لا يعني المواطن من المؤشرات الاقتصادية، إلا ما يترك أثرا مباشرًا على حياته، فبالنسبة له النمو الأهم هو حجم استهلاكه اليومي من البروتين، وأن يكفي دخله الشهري احتياجاته الأساسية، من مأكل ومشرب ومسكن وملبس وصحة وتعليم، دون الاحتياج إلى المفاضلة بينها، والتخلي عن جزء منها لصالح جزء آخر.

قطاع عريض من الاقتصاديين يؤمن بذلك التصور، فالمؤشر الأهم بالنسبة لهم في السياسات الاقتصادية هو تأثيرها على حياة المواطن، أو بمعنى آخر مستوى المعيشة في مصر، باعتباره يقيس رفاهية المجتمع وقدرة أفراده على تلبية احتياجاتهم الأساسية، والوصول إلى مستوى حياة لائق على مستوى النوعية والجودة.

يقول الموطن أحمد عبد الرازق، موظف، إن أقل أسرة مكونة من 4 أشخاص حاليا، تحتاج ما لا يقل عن 20 ألف جنيه شهريًا من أجل الحياة الكريمة، ضاربا المثل بأسرته، فدخله مع دخل زوجته يُقدر بحوالي 16 ألف جنيه شهريًا، ويعيشان في شقة تمليك، وليست إيجار، ومع ذلك يضطران للتخلي عن كثير من الأساسيات من أجل مواكبة دخلهم لمستويات الأسعار.

على مدار عام، ارتفعت أسعار الحبوب والخبز بنسبة (5.8%)، والأسماك والمأكولات البحرية بنسبة (9.3%)، والألبان والجبن والبيض بنسبة (3.3%)، والزيوت والدهون بنسبة (5.1%)، والفاكهة بنسبة (42.7%)، وأسعار الأغذية السكرية بنسبة (3%)، والبن والشاي والكاكاو بنسبة (5.3%)، والمياه المعدنية والغازية والعصائر الطبيعية بنسبة (16.5%)، بحسب إحصائيات رسمية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

هوة كبيرة في تقديرات المنصات الدولية لمستوى المعيشة في مصر

تبتعد الأرقام التي ذكرها أحمد عبد الرازق كثيرًا عن إحصائيات دولية، ترى أن التكلفة الشهرية لأسرة مكونة من أربعة أفراد في مصر للعيش حياة كريمة في مصر، تلبي جميع الاحتياجات سواء الأساسية أو الرياضية أو الترفيهية أعلى بكثير.

تركز إحصائيات المنصات الدولية على الحياة بالنمط الغربي وليس المصري، فتناول الطعام في المطاعم والتنزه وممارسة الرياضيات وشراء الملابس شهريًا من أساسيات الحياة الغربية، ما يؤدي لفروق كبيرة في تقديراتهم عن واقع المصريين الذين تمثل لهم الأساسيات الأكل والشرب والأقساط والفواتير (المياه والكهرباء والغاز والإنترنت)، وقد يمثل لهم الملبس الجديد رفاهية، لا تحدث إلا مع منحة أو مكافأة أو قبل قدوم العيد.

نيمبو” وهو أهم منصة دولية متخصصة في مستوى المعيشة، يُقسم مصروفات “الأسرة المصرية” إلى 18.4% من دخلها لصالح المواصلات و33.5% لصالح البقالة و4.1% لصالح تكاليف المياه والكهرباء وغيرها من الخدمات، و”الملابس والأحذية” بنحو 5.4% وإيجار الشقة بحوالي 13.3%، أما لو قررت الأسرة، أن تتناول الطعام في الخارج، فستتكبد 18.7% من دخلها، ولو أرادت ممارسة أنشطة رياضية او ترفيهية فستزيد الأعباء 5%.

