في تصعيد جديد للأزمة البحرية بين مصر وحكومة الوحدة الليبية، أبلغت مصر الأمم المتحدة أنها لا تعترف باتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقع عام 2019 بين تركيا وليبيا، وتعاونهما المشترك للاستكشاف البحري في البحر المتوسط.
ورفضت القاهرة عبر بعثتها الدائمة لدى الأمم المتحدة بشكل قاطع، ما وصفته بـ”الادعاءات الليبية غير القانونية” حول حدود الجرف القاري ومناطق التنقيب عن الهيدروكربونات في المتوسط.
حيثيات الاعتراض
وأكدت مصر، أن المذكرات الليبية الأخيرة تتداخل مع حدودها البحرية الغربية، وتمسّ سيادتها على مياهها الإقليمية وحقوقها الاقتصادية الخالصة، معتبرة أن هذه المواقف تخالف القانون الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
كما جدّدت رفضها لأي تفاهمات بين المؤسسة الوطنية للنفط الليبية والشركة التركية للنفط، بما في ذلك مذكرة التعاون الموقعة في يونيو الماضي، التي تتعلق بأربع مناطق بحرية من بينها “المنطقة 4″، مؤكدة أنها باطلة، ولا تُنتج أي أثر قانوني.
ورغم التفاهمات الأخيرة بين القاهرة وأنقرة بشأن ملفات ثنائية، شددت مصر، على أن هذه التفاهمات “لم تمتد بعد إلى الملف الليبي”، مجددة تمسكها بالتفاوض مع الدول المجاورة حول ترسيم الحدود البحرية على أسس القانون الدولي.
وفقاً لوكالة الأنباء اليونانية، ترفض مصر صراحة حدود الجرف القاري الليبي المعلنة، والمبينة على الخرائط المرفقة؛ لأنها تتداخل مع حدودها البحرية الغربية، إذ تُدين المذكرة ما وُصِف بالحد البحري المعلن شرقاً، باعتباره يقع كُلياً داخل المنطقة البحرية المصرية، ومن ثم ينتهك سيادة مصر على مياهها الإقليمية والمنطقة المتاخمة، فضلاً عن حقوقها السيادية.
تولي المذكرة اهتماماً خاصاً باحتجاج ليبيا على مناقصات واستكشافات جنوب بيلوبونيز، وكريت، حيث ترفض مصر المساس بمنطقتها البحرية.
كما ترفض مصر مذكرة التعاون الليبية التركية، التي تتضمن دراسات جيولوجية ومسوحاً سيزمية في أربع مناطق، من بينها «المنطقة 4» المتقاطعة مع حدود مصر البحرية، لذلك ترفض المذكرة أي آثار قانونية أو عمليات ناجمة عنها، وتعيد التأكيد، على أن مذكرات 2019 و2022 بين تركيا وليبيا “باطلة وبدون أثر قانوني”.
ورغم لهجتها الحادة، اختتمت مصر مذكرتها بالتأكيد على انفتاحها للتفاوض بحسن نية مع دول الجوار؛ للتوصل إلى حلول عادلة لترسيم الحدود، استناداً إلى قواعد ومبادئ القانون الدولي.
وبينما لجأت القاهرة إلى البُعد القانوني عبر الأمم المتحدة؛ لتسجيل اعتراضها الرسمي، تلجأ حكومة الدبيبة لاستخدام الاتفاقيات مع تركيا؛ لتعزيز شرعيتها داخليًا ودوليًا.
ومن المرجح، أن تؤثر هذه الخلافات على مشاريع الطاقة وخطوط الغاز، خاصة في ظل تنافس المحاور الإقليمية: محور مصر– اليونان–قبرص في مواجهة المحور التركي–الليبي.
واستدعت المسألة جدلا برز في وسائل الإعلام الليبية، التي تساءلت عن وجاهة الموقف المصري، ولماذا تعترض على خطوة، أقدمت هي عليها قبل أعوام، وكيف يمكن حسم هذا الخلاف مع الجارة؟
تفاهمات القاهرة وأنقرة
الخلاف المصري– الليبي حول الحدود البحرية، ليس معزولً، عن الصراع الأوسع في شرق المتوسط، فالاتفاق البحري الموقع بين أنقرة وطرابلس في نوفمبر 2019، أثار رفضًا واسعًا من مصر واليونان وقبرص، لاعتباره يقتطع من مناطقها الاقتصادية.
ومع أن القاهرة وأنقرة بدأتا تطبيعًا نسبيًا منذ 2021، إلا أن الملف الليبي ظل نقطة عالقة، إذ ترى مصر، أن التفاهمات البحرية التركية– الليبية تمسّ بشكل مباشر حقوقها السيادية في البحر المتوسط.
وأمام مصر خيارات محدودة، تتضمن مواصلة الاحتجاجات الدبلوماسية عبر تبادل مذكرات احتجاج لدى الأمم المتحدة، أو طلب التحكيم الدولي الذي يتطلب استعدادات فنية وقانونية.
تعني هذه التطورات بوضوح، أن التفاهمات التركية– المصرية، التي شهدت انفراجة نسبية في ملفات ثنائية، لم تنعكس على الملف الليبي، حيث تصر القاهرة على عدم الاعتراف بمذكرات الترسيم البحرية الموقعة بين أنقرة وطرابلس، وتعتبرها مخالفة للقانون الدولي.
