منذ قرون، اعتادت بريطانيا، أن تلعب دور”المستعمر العجوز”، تخرج من الباب وتعود من الشباك، لا تفقد الحيلة والدهاء أبدًا، يتغير شكلها من قوة احتلال مباشر إلى وسيط سياسي، يرسم القواعد في الغرف المغلقة.

وبالتالي لم يختف الاستعمار البريطاني بسقوط إمبراطورتيه بعد الحرب العالمية الثانية. لم يعد يملك الأساطيل ولا الجنود الذين كانوا يرسمون الخرائط، لكنه أعاد تدوير نفسه في صورة جديدة: مقاول خبرة يعمل لحساب القوة الأمريكية الصاعدة.

يتكرر النمط: أمريكا تمسك بالآلة العسكرية والسياسية، بينما بريطانيا تزودها بالخبرة الاستعمارية المتراكمة والدبلوماسيين، تمنح الشرعية لقرارات صعبة. من هنا نفهم، لماذا يعود اسم توني بلير اليوم للظهور في ملف حساس وشائك كملف غزة، كما عاد ديفيد أوين بالأمس في البوسنة، وكما ظهر البريطانيون دوما في العراق وليبيا وسوريا.

 فلسطين والشرق الأوسط

منذ اللحظة الأولى، لم تكن فلسطين مجرد أرض صراع، بل مختبر لتكتيكات المستعمر البريطاني الذي أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق.

في هذا المرحلة، رسمت الأزمة بداية من وعد بلفور 1917، والسماح ببناء مؤسسات يهودية تحت حماية الانتداب، وشل أي إمكانية لقيام كيان عربي منظم. وحين غادرت فلسطين 1948، لم تترك فراغا، بل تركت لغما. كانت تعرف أن إسرائيل تحتاج إلى راعٍ جديد، فوجدت أمريكا الوريث الطبيعي.

لكن هذا لا يعنى، أن بريطانيا غادرت المسرح، بل العكس، تحولت إلى” مستشار خلفي” للأمريكان الذين كانوا بحاجة لمن يزودهم بالخبرة في فنون التلاعب بخريطة فلسطين والقدس، والعلاقة مع الأنظمة العربية، فوجدوا لندن شريكا لا غنى عنه.

بلير نفسه الذي عاد لاحقا مبعوثا للرباعية، لم يكن أول وجه بريطاني في الملف، بل حلقة في سلسلة طويلة من رجال السياسة البريطانيين الذين تنقلوا بين الاستعمار المباشر والوساطة الدولية.

المفارقة، أن واشنطن تضغط عسكريا وماليا، لكنها تحتاج، من يمنح ذلك لغة مقبولة.

بعد خروجه من رئاسة وزراء بريطانيا، جاء دور توني بلير تم تعيينه مبعوثا للجنة الرباعية (أمريكا، الاتحاد الأوربي، روسيا، الأمم المتحدة) في الفترة من 2007، وحتى 2015. المهمة المعلنة: بناء المؤسسات الفلسطينية وتطوير الاقتصاد وتسهيل إعادة الإعمار، بينما الحقيقة، أنه فعل كل ما هو مناقض لهذه الأهداف. تجاهل القضايا الرئيسية، كما الاستيطان وركز على مشاريع اقتصادية صغيرة غير مؤثرة أكثر من التركيز على الحل السياسي، تشير تقارير، انتقدت عمله: أنه منح إسرائيل وقتا إضافيا لتعميق واقع الاحتلال تحت شعار “الإصلاح الاقتصادي”.

بعد مهمته، أسس مركز استشارات وتعاون مع شركات ورجال أعمال إسرائيليين، لم يكن بلير مجرد مبعوثا سياسيا، بل حلقة وصل بين مصالح المال والسياسة الإسرائيلية والغربية.

 بلير نموذج واضح للمقاول البريطاني الذي يقدم كوسيط دولي، لكنه على الأرض يخدم مصالح إسرائيل وأمريكا، يعتمد خطاب التنمية والإصلاح في الواجهة، بينما يشرعن واقع الاحتلال، ويحافظ على صورة بريطانيا كطرف خبير رغم عمله لحساب الأجندة الامريكية– الإسرائيلية.

