لقد أعادت اتفاقيات إبراهام عام 2020، التي وقعتها إسرائيل مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وانضم إليها لاحقًا المغرب والسودان، تشكيل المشهد الأمني والاستخباراتي الإقليمي في الشرق الأوسط بشكل جذري. على عكس معاهدات السلام السابقة القائمة على مبدأ “الأرض مقابل السلام”، صُممت اتفاقية إبراهام في المقام الأول كاتفاقية أمنية واقتصادية، تخدم مصالح النخب الحاكمة، مدفوعة بإدراك مشترك للتهديد الإيراني، ورغبة في قمع حركات المعارضة المحلية، مثل تلك التي ظهرت خلال الربيع العربي.
لم تؤد الاتفاقيات إلى تدشين علاقات أمنية واستخباراتية، إذ كانت العلاقات السرية قائمة منذ عقود، وخاصة بين إسرائيل وبعض دول الخليج؛ بسبب تصورات التهديد المشتركة بشأن إيران والإسلام السياسي. وبدلاً من ذلك، عملت الاتفاقيات على إضفاء الطابع المؤسسي على هذا التعاون وتسريعه بشكل كبير، ونقل هذه التعاملات من القنوات الخلفية إلى المجال العام الرسمي.
أولاً: اتفاقيات إبراهام: مأسسة التعاون الأمني والاستخباراتي
كانت النتيجة الأكثر وضوحًا ومباشرة لاتفاقيات التطبيع هي تعزيز التكامل العسكري والاستخباراتي. يصف أحد المحللين مشروع التطبيع صراحةً، بأنه ذو “عمود فقري عسكري صناعي”.
كان التطور الاستراتيجي الحاسم الذي أعقب الحرب الباردة هو القرار الذي اتخذته إدارة ترامب المنتهية ولايتها الأولي في يناير 2021 بنقل إسرائيل من منطقة عمليات القيادة الأمريكية الأوروبية (EUCOM) إلى منطقة عمليات القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM). كان هذا التحول الذي أصبح رسميًا في عهد الرئيس بايدن (٢٠٢١- ٢٠٢٥)، يهدف بشكل مباشر إلى تشجيع وتسهيل التعاون العسكري الوثيق بين إسرائيل وشركائها العرب الجدد والمحتملين، وخاصة في مجال الدفاع الجوي والصاروخي.
سمح هذا التكامل بتنسيق أعمق مع أنظمة الصواريخ والبنية التحتية اللوجستية الأمريكية والخليجية الحالية. أعطى المسئولون الأمريكيون بعد ذلك الأولوية لتطوير شبكات دفاع جوي وصاروخي متكاملة، بما في ذلك أنظمة الإنذار المبكر المشتركة. كان الهدف هو ترسيخ بنية أمنية إقليمية جديدة تحت إشراف واشنطن، ورفع مكانة إسرائيل وشركائها العرب كمنفذين مشتركين وحراس للمصالح الأمريكية. وقد تم اختبار هذه القدرات الدفاعية المنسقة خلال الاشتباك الذي استمر 12 يومًا بين إسرائيل وإيران في يونيو 2025. علاوة على ذلك، دعم الكونجرس الأمريكي هذا الاتجاه بقانون الدفاع في عام 2022، بهدف إنشاء نظام دفاع جوي متكامل بين إسرائيل ودول الخليج الست ومصر والأردن والعراق، بالاعتماد غالبًا على التكنولوجيا الإسرائيلية.
فتحت الاتفاقيات أسواق الأسلحة العربية التي كانت مغلقة في السابق أمام إسرائيل، مما حول المنطقة إلى موطن تصدير مربح للغاية للمجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي.
بعد توقيع الاتفاقية، زادت صادرات إسرائيل الدفاعية بشكل كبير، وأصبحت الدول العربية من العملاء الرئيسيين، ففي عام 2021 وحده، اشترت الإمارات العربية المتحدة والبحرين أسلحة من إسرائيل بقيمة تزيد عن 853 مليون دولار. وبحلول عام 2024، ارتفعت حصة العرب من صادرات الدفاع الإسرائيلية إلى 12% برقم قياسي بلغ 14.79 مليار دولار.
شملت المبيعات تكنولوجيا متطورة مثل منصات الدفاع الصاروخي وأنظمة الطائرات بدون طيار والإلكترونيات الجوية المتقدمة. وسّعت أبوظبي شراكتها العسكرية بسرعة، بما في ذلك تأمين عقد لتوريد إلكترونيات طيران متقدمة من أكبر شركة مصنعة للمعدات العسكرية في إسرائيل، وهي شركة إلبيت سيستمز، وافتتاح فرع لها في الإمارات العربية المتحدة. وفي وقت لاحق، حصلت الإمارات على نشر نظام اعتراض الصواريخ الإسرائيلي باراك. وفي أعقاب هجمات الحوثيين في أوائل عام 2022، طلبت الإمارات على وجه التحديد، واستلمت نظام الدفاع الجوي SYPDER الإسرائيلي الصنع ونسخة معدلة من نظام الدفاع الجوي Barak.