منصة Expatistan، وهي واحدة من أكبر قواعد بيانات تكاليف المعيشة التعاونية في العالم، تبتعد بتلك الأرقام بعيدًا، إذ ترى أن التكلفة الشهرية المقدرة لعائلة من أربعة أفراد بمصر، لكي تعيش حياة بجميع الخدمات الأساسية والترفيهية، تقترب من 91 ألف جنيه، معتبرة أن التكلفة الشهرية المقدرة للفرد نحو 34 ألف جنيه.

منصة Livingcost، التي تتضمن حسابات لتكلفة المعيشة في 9294 مدينة في 197 دولة حول العالم، ترى أن تكلفة المعيشة للفرد شهريا 384 دولارًا أمريكيًا أي 18,5 ألف جنيه)  وهو أقل بـ 2.98 مرة من المتوسط ​​العالمي، بينما يبلغ متوسط ​​الراتب بعد الضرائب في مصر 141 دولارًا أمريكيًا (أقل من 7 آلاف جنيه)، وهو ما يكفي لتغطية نفقات المعيشة لمدة 0.4 شهر (12 يومًا)، أي أن تكلفة المعيشة في مصر 2.7 مرة أكثر من متوسط ​​الراتب.

علاقة محتدمة بين الدخل والاحتياجات في مصر

لكن الواقع مغاير لتلك الأرقام، إذ تجاهد الأسر المصرية في إدارة العلاقة المتوترة بين الدخل المحدود والنفقات المرتفعة، فاستهلاك 2 كيلو من اللحم الأحمر شهريًا يكلف الأسرة نحو 800 جنيه، ولو كانت تلك الأسرة بدخل واحد فقط، يناهز 8 آلاف جنيه، فهذا يعني أن 2 كيلو لحم يعادلان دخل الأسرة 10%، ولو استهلكت 4 دجاجات وزن 2 كيلو للواحدة فهذا يعني أنها ستستنفد 7.5% من دخلها، ولو تناولت 4 كراتين بيض في الشهر، فسيعادل ذلك 7.5% من الدخل.

قبل 15 عاما فقط، كان سعر كرتونة البيض (30 بيضة) 14 جنيها للمستهلك، وهو سعر أقل حاليًا من ثمن 3 بيضات، وسعر كيلو الدجاج الأبيض بـ 11 جنيهًا، وسعر كيلو اللحوم الحمراء “المشفية بدون دهن” بحوالي 59 جنيهًا، ما يظهر التطور الكبير في الأسعار على مدار السنوات الماضية.

محمد يسري موظف بشركة قطاع خاص ولديه طفل حديث الولادة، يقول إن تناول 3 “سندوتشات” فول بدون أي إضافات تتكلف على أي عربة في الشارع 21 جنيهًا، ما يعني 600 جنيه في الشهر، وهذا الرقم لشخص واحد فقط.

يضيف يسري أن تكاليف الطفل حديث الولادة أصبحت لا تقل عن الشخص البالغ. فعبوة اللبن الصناعي، تقدر بحوالي 290 جنيها، ويستهلك طفله منها حاليا 4 عبوات شهرًيا بحوالي 1160 جنيهًا، بجانب حفاضات بحوالي 400 جنيه، وأدوية الانتفاخات والفيتامينات، أي أن الطفل الذي لا يتجاوز الثلاثة أشهر، احتاج ميزانية تعادل 1500 جنيه.

ترقب لضغوط المستقبل

يبدي الكثير من أصحاب الدخول الثابتة حاليا قلقهم إزاء المستقبل، خاصة مع تزايد الحديث عن زيادة كبيرة متوقعة بأسعار الوقود، وهو ما يعني ارتفاع أسعار مواصلات الركوب وأسعار السلع كلها، إذا شملت الزيادة السولار، وكذلك ارتفاع أسعار الفول والطعمية حال زيادة أسعار أنابيب البوتاجاز.

