بينما تعود الأزمة الليبية المحتدمة سياسيا وعسكريا من جديد إلى مربعها الأول، في غياب حسم نهائي، يظل الفرقاء هناك يدورون في حلقة مفرغة من خلافات لا تنتهي، بينما تستمر بعثة الأمم المتحدة في تسويق خارطة طريق، لا يريد أحد تنفيذها.

تعود ليبيا بشكل مأساوي في الوقت الراهن إلى نقطة الصفر، بعد أكثر من عقد من التجاذبات بين سلطتين تشريعيتين، تتنازعان الشرعية، وبعثة أممية فقدت زمام المبادرة وعجز كامل عن إنتاج نظام حاكم، ومستقر بعد 14 عاما على الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي.

 ومع تجدد الجدل حول المناصب السيادية، تبدو البلاد عالقة بين طموحات انتخابية معلّقة، ومؤسسات تكرس إنتاج الانقسام ذاته.

ديناصورات السياسة

وهكذا يستمر ديناصورات الحلبة السياسية في فرض وجودهم على المشهد العام في البلاد، في إطار لعبة من التجاذبات والممحاكات الكلامية والسياسية التي لا تسمن ولا تغني من استقرار.

في السابق، وصفت ستيفاني وليامز، الديبلوماسية الأمريكية والقائمة السابقة بأعمال البعثة الأممية، بعض الساسة الليبيين، بـ”الكائنات المنقرضة”، التي طورت نفسها لتعيش في بحر من الفساد على مدى السنوات الـ14، التي تلت إسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي ومعه الدولة الليبية. وهو وصف يحيل للمفارقة الليبية القائمة فبينما انقرضت الديناصورات في الطبيعة إلا إنها لا تزال تنهب وتعبث بحياة ومقدرات الليبيين. فوليامز فاتها أن تشهد التطور الذي وصلته هذه الديناصورات، بعدما تسللت إلى المسرح السياسي، قادمة من أول متحف متخصص في تاريخ الديناصورات في مدينة نالوت شمال غرب ليبيا.

بيد أنها كانت محقة تماما في القول، بأن “اللصوص السياسيين— أو الديناصورات السياسية في الشرق والغرب الليبي— يفعلون كل ما بوسعهم لعرقلة طريق الانتخابات، لأنهم يخشون فقدان سلطتهم وامتيازاتهم”.

الخلاف الذي تجدد بين مجلسي النواب والدولة حول المناصب السيادية، لا يعكس فقط تنازعًا قانونيًا، بل يمثل جوهر الصراع على إدارة الموارد والنفوذ العسكري في البلاد، إذ يسعى كل طرف لتكريس موقعه كصاحب القرار قبل أي انتخابات محتملة، ما يجعل العملية الدستورية رهينة لحسابات النفوذ لا لبناء الدولة.

وهو أيضا صراع على صلاحيات المجلسين، في ضوء ارتباطاتهما الداخلية، فبينما يوظف عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة المؤقتة، مجلس الدولة برئاسة محمد تكالة،  لضمان البقاء في السلطة ومحاولة تهميش منافسيه السياسيين، يقاوم مجلس النواب بقيادة عقيلة صالح، أي محاولة لفك ارتباطه مع المشير خليفة حفتر، القائد العام للجيش الوطني المتمركز في شرق البلاد.

في هذا الإطار، يمكن فهم رفض مجلس الدولة لحكم المحكمة الدستورية العليا، بتحصين قرارات مجلس النواب المتعلقة بتعيينات حفتر وترقيات الضباط، واعتبارها أعمالاً تشريعية، لا تخضع للرقابة الإدارية.

واعتبر مجلس الدولة، أن هذا الحكم يمثل خطرًا مباشرًا على وحدة السلطة القضائية من خلال خلق ازدواجية بين المحكمة العليا، وهذه المحكمة المستحدثة “أي المحكمة الدستورية العليا” ، كما يعكس تسييس المؤسسة القضائية لصالح طرف سياسي واحد، ما يهدد مبدأ التوازن بين السلطات، ويعمّق الانقسام في البلاد.