البوسنة والبلقان– ديفيد أوين كنموذج

بعد تفكك يوغوسلافيا في التسعينيات، كان المشهد مثاليًا لاختبار دور “المستعمر العجوز”. فالحرب في البوسنة لم تكن حربًا أوروبية محلية فقط، بل صارت ساحة لتدخلات أمريكية وأوروبية كبرى. هنا ظهر اسم ديفيد أوين، وزير خارجية بريطانيا الأسبق، الذي أُوكلت إليه مهمة إدارة الأزمة من خلال خطة فانس– أوين (1992–1993).

اللافت، أن أوين لم يكن مجرد وسيط محايد. الخطة التي وضعها مع المبعوث الأممي سايروس فانس، قُرأت على نطاق واسع، باعتبارها أقرب إلى إعطاء الصرب مكاسب سياسية على حساب المسلمين في سراييفو، ومنحت شرعية لفكرة التقسيم الإثني، وفتحت الباب أمام الاعتراف بواقع القوة الصربية على الأرض، في لحظتها بدت الخطة، وكأنها “حل وسط”، لكنها عمليًا كرّست ميزان قوة منحازًا.

ورغم أن واشنطن لم تتبنَّ الخطة بالكامل، فإنها استفادت من وجود أوين كواجهة أوروبية؛ لتغطية عجزها عن الانخراط المباشر في البداية، وكانت بريطانيا تقوم بالدور نفسه الذي أتقنته في الشرق الأوسط: تقديم حلول مغلفة بخطاب سلام، لكنها تصب في مسار إعادة تشكيل الخرائط وفق ميزان قوة، يخدم المصالح الغربية.

بهذا المعنى، لم يكن أوين مختلفًا كثيرًا عن بلير لاحقًا: كلاهما وُظِّف كـ “وجه مقبول” لإدارة ملفات صعبة، في حين ظل القرار الحقيقي بيد القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. لكن وجود البريطانيين في الواجهة أعطى الانطباع بوجود “تعددية دولية”، بينما الجوهر أن الأمريكان هم من يحددون القواعد والحدود.

عراق بعد 2003– الشراكة العلنية

غزو العراق كان لحظة اختبار كبرى للتحالف الأمريكي البريطاني– أمريكا قادت الحرب عسكريًا وسياسيًا، لكنها لم تذهب وحدها. بريطانيا، بقيادة توني بلير، كانت الحليف الأهم والأكثر التزامًا. لم يكن انضمام لندن رمزيًا، بل تأكيدًا لشراكتها في رسم خرائط الشرق الأوسط

هنا لم تكتفِ بريطانيا بدور الوسيط أو المبعوث، بل تحولت إلى شريك في الغزو والاحتلال. ومع ذلك، ظل الدور يحمل بصمة “المقاول”: الأمريكان أسقطوا النظام بالآلة العسكرية الضخمة، بينما البريطانيون ركزوا على إدارة الجنوب، وخصوصًا البصرة، مستفيدين من خبرتهم القديمة منذ الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917. وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة بغطاء أمريكي

النتيجة أن لندن قدمت لواشنطن أكثر من مجرد دعم عسكري؛ وغطاء سياسي، وفرت أيضًا شرعية دولية (أو مظهرها على الأقل)، لتخفيف صورة الهيمنة الأمريكية المنفردة. فوجودها في قلب التحالف جعل الغزو يبدو وكأنه “عمل جماعي”، بينما الحقيقة أن القرار كان أمريكيًا بامتياز.

وبينما غاصت واشنطن في مستنقع المقاومة والاحتلال، بدت بريطانيا وكأنها تؤدي الدور الذي تجيده دائمًا المستشار، الخبير، الذي يعرف تضاريس المكان والعقلية المحلية، حتى لو كان الثمن دماءً جديدة وانهيار دولة كاملة.

