على مدى عامين من حرب غزة، تباينت ردود الفعل الشعبية والرسمية بين العالم العربي والغربي.
استجابتان متوازيتان متناقضتان تقريبا، الأولى، غربية استطاعت أن تنقل الغضب الشعبي إلى ساحات مؤسسية (جامعات. محاكم. برلمانات. نقابات)، واستجابة عربية ظلت أسيرة الشارع والفضاء الرقمي، مقيدة بالقمع الأمني والقيود السياسية.
في الغرب، تحولت التظاهرات إلى حملات سحب استثمارات، وملفات قانونية في المحاكم الدولية والوطنية، ,ضغوط تشريعية واقتصادية على الحكومات والشركات.
أما في العالم العربي، فقد بقى التعبير محصورا بين مظاهرات مقموعة وحملات تضامن إنسانية ومقاطعة شعبية واسعة، لا ترقى في النهاية إلى مستوى القرار الرسمي، ولا تطلعات الشعوب التي أوجعها العدوان في الصميم.
نتتبع هنا هذه التحولات بتبايناتها المختلفة على مدار عامين، واختلاف أدوات التعبير بين الغرب والعرب، وصولا إلى تحليل موقع الشارع الخليجي في هذه المعادلة الصعبة.
خط زمني للتحولات
على امتداد عامين، في الغرب، كان الغضب من الحرب على غزة ينمو من تظاهرات في الشارع على أيدي جاليات عربية نشطة، وحقوقيين إلى أدوات ضغط مؤسسية، بينما ظل العالم العربي يدور في حلقة مفرغة، صاخبا في المنصات الرقمية، لا يجرؤ على الخروج إلى الميادين، ويختزل غضبه في مبادرات إنسانية رمزية.
في أمريكا وأوروبا، انطلقت الشرارة الأولى من الجامعات في خريف 2023، حين تحولت احتجاجات الطلاب إلى اعتصامات مفتوحة، رفعت سقف المطالب من التضامن الأخلاقي إلى مستوى سحب الاستثمارات.
جامعة سان فرانسيسكو قررت سحب استثماراتها من أربع شركات أسلحة متعاقدة مع الجيش الإسرائيلي بعد ضغوط طلابية مستمرة.
صناديق التقاعد الهولندية باعت أسهما مرتبطة بإسرائيل مثل، موتورولا واير بي أند بي؛ استجابة لمخاوف حقوقية.
وكذا باع الصندوق الهولندي حصته في شركة كاتربيلر التي شاركت في أنشطة في مناطق نزاع مشيرا الى غزة.
التحول الأوضح جاء من أوروبا الشمالية، صندوق الثروة النرويجي في أغسطس 2025، أعلن أنه باع حصصه في 11 شركة إسرائيلية، وأوقف التعامل مع مدراء أصول خارجيين بدون استثمارات إسرائيلية.
هذه الأمثلة تظهر أن سحب الاستثمارات ليس محصورًا فقط في الجامعات، بل امتد إلى الصناديق الكبرى الوطنية وصناديق التقاعد، ما أعطاه بعدًا مؤسسيًا واقتصاديًا ذو تأثير، وإن لم نعثر على إحصاء متكامل لإجمالي القيم الاقتصادية لإعطائها بعدا كميا واضحا.
وكالات التصنيف التقطت الإشارة، خلال عام 2024، خفّضت موديز وستاندرد أند بورز التصنيف الائتماني لإسرائيل، وأبقت نظرة مستقبلية سلبية، ما يعني ارتفاع تكلفة الاقتراض واشتراط المستثمرين علاوة مخاطر أكبر.
ومع انسحاب رؤوس الأموال المؤسسية، وتقلص تدفقات الاستثمار الأجنبي، بدأت إسرائيل تدفع الثمن في السوق التي طالما اعتمدت على ثقة الغرب.
القرارات السابقة خلقت، ما يشبه “العدوى الأخلاقية”، فكل مؤسسة تتخارج تمنح الأخرى مبررًا للانسحاب، ومع أن حجم هذه الأموال لا يُقارن بحجم الاقتصاد الإسرائيلي الكلي، إلا أن الأثر الحقيقي يقع على السمعة والمناخ الاستثماري.
الشركات العالمية باتت أكثر حذرًا من الارتباط بإسرائيل، خشية رد فعل الرأي العام أو إدراجها في قوائم الانتهاكات.
في العالم العربي، بدا المشهد مختلفا تمامًا، التظاهرات الكبرى التي اندلعت في الأردن والمغرب وتونس، سرعان ما واجهت الحصار الأمني.