أحمد خليل، موظف بشركة بوسط القاهرة، يتكبد يوميًا مواصلات بحوالي 70 جنيها، تتضمن توك توك وأتوبيس نقل جماعي، ما يعني موازنة شهرية تتجاوز 2000 جنيه، تعادل بالضبط ربع مرتبه، يضيف: “لو تناولت كوب قهوة في الشهر، وجبت قرصتين من الفرن كده الــ100 جنيه طارت.. ودي مصروفي أنا بس ولسه باقي مصروف البيت”.

يقول خليل، الذي لديه طفلتين في الصف السادس الابتدائي والثانية في الصف الرابع، أن تكاليف اللانش بوكس يوميا لا تقل عن 40 جنيهًا للطفلتين، ما يعادل 1200 جنيه، والدروس الخصوصية في المادة الواحدة أسبوعيًا 60 جنيهًا، بما يعادل 240 جنيهًا في الشهر للمادة الوحدة، ما يعني أن تكاليف الدروس للطفلتين حوالي 2000 جنيه شهريًا”.

يضطر خليل للعمل بوظيفة «كاشير» في مطعم آخر النهار من أجل تلبية احتياجات الأسرة، فالباقي من مرتبة بعد المواصلات والتعليم والدروس الخصوصية لا يتعدى 2000 جنيه فقط، لا تكفي الطعام والشراب والخدمات والإيجار وغيرها، موضحا أن المهنة الإضافية هي التي تسمح له بالعيش على حد الكفاف، ليكون إجمالي الدخل الذي تنفقه الأسرة شهريا، دون أن تدخر جنيها واحدًا حوالي 12 ألف جنيه.

كيف ضرب التضخم القوة الشرائية للمواطن؟

يضرب الخبير الاقتصادي مصطفى عادل مثالًا بتأثير التضخم على القوة الشرائية للمصريين، فالسيارة الزيرو الجيدة كانت بـ 110 آلاف جنيه في 2005، وفي 2025 أصبح سعر أنواع من الهواتف المحمولة بالسوق المحلية أعلى منها، ما يدل على التدني الضخم في القيمة الشرائية للعملة المحلية.

يُدلل عادل على الفكرة ذاتها بالعلاقة بين الراتب والوقود، ففي عام 2014 كان بإمكان المواطن بالحد الأدنى للأجور شهريا، أن يحصل على 1333 لترًا من بنزين 92.. وعلى 150 أنبوبة بوتاجاز، أما في عام 2025 فبإمكان المواطن بالحد الأدنى للأجور الحصول على 405 لترات بنزين 92 وعلى 35 أنبوبة بوتاجاز فقط.

رفعت الحكومة أسعار المحروقات 11 مرة في 9 سنوات ليقفز بنزين 80 من مستوى 1.6 جنيه في أكتوبر 2016 إلى مستوى 15.75 جنيها في 2025 بزيادة قدرها 884%، وبنزين 92 من مستوى 2.6 جنيه إلى 17.25 جنيها للتر بزيادة قدرها 564%.

أشار عادل، إلى أن قدرة المواطن الشرائية تدهورت وعجز الموازنة مستمر والديون والأعباء والتكلفة، وكل خطوة أثرها دائما سلبي على القيمة والقدرة الشرائية للمواطن، مشددًا على أن الحل في الإدارة الاقتصادية الكفء التي تعمل بشكل محترف.

بحسب شهادات المواطنين وخبراء الاقتصاد، فإن الحياة الكريمة في مصر التي تتضمن الاحتياجات الأساسية وقدرا ضئيلا من الترفيه، تحتاج لميزانية شهرية تتراوح بين 20 و30 ألف جنيه شهريًا، فالإيجار يتراوح بين 4 و10 آلاف جنيه، والطعام ما بين 4 و6 آلاف جنيه، والنقل 2000 جنيه، ويتبقى فواتير الكهرباء والمياه والغاز والإنترنت التي تدور في فلك 4 آلاف جنيه، وباقي الدخل يتجه للتعليم والصحة والملبس.