عندما جاء ضباط الجيش إلى السلطة عند منتصف القرن العشرين، أعلنوا موقفاً، لكن سلكوا عكسه على أرض الواقع، أعلنوا من بين أهداف ثورتهم الستة: إقامة حياة ديمقراطية سليمة. وكان هذا المطلب، بتلك الصياغة، يعني أنه كانت توجد ديمقراطية قبلهم، ولكنها كانت ديمقراطية معيوبة أو معطوبة أو بتعبيرهم غير سليمة، وكان هناك إجماع عام في تلك السنوات، أن الديمقراطية التي جاءت مع ثورة 1919 عقمت وعقرت وجف ماء الحياة في عروقها حتى ماتت أو كادت. ثلاثون عاماً أو أكثر من النضال العظيم منذ اندلعت ثورة المصريين المجيدة في مارس وإبريل 1919، حتى خرج الضباط من الثكنات عند منتصف الليل، فما أصبح الصباح حتى كانوا دشنوا عهداً جديداً، وأغلقوا الباب وراء حقبة انتهت كل أركانها: الملك، الملكية، الدستور، الأحزاب، الطبقة، المنظومة بكاملها كانت قد وصلت إلى طريق مسدود، بعد أن أدت مهماتها التاريخية: 1- المهمة الأولى، إنجاز مطلب الاستقلال عبر النضال السلمي التدريجي بما في ذلك التفاوض مع الاحتلال، ثلاثة عقود من النضال بين ثورة الشعب 1919 وثورة الجيش 1952، ثورة الشعب زرعت ورعت وكفلت وأنضجت شجرة الاستقلال، ثورة الجيش حصدت ثمرة ما زرعته ثورة الشعب التي لا تعود فقط إلى ثورة 1919، وإنما تعود إلى الحلقة الأسبق في النضال الوطني أي الثورة العرابية 1881، فهي كانت الأساس الذي منه انطلقت الحركة الوطنية في مسارين متكاملين: النضال ضد الأجنبي، النضال ضد الاستبداد المحلي، فالاستقلال الذي تحقق عند جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر في 16 يونيو 1965، كان ثمرة نضال المصريين على امتداد ثلاثة أرباع قرن، ولم يكن بأي حال من الأحوال ثمرة نضال الضباط الأحرار في أربع سنوات. 2- المهمة الثانية التي أنجزتها الفترة الديمقراطية عقب ثورة 1919 هي بناء مرافق الدولة الحديثة مثل الجامعة المصرية، مثل تمصير القانون، مثل تحرير القضاء من العنصر الأجنبي، مثل إنهاء الامتيازات الأجنبية، مثل بناء أسس الاقتصاد الوطني من بنوك وصناعات ناشئة ومنظومة قوانين حديثة، مثل إرساء المفاهيم السياسية الكبرى: الأمة مصدر السلطات وليس الملك، السيادة للشعب وليست لأحزاب القصر الفاسدة، لا سلطان للحكومة على البرلمان، البرلمان صوت الشعب في مواجهة الملك، استقلال القضاء له قداسة، سيادة القانون فوق الجميع بما في ذلك الملك، الجامعات قاطرة النهضة، القضاء حصانة الحقوق والحريات، النقابات المهنية والعمالية ملاذات وحصون لأصحابها، حريات التعبير والتنظيم والاجتماع والتظاهر، باختصار شديد: فترة الثلاثين عاماً بين ثورة الشعب 1919 وثورة الضباط 1952، كانت المعمل والمختبر والمسرح والملعب التاريخي الذي تمرن فيه المصريون- لأول مرة في التاريخ- على ممارسة الديمقراطية الغربية على النموذج البريطاني، حيث ملك وبرلمان من غرفتين وحكومة مسئولة أمام البرلمان وصحافة حرة وقضاء مستقل، وجامعات تعمل وفق المعايير العالمية المتقدمة، كانت تمارين عملية وتدريبات تطبيقية، بالقطع كانت مفيدة ونافعة، لكنها لم تكتمل، لم تنضج.