ومع غياب الغطاء السياسي، تحولت ردود الفعل إلى حملات مقاطعة شعبية أو تبرعات إنسانية.
في 2024 و2025، ظلّت هذه الحملات تتكرر دون أن تجد طريقها إلى سياسات رسمية أو تشريعات واضحة.
الزمن العربي بدا دائريًا، يبدأ في الشارع أو على تويتر، يعلو صوته أيامًا، ثم يتبدد في خطاب إنساني عام أو صمت رسمي.
وهكذا، بينما رسّخ الغرب أدواته عبر الجامعات والبرلمانات والمحاكم، اكتفى العرب بترسيخ صورة التضامن العاطفي دون قدرة على مأسسته.
وبينما الزمن الغربي يتصاعد نحو الفعل، ظل الزمن العربي يعود إلى نقطة الصفر كل مرة، وتوسعت الفجوة في فكرة القدرة على الفعل، ففي الغرب، جات المقاطعة عبر الجامعات والصناديق، واستهدفت شركات السلاح والتكنولوجيا والاستثمار، أي قطاعات تمس مباشرة القدرات الإسرائيلي، في العالم العربي، المقاطعة ظلت شعبية ومرتبطة بالمستهلك الفرد، بلا دعم رسمي أو مؤسسي.
وتُظهر مقارنة العامين الماضيين، أن الفرق الجوهري بين الغرب والعرب لم يكن في حجم الغضب، بل في الوسائط التي حملت هذا الغضب، وكيفية تحويله إلى ضغط فعلي.
في الغرب، انطلقت الشرارة من الشارع، كما هو حال الحركات الاحتجاجية، لكن الغضب لم يتوقف عند الميادين، سرعان ما انتقل إلى الجامعات، حيث تحولت الاعتصامات الطلابية إلى أداة ضغط مؤسسية، أجبرت إدارات أكاديمية كبرى على سحب استثمارات أو مراجعة عقود، ثم تمدد المشهد إلى النقابات المهنية والمجالس المحلية، وصولًا إلى البرلمانات.
هكذا تدرج المسار الغربي، من الشعار في الميدان، إلى القرار في قاعة البرلمان، أو الحكم في المحكمة.
الوسائط هنا لم تكن مجرد قنوات للتعبير، بل جسورًا تربط الشارع بالمؤسسة، وتسمح بتحويل العاطفة إلى فعل سياسي واقتصادي وقانوني.
أما في العالم العربي، فقد اصطدم الغضب الشعبي بجدار القمع، التظاهر في الشارع واجه المنع أو التفريق، فتراجع التعبير إلى الفضاء الرقمي، حيث تحولت الهاشتاجات والفيديوهات إلى “الساحة الأبرز” لإظهار الغضب.
صحيح، أن هذا الفضاء أعطى متنفسًا واسعًا، لكنه ظل منفصلًا عن دوائر القرار، ما جعل أثره رمزيًا أكثر منه مؤسسيًا.
البديل الوحيد المتاح كان المقاطعة الاستهلاكية والتبرعات الإنسانية، وهي أدوات ذات قيمة رمزية عالية، تعكس الرفض الشعبي، لكنها لا تُقارن بالضغط المباشر الذي تمارسه قرارات المحاكم أو الجامعات في الغرب.
الخلاصة، أن الوسائط الغربية بُنيت على ممرات مؤسسية قادرة على التأثير في القرار، بينما الوسائط العربية، بقيت معلقة في الهواء، صاخبة، مؤثرة عاطفيًا، لكنها بلا جسور نحو السلطة.
البعد القانوني والاقتصادي
أحد أبرز وجوه التفاوت بين الغرب والعالم العربي في التعامل مع الحرب على غزة، هي استطاعة الغرب، أن يحوّل الغضب الشعبي إلى أدوات قانونية واقتصادية لها وزن مباشر، ظلّ العالم العربي محصورًا في دائرة المبادرات الرمزية.
في الغرب، لعب القضاء دورًا حاسمًا؛ المحاكم الوطنية في بعض الدول الأوروبية، قبلت دعاوى ضد مسئولين إسرائيليين بتهم جرائم حرب، بينما مضت المحكمة الجنائية الدولية في فتح ملفات تحقيق رسمية.
هذه الخطوة أعطت للحراك الشعبي ثقلاً قانونيًا، وأضفت على الاحتجاجات مشروعية تتجاوز الشعارات.
على الجانب الآخر، برز الاقتصاد كأداة، الجامعات وصناديق التقاعد في أوروبا والولايات المتحدة تخلت عن مليارات الدولارات، من استثماراتها في شركات أسلحة أو مؤسسات مرتبطة بالاحتلال.