عزز المغرب تعاونه الأمني بشكل كبير، حيث حصل على طائرات بدون طيار وأنظمة دفاع جوي إسرائيلية، ووقع مذكرة أمنية في عام 2021.
امتد التعاون إلى الإنتاج المشترك، مثل الكشف المشترك عن سفينة بحرية بدون طيار طورتها شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI) ومولتها مجموعة EDGE الإماراتية.
هذا المستوى من الإنتاج العسكري المشترك مخصص عادةً لحلفاء الناتو أو الشركاء القدامي، كما شاركت الإمارات والبحرين وإسرائيل في أول مناورة بحرية عامة مشتركة تحت قيادة القوات البحرية المركزية الأمريكية (NAVCENT) في البحر الأحمر في نوفمبر 2021.
وكانت إحدى العواقب المهمة بنفس القدر، وإن كانت ربما أقل وضوحًا، للتطبيع هي إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون وتوسيعه في مجال الفضاء الإلكتروني والمراقبة.
فقبل وقت طويل من توقيع اتفاقية التطبيع، كانت أنظمة الخليج عميلة لصناعة برامج التجسس الخاصة الإسرائيلية، مستخدمة أدوات مثل برنامج Pegasus التابع لمجموعة NSO لمراقبة الصحفيين والمعارضين والناشطين. عززت اتفاقيات التطبيع هذه العلاقات من خلال شراكات الأمن السيبراني الرسمية.
وتوسعت الشركات الإسرائيلية المتخصصة في تقنيات الحرب السيبرانية بقوة في أسواق الخليج، بدعم من رأس المال الخليجي في كثير من الأحيان. على سبيل المثال، استثمر صندوق الثروة السيادية في أبوظبي مبادلة، أكثر من 100 مليون دولار في شركات ناشئة في مجال التكنولوجيا الإسرائيلية، بما في ذلك تلك التي تطور تقنيات أمنية عسكرية، تم اختبارها على الفلسطينيين. الشركات الإماراتية التي تركز على الذكاء الاصطناعي والمراقبة البيومترية، هي قنوات لنماذج الشرطة الرقمية الإسرائيلية، كما يتم تسهيل التعاملات السرية من خلال مشاريع مشتركة مثل Black Wall Global، التي يعمل بها ضباط استخبارات إسرائيليون سابقون وممولون إماراتيون، للتوسط في صفقات برامج التجسس للعملاء الذين يرغبون في تجنب الجدل.
إن الحصول على برامج التجسس والتدريب الإسرائيلية يعزز قدرة الدول ذات التوجه الأمني على مراقبة المعارضة المحلية وإسكاتها، مما يساهم بشكل مباشر في تعميق الحكم الاستبدادي. واعترفت البحرين علنًا بالتعاون مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد، في عام 2022.
ثانيًا. التأثير على الأمن القومي المصري
أثرت اتفاقيات إبراهام على الأمن القومي المصري في المقام الأول من خلال تغيير الديناميكيات الاستراتيجية والاقتصادية الإقليمية المحيطة بمعاهدة السلام التي استمرت عقودًا مع إسرائيل (1979).
كانت علاقة مصر بإسرائيل على الرغم من برودتها، ركيزة أساسية للأمن لكلا البلدين، مما سمح لإسرائيل بتركيز مواردها في أماكن أخرى. وقد أدت التحولات الأمنية الإقليمية والصراعات الكبرى اللاحقة (مثل حرب غزة عام 2023) إلى تفاقم نقاط الضعف القائمة، وخلق تحديات استراتيجية جديدة للقاهرة.
كان التأثير الأكثر عمقًا على الأمن القومي المصري في الآونة الأخيرة نابعًا من التهديد بالنزوح القسري للفلسطينيين من غزة إلى شبه جزيرة سيناء في أعقاب العملية العسكرية الإسرائيلية، التي نتج عنها أن أصبحت غزة مكانا غير قابل للعيش.
رأى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أن المشاركة في التهجير القسري للاجئين الفلسطينيين تُشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، و”خطًا أحمر”. حافظت مصر على مقاومة مستمرة ضد المحاولات الإسرائيلية المتكررة- الخفية والعلنية- للضغط على القاهرة لقبول الفلسطينيين من غزة في سيناء، خوفًا من عدم الاستقرار الداخلي، وتقويض دورها التاريخي في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
وتُعتبر المشاريع الإسرائيلية، التي تدعمها الولايات المتحدة، لنقل سكان غزة وضم الضفة الغربية، إلى جانب الدعوة العلنية لرئيس الوزراء نتنياهو إلى “إسرائيل الكبرى” التي تشمل أراض مصرية، بمثابة تحديات مباشرة للاستقرار الجيوسياسي لمصر.