وصلت البروفة الديمقراطية إلى انسداد مغلق لعدة أسباب: 1- فلم يكن الملك فؤاد ثم نجله فاروق قادرين على التخلي عن فكرة أن مصر ليست غير ضيعة خضراء مملوكة بالوراثة لذرية محمد علي باشا جيلاً وراء جيل، ولم يدخر الأب ثم الابن جهداً في انتهاك الدستور، ومحاربة الإرادة الشعبية ممثلةً في حزب الوفد، واصطناع أحزاب ورقية ليس لها رصيد لدى الشعب، وكل ذلك انتهى بأن فقدت التجربة الديمقراطية احترامها لدى الشعب، وساءت صورة الأحزاب في وعي الرأي العام، وتدهورت شرعية النظام بكامل هيئته في أعين المصريين، فلما أزاحه الضباط في ظلام الليل، فرح المصريون عند طلوع النهار. 2- الديمقراطية الكاملة تعني شرط توفر السيادة الوطنية كاملة، ومصر كانت تملك سيادة ناقصة مع وجود قوات الاحتلال في منطقة القناة ومع الدور الاستعماري الذي يلعبه السفير البريطاني في الشؤون الداخلية المصرية، كان السفير البريطاني يتعامل مع ملك مصر تعامل الكبار مع الأطفال، ومع السيادة الناقصة كانت الدولة المصرية بين الثورتين مجرد جهاز كبير لإدارة الشؤون المحلية، حتى وهي عضو معترف به في عصبة الأمم، ثم في الأمم المتحدة، ولما كانت السياسة المصرية مجرد إدارة شؤون محلية، فإنها- من الناحية العملية- باتت مجرد لعبة، يتداول عليها أحزاب تسعى إلى السلطة ومنافع السلطة، وباتت هذه اللعبة السخيفة تتكرر المرة تلو المرة، حتى كانت الحكومات قصيرة العمر قليلة الأثر فاقدة الهيبة، حتى سقط النظام. السؤال: لماذا لم يحقق ضباط يوليو وعدهم بإقامة حياة ديمقراطية سليمة؟ هذا سؤال ضد منطق الأشياء، سؤال ضد الطبيعة، الضباط لم يأتوا للحكم من مؤسسة سياسية ديمقراطية، لكن جاؤوا من مؤسسة عسكرية انضباطية صارمة، فلم تكن الديمقراطية يوماً من أفكارهم، ولا من تقاليدهم باستثناء اثنين منهم وهما: يوسف صديق وخالد محيي الدين، وتم التخلص منهما في وقت مبكر، ثم التوافق البريطاني- الأمريكي الذي غض البصر عن حركة الضباط حتى تتمكن. لم تكن الديمقراطية من شواغلهم، كانت شواغل الإنجليز والأمريكان، أن يكون في مصر نظام حكم قوي قادر على بسط الاستقرار والأمن فيها، باعتبارها قلب الشرق الأوسط، ثم يكون فيها نظام قوي موثوق فيه من الشعب، يستطيع التوصل إلى اتفاق جلاء مع الإنجليز، ويلتزم به ويقبله الشعب، ثم يكون فيها نظام موالي يقف مع الغرب ضد الشيوعية والنفوذ السوفيتي، ثم يكون فيها نظام يقبل المصالحة ثم السلام مع إسرائيل، وقد أجاد الضباط لعبتهم التي هي تخصصهم الأساسي سواء في الدراسة في كليات الحرب، أو في التطبيق العملي على جبهات القتال، هذا التخصص هو الاستراتيجية والتكتيك، فهم على حداثة أعمارهم اتقنوهما معاً، اتقنوهما وهم يكسبون الشعب، ثم اتقنوهما وهم يهدمون النظام القديم طوبة طوبة، ثم اتقنوهما وهم يخادعون الإنجليز والأمريكان، وفي نهاية المطاف أسسوا نظاماً جديداً تماماً، ليس على نمط الديمقراطيات الغربية، نظام جديد: خليط من ديكتاتورية مستجدة، مع بقايا ديمقراطية آفلة، مع قبول شعبي، مع إعجاب إقليمي، مع حضور دولي، نموذج جرى تقليده في سوريا والعراق والسودان والجزائر وليبيا واليمن، أزعج النظم القديمة، والتحم بموجة التحرر من الاستعمار في كثير من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
…………………………………
السؤال هنا: لماذا حدث ما يشبه توافق على أمرين:
أن الديمقراطية يمكن الاستغناء عنها.
وأن الديكتاتورية لا مانع من تجريبها.
الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.