كان يراودني الأمل في أن يكون إعادة مشروع قانون الإجراءات الجنائية من قبل رئيس الجمهورية، يعبر عن مرحلة جديدة في التعاطي مع ذلك المشروع، والذي يمثل خط التماس الأول ما بين القيم والحريات الدستورية أو الحقوقية، وبين الجهات المنفذة للقوانين، سواء كانت شرطة، نيابة أو محاكم. ذلك بحسب أن كل هذه الجهات تتعامل وفق نصوص هذا القانون، كما أنه من زاوية مغايرة، فإن قانون الإجراءات الجنائية يعد تطبيقا عمليا لكافة القيم التي يتضمنها الدستور والراعية لحقوق وحريات المواطنين.

ولكوننا على أعتاب انتخابات نيابية جديدة، وأن ذلك سيكون بمثابة المحطة الأخيرة لأعضاء مجلس النواب على أقل تقدير كمقدمة أو دعاية انتخابية للدورة المقبلة، لكن أثبتت المناقشات والحوارات الدائرة، أن أعضاء مجلس النواب ملكيون أكثر من الملك، وأنهم يتعاملون وفق رغبة السلطة التنفيذية، دون أي مواربة، وهذا ما أثبتته المناقشات الحالية، وبشكل خاص موقف وزير العدل الذي غير موقفه بخصوص بعض المواد المطروحة أمام مجلس النواب ما بين عشية وضحاها.

لكن الطامة الكبرى تبدو فيما يخص المتداول عن نص المادة 105 من هذا المشروع، والتي تمنح النيابة سلطة التحقيق مع المتهم دون وجود محامي معه، متعللة بحالة الضرورة، وهو من المواقف الأكثر ردة مع الحقوق والحريات وضماناتها، وهو ما يتعارض بشكل قاطع الدلالة مع الأساس الدستوري الوارد بنص المادة 54 من الدستور المصري، وبشكل أخص مع الفقرة الثالثة منها بقولها “ولا يبدأ التحقيق معه إلا في حضور محاميه، فإن لم يكن له محام، نُدب له محام، مع توفير المساعدة اللازمة لذوي الإعاقة، وفقاً للإجراءات المقررة في القانون”. كما أن ذلك الأمر لم يكن وليد الدستور المصري في نسخته الأخيرة، بل تعاقبت عليه الدساتير المصرية، مسايرة بذلك غالبية الدساتير العالمية، وهو كذلك ما أقرته المحكمة الدستورية العليا منذ زمن بعيد، فقد جاء النص على ذلك في نص الحكم رقم 6 لسنة 13 دستورية، بتاريخ 16/ 5/ 1992، والذي أكدت فيه المحكمة الدستورية العليا، على أن ضمانة الدفاع لا تقتصر على مرحلة المحاكمة فقط، بل تمتد إلى المراحل التي تسبقها، مثل التحقيق، إذ إن ما يحدث في هذه المراحل قد يحدد مصير المتهم، إذا لم يُحترم حقه في الدفاع.

وإذ إنه كان الأوجب أن يكون خطاب رد مشروع القانون متضمناً توجيهاً بإعادة دراسته، أو عرضه على المتخصصين، واحترامه للقواعد الدستورية، ولكن يبدو أن الأمور تسير في اتجاه معاكس أو مغاير للرغبات الشعبية والحقوقية، ولا يوجد لدى أعضاء مجلس النواب رغبة سوى استرضاء الحكومة لا أكثر، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة، وردة غير مسبوقة من الناحية النصية في صياغة هذه النصوص بتلك الطريقة.

وقد بدأت الاعتراضات الشعبية متمثلة في موقف نقابة المحامين، والذي تمثل في انسحاب نقيب المحامين من جلسة مجلس النواب، على أثر وجود هذا النص بالطريقة التي تصادر حقوق الدفاع وحقوق المتهمين، كما انسحب كذلك ثلاثة من النواب؛ اعتراضا على هذا النص، كما أصدرت نقابة الصحفيين بيانا صحفيا، تدعم فيه موقف نقابة المحامين وتساندها.