نموذج ليبيا

مع اندلاع الثورة الليبية وسقوط نظام القذافي، بدت الساحة وكأنها فرصة جديدة لإعادة اختبار أدوار القوى الغربية. فرنسا سارعت إلى التصعيد العسكري، أمريكا قادت العمليات عبر الناتو، وبريطانيا لم تغب عن المشهد على العكس، لعبت دور المعاون الذي يتحرك في الكواليس.

لندن وفرت خبرة استخباراتية ودبلوماسية، وقدّمت الدعم اللوجستي والمعلوماتي للحملة الجوية. أرسلت وحدات خاصة، وتولت جزءًا من الترتيبات مع المعارضة الليبية، بل لعبت دورًا في بناء شبكة علاقات مع جماعات مسلحة، كانت لاحقًا جزءًا من الفوضى التي عصفت بالبلاد.

 لم تكن القوة الضاربة كأمريكا أو فرنسا، لكنها أدت وظيفة المقاول ببراعة: فتح الأبواب المحلية، وإدارة التفاصيل التي لا يريد الكبار الغوص فيها.

ما جرى في ليبيا كشف جانبًا جديدًا من الدور الاستعماري، الشراكة في هندسة الفوضى، في الوقت الذي ركزت واشنطن على إسقاط النظام، تولت لندن مهمة إعادة صياغة المشهد المحلي، مستخدمة خبرتها القديمة في تفكيك المجتمعات عبر تحالفات قبلية.

بهذا المعنى، بدا أن بريطانيا ما زالت تحتفظ بـ “عِدة الشغل الاستعمارية” نفسها: معرفة العائلات، النخب، القبائل، والمنافذ. أدوات تبدو صغيرة أمام قوة السلاح الأمريكي، لكنها حاسمة في التحكم بمصير الدول بعد إسقاط أنظمتها.

 سوريا– بين التسريبات وخطط البدائل

سوريا كانت الساحة الأكثر تعقيدًا، والأكثر كشفًا لطبيعة دور “المستعمر العجوز”. فالحرب هناك لم تكن مجرد انتفاضة داخلية أو مواجهة إقليمية، بل عقدة، تداخلت فيها روسيا وأمريكا وإيران وتركيا وإسرائيل. وسط هذه الشبكة، ترددت تسريبات وتقارير عن محاولات بريطانية، بالتنسيق مع أنقرة وبرضا أمريكي، لإعداد بدائل للنظام السوري.

الاسم الذي برز أحيانًا، كان أحمد الشرع، أو غيره من شخصيات النظام السابقة. لم تُعلن الخطة رسميًا، لكنها عكست منطقًا واضحًا: بريطانيا تتحرك كمن يعرف تفاصيل البيت السوري من الداخل، وتعرض على واشنطن “حلاً قابلاً للتسويق”، يحافظ على بنية الدولة، ويزيح رأس النظام فقط. أسلوب أقرب ما يكون لصفقات الانتداب القديمة: تغيير الواجهة، الإبقاء على الآليات.

في الوقت نفسه، كان الدور البريطاني أقل صخبًا من الأمريكي أو الروسي، لكنه أكثر مهارة في التعامل مع المعارضة السياسية، وتوجيه بعض مساراتها في المؤتمرات الخارجية.

هنا يظهر مرة أخرى، الفرق بين واشنطن ولندن: الأولى تضغط بالآلة العسكرية والعقوبات، والثانية تتحرك بالملفات الشخصية، والعلاقات السرية.

سوريا أثبتت أن بريطانيا لم تفقد “لمستها الاستعمارية”: لا تمتلك القوة الكافية لفرض حل نهائي، لكنها قادرة على أن تكون طرفا، يطبخ الحلول في الظل، ويقدّمها للولايات المتحدة كـ “خبرة استعمارية” جاهزة للاستخدام.