لم يعد الضغط مجرد هتاف في الشارع، بل أصبح خسارة مالية لشركات بعينها، ورسالة واضحة، أن الرأي العام قادر على تحويل استنكاره إلى كلفة اقتصادية ملموسة.
في المقابل، ظلّ العالم العربي بعيدًا عن هذا المسار، الأنظمة لم تسمح بانخراط المحاكم الوطنية في أي قضايا ضد إسرائيل، ولم تجرؤ مؤسسات عربية كبرى، سواء جامعات أو صناديق استثمار على إعلان سحب أموالها من الشركات المتورطة.
أقصى ما تحقق هو المقاطعة الشعبية للمنتجات، أداة أخلاقية قوية، لكنها محدودة اقتصاديًا، إذ إن صادرات إسرائيل المباشرة إلى الأسواق العربية ضئيلة أصلًا. ولذلك، فإن أثر المقاطعة بقي رمزيًا بالأساس، يعكس غضب الشارع، لكنه لا يُربك حسابات الشركات أو الحكومات.
النتيجة، أن الغرب أعطى مثالًا على كيفية تحويل الأخلاق إلى تشريع ومال، بينما ظل العرب أسرى مستوى أخلاقي رمزي بلا أدوات مؤسسية داعمة.
سقف الحرية.. وحدود الحركة
إذا كان الغرب والعرب قد تشاركوا في الغضب من مشاهد الحرب على غزة، فإن الفارق الحقيقي، والتباين الواضح، يتبدى بين قمع شامل، يخنق أي مسار تصاعدي في العالم العربي، وقمع انتقائي في الغرب، يترك هامشًا يسمح بتحويل الاحتجاج إلى فعل مؤسسي.
في العالم العربي، كانت السلطة أسرع من الشارع، التظاهرات التي خرجت في عمّان أو تونس أو الرباط جرى تفريقها، وأي محاولة لتكرارها، قوبلت بتشدد أمني.
الإعلام المحلي التزم بسقف منخفض، يكتفي بالخطاب الإنساني أو البيانات الرسمية، بينما غُيّبت صور الميادين والاحتجاجات من الشاشة.
وحتى الفضاء الرقمي لم يسلم؛ فهناك مستخدمون تعرضوا للملاحقة؛ بسبب تغريداتهم، وحُجب محتوى أو وُجّهت حملات منظمة لإخماد الأصوات الناقدة.
والنتيجة، أن الغضب الشعبي ظل حادًا، لكنه محاصر بين جدران الأمن والإعلام والرقابة.
أما في الغرب، فاختلف المشهد، صحيح أن الشرطة فرّقت اعتصامات طلابية في نيويورك أو باريس، واعتقلت مئات المتظاهرين، لكن القمع ظلّ انتقائيًا ومحدود المدى.
الجامعات لم تُغلق أبوابها بالكامل، والمحاكم لم تحظر القضايا، والبرلمانات لم تصمت أمام الضغوط.
الإعلام أيضًا، رغم انحيازات واضحة في بعض المنابر، سمح بتغطية واسعة للنقاش والاعتصامات.
هذا الهامش جعل الحراك مستمرًا؛ فبدل أن يتوقف عند الصدام الأول مع الأمن، واصل طريقه إلى المؤسسات.
السرديات المتنافسة
الحرب على غزة لم تُخَض بالصواريخ وحدها، بل بالسرديات أيضًا، فلكل فضاء عام لغته التي يستخدمها لتأطير الصراع، ولتحديد من هو المعتدي، ومن هو الضحية، وهنا يظهر بوضوح الفارق بين السرديات الغربية والعربية.
في الغرب، دارت المعركة داخل ثنائية واضحة.
“حقوق الإنسان والقانون الدولي” في مواجهة “معاداة السامية”.
الخطاب التضامني ركّز على أن ما يحدث في غزة جريمة حرب وانتهاك للقانون الدولي، لكن هذا الزخم اصطدم دائمًا بتهمة جاهزة، أي انتقاد لإسرائيل يمكن أن يُفسَّر كمعاداة لليهود، وهكذا، منح الخطاب الغربي القضية قوة قانونية، لكنه في الوقت نفسه كبّل النقاش وأدخله في معركة أخلاقية جانبية.
أما في العالم العربي، فالسردية الشعبية ارتكزت على القدس والأقصى كرمز جامع، ما جعل القضية، تُقدَّم بوصفها معركة هوية ودين تتجاوز حدود السياسة.
في المقابل، جاء الخطاب الرسمي بلغة إنسانية ناعمة، حديث عن الإغاثة وحماية المدنيين، من دون تسمية إسرائيل كمسؤول مباشر.