 وإذ إننا نؤكد على أن قانون الإجراءات الجنائية يمثل الظهير الحامي لحدود الشرعية، فيما تتخذه السلطات من إجراءات حال تنفيذها للقوانين العقابية، بداية من لحظة حدوث الجريمة، حيث لا يمكن في جميع الأحوال تصور الوصول إلى العدالة الناجزة في المواد الجنائية، والتي لا تقف إلا عند حد توقيع العقاب الملائم على المتهم؛ جزاءً بما اقترفت يداه، كذلك الأمر أو ربما أشد، فلا يمكن تصور تحقق تلك الغاية المتمثلة في معاقبة المجرمين، إلا من خلال إجراءات جنائية تصون حقوقهم، في كافة مراحل التقاضي، بداية من لحظة القبض عليهم، نهاية بتنفيذ العقوبة المقضي بها، أو القضاء بتبرئة من تم تقديمه للمحاكمة، وإذ إنه لما كان التشريع «القانون» هو السند الذى يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذى يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فإن ما تقره التشريعات من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، ويتعين أن يكون منصفا ومبررا، وبالتالي فإنه لا يجوز للسلطة التقديرية للمشرع أن تتجاوز أو تنحرف عن الأهداف الدستورية في طريقة وكيفية مباشرته لاختصاصه الفريد، وقد اشترط الدستور لتحديد قواعد الإجراءات الجنائية مستندا إلى مبدأ عام، وهو الثقة في القانون لتنظيم الحريات.

ولا بد وأن نعاود التأكيد على أن تعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل عام من الأمور ذات الحساسية المفرطة لتعلقه بكيفية ضمان حقوق وحريات المواطنين، وبالتالي فيجب أن يتم ذلك الأمر على نحو من الدقة والمهنية، بما يضمن أن تكون القواعد الجديدة متماشية بصورة كبيرة مع التزامات مصر الدولية والحقوقية، التي ضمنتها الاتفاقيات والمواثيق التي وقعت عليها مصر، بخلاف ما حدده الدستور المصري من قواعد وجب الالتزام بها، وتحقيقها على أرض الواقع من خلال تضمينها للقواعد القانونية، وذلك ما لم نجد له صدى في ما يتم الترويج له بمشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، والذي ورد به العديد من النقاط السلبية التي تصادر حقوق الأفراد، وهو الأمر الذي  يتعارض مع حقيقة شرعية ومشروعية الإجراءات الجنائية، وأن الهدف الرئيسي من وجود مثل هذا التشريع على الرغم من سعيه للوصول إلى العدالة الجنائية، فيما اقترف من جرم، إلا أن ذلك حده أن تراعى الحقوق الأساسية الإجرائية للمتهمين، بما يضمن تفعيل أصل البراءة كأصل عام شامل للمحاكمات الجنائية. والأصل العام أن يكون المشرع حريصاً على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقررة دستورياً، وألا ينال منها متخفياً وراء ستار من ولايته المنصوص عليها في الدستور، إذا لا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها في تنظيم الحقوق ستاراً؛ لإخفاء نواياها في الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التي يجب أن يحرص عليها، حتى وإن حاجج البعض، بأن للمشرع السلطة التقديرية في المفاضلة بين البدائل المتعددة حين تنظيم الحقوق، إلا أن ذلك محدود باختياره أفضل تلك البدائل لصون تلك الحقوق وحمايتها على أكمل وجه، دونما إثقال بالقيود، أو ما يجاوز حد التنظيم بشكل عام.

ونأمل أن نجد لهذه الكلمات صدى لدى السادة النواب في موقفهم الختامي لهذا الدور التشريعي، وأن ينحازوا إلى كتلة الناخبين كمقدمة لمرحلة انتخابية قادمة على أقل تقدير، إن لم يكن احتراما للأسس الدستورية الداعمة للحقوق والحريات.