ويكشف هذا الموقف عن استمرار حالة التباعد بين القاهرة وأنقرة في التعامل مع حكومة الوحدة، ويعكس إدراك مصر لضرورة تثبيت حقوقها البحرية أولاً في مواجهة ما تعتبره “محاولات ليبية– تركية لتوسيع النفوذ على حسابها”، ما يشير إلى أن مسار التفاهمات بين مصر وتركيا لا يزال متعثرًا في الملف الليبي رغم التحسن النسبي في العلاقات الثنائية.
سياسة الاحتواء
وحتى الآن، أخفقت كل المحاولات والمساعي التي بذلتها القاهرة لاحتواء حكومة الوحدة، منذ توليها السلطة برئاسة عبد الحميد الدبيبة؛ بسبب تضارب التحالفات الإقليمية بين تركيا ومصر، وتباين الأولويات بين القاهرة وطرابلس.
اتبعت القاهرة سياسة احتواء تجاه حكومة طرابلس، بهدف ضمان دور مصري مباشر في ملفات إعادة الإعمار والطاقة وضبط الحدود، بالإضافة إلى تحجيم النفوذ التركي في الغرب الليبي، باعتباره تهديدًا للأمن القومي المصري.
وانعكست هذه السياسة عبر زيارات متبادلة وتفاهمات اقتصادية، مع حرص القاهرة على إظهار نفسها وسيطًا قادرًا على التواصل مع جميع الأطراف، كما أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعم مصر للمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة في مهامها الانتقالية.
ومثلت زيارة رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي، إلى طرابلس في شهر إبريل عام 2021، برفقة وفد رسمي رفيع المستوى، ضم 75 شخصاً من بينهم 11 وزيراً، يمثلون ثلث حكومته تقريبا ً، أول زيارة من نوعها لمسئول مصري رفيع المستوى منذ عام 2011.
وفي ذروة الاندفاع أو الانفتاح المصري غير المبرر سياسيا، لكنه يتضمن الرهان على إمكانية أن تمثل ليبيا جانب المساعدة للخروج من أزمة مصر الاقتصادية، أبرم مدبولي مع الدبيبة سلسلة اتفاقيات، شملت استئناف عمل السفارة المصرية بطرابلس وتسهيل إجراءات العبور والتنقل للمواطنين، إلى جانب فتح الطيران من المطارات الليبية إلى القاهرة، كما اتفق الجانبان على عودة اجتماعات اللجنة العليا المشتركة الليبية المصرية.
لكن هذه الاتفاقيات لم يتم تفعيل معظمها عمليا على الأرض، بعدما فشلت سياسة الاحتواء المصرية لأسباب متعددة، أهمها اعتماد حكومة الدبيبة بشكل أساسي على الدعم التركي، وهو ما يصعب التوفيق بينه وبين شراكة مع القاهرة، واعتراض الدبيبة على ما يصفه بالانحياز المصري للمنطقة الشرقية في ليبيا، حيث يوجد الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، ومجلس النوب، وحكومة الاستقرار الموازية برئاسة أسامة حماد.
وبينما تدفع القاهرة باتجاه مساعي أمريكية وأممية، لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة في ليبيا، تنتج حكومة موحدة، تنهي اقتسام السلطة، تمسك الدبيبة بالبقاء في منصبه، ورفض تزامن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وطالب في المقابل بتخلي الآخرين عن السلطة.
ومع مرور الوقت، خرج الخلاف بين طرابلس والقاهرة للعلن، بعدما طردت حكومة الدبيبة دبلوماسيين مصريين، وطلبت مغادرتهم فورًا بعد استقبال القاهرة مسؤولي الحكومة الموازية.
كما اندلعت حملات إعلامية متبادلة؛ بسبب الخلاف حول رئاسة وزيرة خارجية حكومة الوحدة نجلاء المنقوش جلسة الجامعة العربية، ما دفع وفد مصر لمغادرتها؛ اعتراضًا عليها، باعتبارها تمثل حكومة “منتهية الولاية”، حيث وصفت القاهرة حكومة الدبيبة، بأنها غير شرعية، ولا يحق لها تمثيل ليبيا.
لكن حكومة الوحدة جادلت بشرعيتها، وادعت في المقابل، أن ولايتها معترف بها دوليًا، وأن رئاستها للجلسة قانونية وفق نظام الجامعة العربية.
مخاوف المواجهة
وفيما تراوح العلاقات بين القاهرة وطرابلس مكانها دون حسم قريب، ثمة مخاوف من تصعيد تركيا عبر إرسال سفن تنقيب إلى المناطق البحرية المتنازع عليها، ما قد يفتح الباب أمام مواجهة سياسية، أو حتى بحرية في شرق المتوسط.
تميل القاهرة في هذا الملف إلى إظهار موقف متقارب مع اليونان، التي طالب رئيس حكومتها كيرياكوس ميتسوتاكيس، باتفاق عادل وقانوني لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا.
وفي اعتراضهما المشترك على اتفاقات الترسيم التركية- الليبية، تعتبرها القاهرة وأثينا مسّاسا بحقوقهما في المتوسط.
لكن هذا التحالف الجزئي مصحوب بمخاوف من احتمال اندلاع مواجهة عسكرية بين تركيا واليونان، في حال تصاعد النزاع البحري، حيث لا يبدو سيناريو التصادم مستبعدًا.
في كل الأحوال، ينبغي إعادة النظر في التفاهمات المصرية– التركية، التي فشلت في حل القضايا المعقدة مثل ليبيا والحدود البحرية، ما يفتح احتمالات لاستمرار التوتر وتداعياته السلبية.