التشريع على الرغم من سعيه للوصول إلى العدالة الجنائية، فيما اقترف من جرم، إلا أن ذلك حده أن تُراعى الحقوق الأساسية الإجرائية للمتهمين، بما يضمن تفعيل أصل البراءة كأصل عام شامل للمحاكمات الجنائية. والأصل العام أن يكون المشرع حريصاً على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقررة دستورياً، وألا ينال منها متخفياً وراء ستار من ولايته المنصوص عليها في الدستور، إذا لا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها في تنظيم الحقوق ستاراً؛ لإخفاء نواياها في الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التي يجب أن يحرص عليها، حتى وإن حاجج البعض، بأن للمشرع السلطة التقديرية في المفاضلة بين البدائل المتعددة حين تنظيم الحقوق، إلا أن ذلك محدود باختياره أفضل تلك البدائل لصون تلك الحقوق وحمايتها على أكمل وجه، دونما إثقال بالقيود، أو ما يجاوز حد التنظيم بشكل عام.
إذن، فهل لنا أن نطمع في موقف من أعضاء مجلس النواب، ولو للمرة الأخيرة في عمر هذا المجلس، بأن لا يقف حد العرض والمناقشة عند حدود ما ورد في مذكرة رئاسة الجمهورية، وأن يتطرق العرض والمناقشة إلى مواد المشروع التي لاقت أوجه اعتراض مجتمعية وحقوقية متعددة، أو أن يتم تأجيل نقاش المشروع إلى قدوم مجلس النواب القادم، حتى يكون هناك وقت مفتوح أمام كافة الجهات لتناول هذا القانون بما يستحقه، أم أن الأمر سيمر، كما مر غيره من أمور عند حد رغبة السلطة التنفيذية.