وبعدما حمّل مجلس الدولة مجلس النواب مسئولية الاستمرار في ما وصفه بـ”التشريعات الأحادية”، دعا مجلس الدولة المجتمع الدولي وبعثة الأمم المتحدة إلى عدم الاعتراف بالمحكمة المستحدثة، ودعم وحدة القضاء الليبي واستقلاله.

تعميق الانقسام

وانعكس هذا التنازع السياسي على الساحة القضائية، حيث برز الخلاف مجددًا حول شرعية المؤسسات القانونية الجديدة.

وكانت الدستورية العليا، قد قضت في جلستها المنعقدة يوم الاثنين الماضي، بمقرها في بنغازي، بقبول طلب التفسير الدستوري المقدم من أسامة حماد رئيس حكومة الاستقرار الموازية، بشأن قرار مجلس النواب رقم 20 لعام 2015، معتبرةً أن ترقية الضباط وتعيين قائد عام للجيش الليبي أعمالاً تشريعية صادراً عن البرلمان، وبالتالي تخرج عن نطاق رقابة القضاء الإداري، مما يحصن هذه القرارات من الطعن الإداري.

بالمقابل يواجه مجلس الدولة اتهامات بالتحالف مع الدبيبة، الذي يُعتقد أنه اشترى أغلبية أعضائه بأموال فاسدة، لعرقلة تشكيل حكومة موحدة، وسط دعوات لفك الارتباط مع حكومة طرابلس.

يأتي هذا فيما اكتفت نائبة رئيسة بعثة الأمم المتحدة ستيفاني خوري، بالتأكيد على أهمية وفاء القادة السياسيين بمسئولياتهم تجاه المواطنين، بما في ذلك تقديم الخدمات، والمضي قدمًا بخارطة الطريق السياسية لتوحيد المؤسسات وإجراء الانتخابات الوطنية.

ولاحظت خوري، ماوصفته بالتقدم المحدود، حتى الآن في استكمال الخطوة الأولى نحو الانتخابات، بعد الإحاطة المقدمة لمجلس الأمن الدولي مؤخرا.

واحتفظ عقيلة صالح رئيس مجلس النواب لنفسه بمسافة مناورة كافية في الخلف، بعدما ترك لنائبه الثاني مصباح دومة، مهمة انتقاد محاولة مجلس الدولة لتجزئة ملف المناصب السيادية، حيث دعا دومة إلى تغيير جذري في مؤسسات الدولة العليا وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، باعتبارها الطريق الوحيد لإنهاء الأزمة الممتدة منذ سنوات.

ولم ينس الإشارة إلى أن طموح الشعب الليبي في بناء دولة مدنية ديمقراطية يبدأ من ضمان التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات متزامنة، وسجل أن أكثر من 2.8 مليون مواطن سجلوا في منظومة الانتخابات منذ أكثر من خمس سنوات دون تفعيل إرادتهم الشعبية.

وانتهى دومة إلى جوهر الخلاف، باعتباره أن مجلس النواب هو الجهة التشريعية الوحيدة المنتخبة والمخولة قانونيًا لإصدار القرارات السيادية، منتقدا المحاصصة السياسية والترضيات التي عطلت قيام الدولة.

وبينما تركز خارطة الطريق التي أطلقتها البعثة الأممية، على ثلاثة محاور رئيسية: إعداد إطار انتخابي متماسك، تشكيل حكومة موحدة، وتسوية المناصب السيادية، شمل تقرير لجنة مجلس الدولة حول هذه الخطة خمسة محاور رئيسية، منها تقييم الإطار العام للخارطة، ومعالجة تحديات مفوضية الانتخابات، والقضايا الخلافية المتعلقة بالقوانين الانتخابية.

