يمثل السودان حالة معقدة من التفاعل بين إرث الدولة المركزية والتحولات السياسية المعاصرة، إذ أصبحت الأزمات انعكاسات لمشكلات بنيوية، تراكمت منذ استقلال السودان في عام 1956. لطالما اتسمت الدولة السودانية بالتركيز على السلطة في الخرطوم مع تجاهل نسبي للتنوع الإثني والديني والثقافي الكبير، وقد أدى هذا النمط من المركزية إلى شعور مستمر بالإقصاء والهامشية في العديد من المناطق الطرفية سواء في دارفور أو النيل الأزرق أو جنوب السودان أو شرق السودان، وحتى في بعض أحياء العاصمة، وهو ما شكل جزءًا من أسباب استمرار الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على مدى عقود.

مع التطورات المتسارعة بالسودان لم تعد الأطر التحليلية مجرد أدوات لفهم الماضي، بل تحولت إلى أدوات عملية، جرى توظيفها في السياسة المعاصرة. ومن بين المفاهيم التي برزت في النقاش العام خلال العامين السابقين مصطلح “دولة 56” أو “دولة الجلابة” (جلابة تعني أصحاب الأملاك أو الأغنياء) ويشير إلى الدولة التي تأسست بعد الاستقلال بوصفها مركزية ونخبوية، وهي رؤية صاغها بعض السياسيين والمعارضين لتفسير الإقصاء التاريخي والهامشية التي شعروا بها. هذا المصطلح رغم أنه أصبح شائعًا، لا ينبغي التعامل معه، على أنه وصف موضوعي، بل هو تفسير سياسي ونقدي، استخدم لأغراض مختلفة، وأصبح اليوم أداة لتبرير بعض المواقف السياسية.

إرث الدولة المركزية والنخب السودانية بعد الاستقلال:

تعود جذور المركزية في السودان إلى فترة ما بعد الاستقلال، حيث ارتكزت الدولة على تمركز السلطة في الخرطوم لضمان وحدة البلاد. وقد أسهمت هذه السياسة في هيكلة مؤسسات الدولة وإدارة الموارد بطريقة مركزية، لكنها في الوقت ذاته، أوجدت شعورًا بالإقصاء والهامشية لدى مناطق الطرف، وهو شعور تعزز عبر عقود من الاحتجاجات والصراعات في الجنوب ودارفور والنيل الأزرق.

من المهم، التوضيح أن الانتقادات الموجهة للنخب السودانية بعد الاستقلال، غالبًا ما تغفل السياق التاريخي لتكوينها. فقد اعتمد البريطانيون أثناء الاستعمار على فئات تلقوا تعليمهم؛ بهدف إعدادهم للوظائف الحكومية، وليس للحكم أو السلطة، ولم يكن اختيارهم على أساس قبلي، كما يصنف بعض المعارضين، بل كانوا يمثلون جزءًا كبيرًا من سكان السودان، في وقت كانت فيه مكونات أخرى أكثر انغلاقًا. وبذلك، فإن مشاركة هذه الفئات والمجموعات في السلطة بعد الاستقلال، كانت نتيجة طبيعية لا يحمل وزرها السودانيون أو تلك النخب.

لقد اجتهدت جميع الأنظمة السودانية السابقة في إشراك هذه الفئات والمجموعات في صناعة القرار، وبذلت جهودًا حقيقية لتعزيز التمثيل وتخفيف الإقصاء، إلا أن هناك عوامل خارجية وداخلية تعمل بشكل دؤوب على إثارة الاحتقانات وتكريس الانقسامات، مما يفشل أي مسعى لتوحيد الصف الوطني. هذه الحقيقة تعكس تعقيد المشهد السياسي في السودان حيث يتشابك الإرث التاريخي للنخب مع الديناميات المعاصرة للصراع على السلطة والموارد.