بريطانيا وشبكة النفوذ المستمرة

لم يكن حضور بريطانيا في الشرق الأوسط مقصورًا على أدوارها المباشرة في ملفات كبرى مثل، فلسطين أو العراق، بل ظل ممتدًا في شبكة نفوذ متشعبة، تؤكد أن “المستعمر العجوز” لم ينسحب يومًا، بل أعاد ابتكار نفسه بأدوات جديدة أكثر مرونة. فمن خلال العسكر والاقتصاد والثقافة والسياسة، حافظت لندن على موطئ قدم، يجعلها شريكًا لا غنى عنه لواشنطن، ولاعبًا لا يمكن للعرب تجاهله.

الأدوات العسكرية والاقتصادية

في المجال العسكري والأمني، لا تزال القواعد البريطانية في الخليج، من البحرين إلى عمان وقطر، تشكّل امتدادًا استراتيجيًا لنفوذها، فيما تتحول عقود السلاح الضخمة مع السعودية والإمارات إلى أكثر من مجرد تجارة، إذ تصاحبها برامج تدريب وبناء كوادر تُبقي الجيوش العربية مرتبطة بالخبرة البريطانية. وإلى جانب ذلك، تستمر أجهزة الاستخبارات البريطانية في نسج علاقات مع أجهزة أمن عربية تحت شعار “مكافحة الإرهاب”، وهو ما يمنحها موقعًا داخليًا في عملية اتخاذ القرار.

اقتصاديًا، تبقى شركات النفط الكبرى البريطانية في صلب عقود الغاز والنفط بالعراق والخليج وشرق المتوسط، وبينما تحافظ لندن على موقعها كعاصمة مالية تستوعب استثمارات الصناديق السيادية الخليجية، ما يمنحها قدرة على التأثير غير المباشر في السياسات الاقتصادية العربية.

ثقافيًا وفكريًا، استثمرت بريطانيا في التعليم والإعلام والفكر، إذ فتحت جامعاتها فروعًا في الخليج، تستقطب النخب الجديدة، فيما تتحول مراكز بحثية مثل Chatham House وRUSI إلى منصات، تقدم توصيات وتبني شبكات علاقات مع المسئولين، وحتى وسائل الإعلام، ما زالت أداة لصياغة الصورة الذهنية وتشكيل الرأي العام، وإن تراجع تأثيره نسبيًا.

وما زالت بريطانيا تلعب بورقة الأقليات، من الأكراد إلى الأمازيغ والدروز، تحت شعار “حماية الهويات”، في استمرار واضح لسياسة “فرّق تسد”. كما تحرص على احتضان شخصيات عربية من نخب سياسية وأكاديمية وإعلامية، لتتحول لاحقًا إلى واجهات محلية لامتداد نفوذها.

بهذا المعنى، بريطانيا ليست مجرد “مقاول سياسي”، تستدعيه أمريكا عند الأزمات، بل قوة استعمارية متجددة، تعمل عبر منظومة كاملة: قواعد عسكرية، عقود اقتصادية، أدوات ثقافية، وعلاقات سرية. صورة تؤكد، أن “المستعمر العجوز” لم يتقاعد، بل ما زال يمارس دوره التاريخي في صياغة حاضر المنطقة ومستقبلها.

توني بلير: المقاول البريطاني في ملف غزة

 تجربة بلير مع اللجنة الرباعية، وصلاته الوثيقة بإسرائيل، وانحيازه العلني للأمن الإسرائيلي، كلها شواهد تجعل من لجنة غزة المقبلة مجرد حلقة جديدة في سلسلة “المقاول البريطاني” الذي استعرضنا أدواره فيما سبق وتجعل من السذاجة انتظار دور مختلف من “المقاول ” المحترف في فنون الاستعمار.

الدرس للعرب، أن يفهموا النمط لا أن ينكروا وجوده. الرد الذكي لا يكون بالصدام المباشر، بل بتفكيك أدوات اللجنة الدولية (المقترحة لإدارة القطاع ): احتكار التمويل، صناعة الواجهات، التلاعب بالخطاب، عندها فقط يتحول “المستعمر العجوز” من حكيم، يُستدعى لإدارة الأزمات إلى عدو تقليدي مكشوف، فقد قدرته على الإيهام والتمويه.