وبحسب تسريبات، فقد أوصت لجنة مجلس الدولة باجراء تعديلات على الإطار الانتخابي، تشمل منع حاملي الجنسية المزدوجة من الترشح لرئاسة الدولة ومنع العسكريين من الترشح أو التصويت، بالإضافة إلى حرمان المحكومين نهائيًا والمطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية من الترشح للانتخابات الرئاسية أو التشريعية.

كما اقترحت اللجنة إجراء تعديل دستوري لفصل الانتخابات الرئاسية عن البرلمانية، مع إلغاء تزامنهما لتجنب التعقيدات الإجرائية.

استبعاد حفتر ونجل القذافي

ويعتقد أن المستهدف بهذه التوصيات، إبعاد المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني المتمركز في شرق البلاد، وسيف الإسلام، النجل الثاني للقذافي، عن الترشح للانتخابات للرئاسة، ما يعيد العملية برمتها إلى مربعها الأول دون توافق.

وبينما يقبع سيف الإسلام في مكان غير معلوم، متواريا عن الأنظار ولا يظهر عبر وسائل الإعلام، مع نشاط سياسي محدود، ويروج بعض اتباعه لبيانات مشكوك في نسبتها إليه، تبقى حظوظه ضعيفة، بينما فاجأ حفتر الليبيين، بمطالبتهم بإيجاد صيغة تخرج الدولة من دوامة الفراغ السياسي!!.

يوحي هذا بعدم امتلاك حفتر في الوقت الراهن مشروعًا سياسيًا جاهزًا للخروج من الأزمة، لكن أيضا بسعيه لتوظيف دعوته كمناورة لكسب الوقت الذي لم يعد يمتكله، أو إعادة التموضع سياسيًا في مشهد تتزايد فيه الضغوط محليا ودوليا لإيجاد بديل للفراغ القائم.

ويتحدث مجلس الدولة عن حماية المسار الدستوري، لكنه يرفض عمليًا أي تعديل يقلّص نفوذه في التعيينات السيادية، في حين يوظف مجلس النواب سلطة التشريع لتكريس واقع سياسي، يخدم سلطة حفتر العسكرية، أما البعثة الأممية، فتبدو عاجزة عن فرض أي تسوية، بعد أن تحوّلت خارطتها إلى ورقة تفاوضية بيد الأطراف المحلية.

ويزيد تصاعد معركة الإقصاء بين الشرق والغرب من غموض مستقبل العملية السياسية، في ظل عجز الأطراف عن التوافق على قواعد انتخابية جامعة.

ومن الواضح، أن مسار الانتخابات لن يتحقق ما لم يُحسم الجدل حول المرجعية القضائية وتوزيع المناصب السيادية، لكن استمرار ازدواجية السلطة وغياب الإرادة الدولية الحازمة، يدفع البلاد إلى مرحلة  جديدة من الجمود السياسي، قد تتحول فيها خارطة الطريق الأممية إلى مجرد وثيقة أخرى في أرشيف الأزمات.

مرحلة اللا حرب واللا سلام

وكتعبير عن اليأس من إمكانية الإصلاح من الأعلى، بسبب تمسّك النخب الحاكمة بالسلطة وغياب الشرعية الشعبية، يعتقد البعض أن التغيير يأتي من المحليات والانتخابات البلدية.

ومع ذلك، فالانسداد الليبي لم يعد شأنًا داخليًا، فالطموح الأمريكى للعودة والدور المتزايد لروسيا في الشرق والتمدد التركي في الغرب، يعيدان تشكيل موازين القوى، بينما تبدو كل الأطراف معنية بتثبيت هدنة هشة لوقف الحرب مؤقتا، تضمن مصالحها، دون ترتيبات طويلة المدى، تستهدف تحقيق الاستقرار الفعلي في ليبيا.

وهكذا في ظل استمرار ازدواجية السلطة، وتسييس القضاء، وضعف الضغط الدولي، ستظل ليبيا في حالة رمادية أقرب إلى مرحلة “لا حرب ولا سلم”، إلى أجل غير معلوم.