توظيف الخطاب النقدي للدولة:

مع استمرار الحرب والأزمات بعد إبريل 2023، بدأ الدعم السريع وحلفاؤه، من أبرزهم الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، توظيف الأفكار النقدية للدولة في سياق عملي، وهو ليس بجديد على عبد العزيز الحلو الذي يدير مناطق مسيطر عليها منذ عقود في جنوب كردفان، وعاصمتها (مدينة كاودا) هذا الأمر قائم على محاكاة هياكل الدولة الرسمية؛ بهدف تعزيز شرعيتهم على الأرض. وقد تجلّى هذا التوجه بوضوح في خطاب 4 أكتوبر 2025، الذي ألقاه قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” ومحمد التعايشي، رئيس وزراء الحكومة الموازية الموالية للدعم السريع، حيث تجاوز الخطاب الانتقاد التقليدي لنظام البشير والإسلاميين إلى مناهضة الدولة السودانية الحديثة التي تأسست عام 1956.

تم تسويق هذا الطرح من خلال ربطه بمطالب تاريخية محددة مع التأكيد على المظلومية والإقصاء، لكن مع تجاهل أن المعاناة في السودان ليست وليدة اللحظة، بل هي أزمات مستمرة، يعاني منها جميع السكان، سواء في دارفور أو شرق السودان أو جنوبه ووسطه، وحتى في الخرطوم. وهذا الخطاب يعيد إنتاج تجربة سبق أن غذّت استمرار الحرب في جنوب السودان التي انفصلت جغرافياً، وأصبحت إحدى أفقر الدول، واستمرت معاناتها رغم كل الخطابات عن المظلومية والتحشيد ضد الدولة على جميع الحكومات والأنظمة المتعاقبة سواء كانت عسكرية أو مدنية ومن مختلف التوجهات السياسية.

تعكس التوجهات التقسيمية الحالية محاولة لإعادة إنتاج خطاب وحدوي شكلي، يشبه ما استخدمه الراحل د. جون قرنق “زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان”، لكنه في الممارسة الفعلية يعزز الانقسامات، ويستغل المظالم التاريخية والشعور بالإقصاء للتعبئة ضد الدولة ومؤسساتها، أيًا كانت الأخطاء أو التقصيرات، سواء المتعلقة بالفقر أو البطالة أو ضعف الخدمات أو الانفلات الأمني. ويتم تحميل المسئولية الكاملة للسلطة الرسمية دون الاعتراف بتعقيدات النظام أو الجهود المبذولة للإصلاح، وهو ما يكرس الانقسام، ويجعل أي محاولة لإعادة الدولة إلى مسارها الطبيعي أكثر صعوبة.

تترتب على هذا الواقع نتائج مباشرة على المستويين السياسي والاجتماعي منها تعزيز سيطرة الفاعلين الموازين على الأرض والموارد، وترسيخ الانقسام، واستمرار استخدام خطاب نقدي لتبرير مؤسسات موازية وتقويض المؤسسات الرسمية. إن مواجهة هذا الواقع تتطلب مقاربة متوازنة، تشمل تعزيز الشرعية وإصلاح المؤسسات وتمكينها من التمثيل العادل ومواجهة السرديات الموازية بخطط تواصلية دقيقة؛ لتوضيح دور الدولة ومصالحها وفتح قنوات تفاوضية تدريجية لتقليل تأثير السلطات الموازية مع تحويل الخطاب التاريخي الرمزي من أداة للصراع والانقسام إلى أداة للإصلاح المؤسسي والوحدة الوطنية.

بهذه الطريقة يمكن أن يسمح فهم استخدام الأفكار النقدية للدولة اليوم، بما في ذلك السياق الذي أفرز مصطلح “دولة 56” أو (الجلابة)، برؤية أعمق لكيفية تطور الصراع السياسي في السودان بعد 2023، ويوفر قاعدة لتحليل استراتيجيات الإصلاح وتعزيز الوحدة الوطنية مع التركيز على الدور التاريخي للنخب والواقع الاقتصادي والاجتماعي، والدور الذي تلعبه القوى الموازية في إعادة إنتاج الانقسامات على الأرض.