ازدواجية صارخة بين شعوب تصوغ خطابًا جذريًا، يحمّل إسرائيل المسئولية كاملة، وحكومات تلتزم خطابًا مخففًا، يفرغ القضية من بعدها السياسي.
الفارق، أن الغرب خاض صراعًا بين سردية قانونية وسردية اتهامية، بينما العالم العربي ظلّ ممزقًا بين سردية شعبية، لا تملك أدوات تنفيذ، وسردية رسمية تفتقد العمق السياسي.
الشارع الخليجي.. حالة خاصة
إذا كان الشارع العربي عمومًا قد عبّر عن غضبه عبر مظاهرات أو مقاطعة أو فضاء رقمي صاخب، فإن الشارع الخليجي شكّل حالة فريدة، غضب عميق مكبوت ميدانيًا، وصاخب رقميًا إلى أقصى حد.
في مدن الخليج لا تظاهرات كالتي شهدتها عواصم عربية أخرى، ليس لأن المزاج الشعبي مختلف، بل لأن القوانين والإجراءات الأمنية، جعلت أي فعل جماهيري في الشارع شبه مستحيل.
هنا انتقل الغضب مباشرة إلى منصة إكس “تويتر” ومنصات رقمية أخرى، حيث تصدرت الوسوم المؤيدة لفلسطين الترندات يوميا، وتحولت الحسابات الخليجية الكبرى إلى منصات حشد للرأي العام.
اللغة التي ظهرت لم تكن إنسانية فقط، بل دينية، الأقصى، القدس، الأمة، ما جعل القضية أقرب إلى معركة مصيرية، تخص الهوية الإسلامية أكثر من كونها نزاعًا سياسيًا.
الأهم كان ما أنتجه هذا المشهد من ازدواجية..
فعلى المستوى الرسمي، واصلت بعض الحكومات مسار التطبيع أو الحياد الحذر، وأبقت على العلاقات الاقتصادية والأمنية مع إسرائيل.
وفي المقابل، ظلّ المزاج الشعبي في الخليج رافضًا بقوة، رافضًا للتطبيع، ورافضًا لأي تبرير لإسرائيل.
هذه الفجوة دفعت الحكومات إلى تعويض رمزي عبر التضخيم الإعلامي لجهود الإغاثة والمساعدات الإنسانية، حتى تُظهر للشعوب، أن الموقف الرسمي لا ينفصل عن معاناة غزة، ولو بشكل إنساني فقط.
الشارع الخليجي إذن لم يكن غائبًا، بل موجود بقوة في الفضاء الرقمي، وحاضرا رمزيًا عبر الخطاب الديني والتبرعات، لكنه ظل مكبوتًا سياسيًا، لا يملك القناة المؤسسية التي تحوّل غضبه إلى فعل سياسي، ولا يستطيع حتى النزول للشارع، كما في بعض الدول العربية، وهذا ما جعله “حالة خاصة”.
وماذا عما هو قادم؟
عامان من حرب غزة، كشفا بوضوح، أن الرأي العام لم يعد كتلة صامتة في الغرب، خرج الغضب من الشارع إلى قاعات الجامعات والبرلمانات والمحاكم، وأنتج ضغطًا مؤسسيًا قابلاً للقياس، مليارات من الاستثمارات سُحبت، تشريعات نوقشت، وقضايا قانونية فُتحت.
إسرائيل لم تفقد الدعم السياسي الغربي، لكنها فقدت حصانتها الأخلاقية، وصارت تواجه تكلفة متنامية لسياساتها.
في العالم العربي، ظلّ الغضب الشعبي متدفقًا لكنه مُحاصر، التظاهرات قُمعت، المقاطعة بقيت فردية وشعبية، والمبادرات الإنسانية تحولت إلى البديل الوحيد الآمن. النتيجة أن الشارع العربي أكد رفضه للتطبيع، لكنه لم ينجح في فرض كلفة حقيقية أو تعديل مسار رسمي.
الخليج، جسّد التناقض بأوضح صوره، شعوب ترفع صوتها في الفضاء الرقمي، وتربط القضية بالهوية والدين، في مقابل دول تواصل علاقاتها مع إسرائيل مع تعزيز خطاب المساعدات؛ لتخفيف الضغط الشعبي، والسؤال المفتوح أمام السنة الثالثة، هو هل يستمر هذا التباين ليترك صورة إسرائيل محاصَرة في الغرب، لكنها مطمئنة في محيطها العربي؟ أم أن حدثًا استثنائيًا قد يكسر هذه المعادلة، ويفرض على الأنظمة العربية، أن تترجم الغضب الشعبي إلى فعل سياسي؟