أدت الاجراءات العسكرية الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023 إلى توتر العلاقات الثنائية مع القاهرة، مما يعرض معاهدة السلام التي استمرت عقودًا للخطر.. وألمحت إسرائيل إلى إمكانية مراجعة اتفاقية تصدير الغاز الطبيعي مع مصر كأداة ضغط لتأمين تعاون القاهرة. إن هذا الضغط المتعمد يهدد أساس الأمن الإقليمي، ويعيد حالة عدم اليقين الاستراتيجي إلى الحدود الشرقية لمصر.
إن التكامل الاقتصادي الذي تعززه اتفاقيات الشراكة المصرية الإماراتية، وخاصة من خلال استراتيجية الاستثمار التوسعية لدولة الإمارات العربية المتحدة، يؤثر بشكل غير مباشر على أمن مصر من خلال زيادة الاعتماد الاقتصادي وإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية.
تعد مصر مستوردًا رئيسيًا للغاز الطبيعي من إسرائيل (من حقول مثل تمار وليفيثان). وقد عزز هذا التعاون العلاقات الاقتصادية، حيث تضاعفت صادرات إسرائيل إلى مصر بحلول يونيو 2024 بفضل التعاون في مجال الطاقة. ومع ذلك، فإن هذا الاعتماد يخلق ضعفًا متبادلًا: يمكن لإسرائيل أن تهدد بقطع الإمدادات للضغط على مصر، في حين أن جهود مصر لتنويع الموردين، من شأنها أن تضر بالإيرادات الاقتصادية لإسرائيل والاتصال الإقليمي.
انتهجت الإمارات العربية المتحدة استراتيجية “المراسي” للاستثمار، حيث اكتسبت السيطرة المادية على الأصول والبنية التحتية خارج حدودها. ومع كون مصر منطقة تركيز رئيسية، إلى جانب الأردن وغزة، فإن الإمارات هي أكبر مستثمر دولي في مصر، باستثمارات كبيرة في قطاعات حيوية، بما في ذلك الخدمات المالية (البنك التجاري الدولي)، والطاقة، والخدمات اللوجستية/ المواني (استحوذت مجموعة مواني أبوظبي على حصص في شركات مصرية مثل ترانسمار وترانسكارجو إنترناشونال). ومن الجدير بالذكر، أن دولة الإمارات العربية المتحدة حصلت على صفقة ضخمة لمشروع تطوير ساحل رأس الحكمة.
تؤدي هذه السياسة الإماراتية إلى توليد أشكال جديدة من الاتصال عبر الحدود تشمل إسرائيل، متجاوزة في بعض الأحيان الحاجة إلى التطبيع السياسي الكامل مع الدول المحيطة. إن الاعتماد على استثمارات دولة الإمارات العربية المتحدة لتحقيق التنمية الاقتصادية السريعة ينطوي على مخاطر التبعية والتأثير الجيوسياسي الخارجي.
إن الموقف العسكري العدواني الذي اتخذته إسرائيل بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إلى جانب التهديدات بضرب قادة حماس على الأراضي المصرية، أدى إلى ردود فعل أمنية كبيرة من مصر.
فردًا على التهديدات الإسرائيلية ضد سيادتها، اجتمعت مصر مع دول عربية أخرى لمناقشة إحياء تشكيل قوة رد سريع عربية. كان من المقرر أن تكون هذه القوة المقترحة بمثابة “حلف شمال الأطلسي العربي”، ولكن بدلاً من استهداف إيران، كان الهدف منها الرد على الاستفزازات الإسرائيلية المستقبلية.
يسلط هذا التحول الدراماتيكي الضوء على التهديد الوجودي المتصور الذي تشكله تصرفات إسرائيل على سيادة الدول العربية، حتى بين الموقعين على معاهدة السلام.
انخرطت مصر في قنوات دبلوماسية سرية مع إسرائيل، ومع ذلك، فإن تدهور الثقة واضح: فقد جمدت مصر تبادل السفراء، ورفضت الموافقة على السفير الإسرائيلي الجديد. القاهرة تحذر من عواقب وخيمة في حال اعتدائها على الأراضي المصرية، وعلى الرغم من هذه التوترات، تواصل مصر التنسيق الأمني مع إسرائيل، مدركة أن تخفيف هذا التعاون من شأنه، أن يخلق تهديدات محتملة على طول الحدود المشتركة التي تبلغ 206 كيلو متر.
وفي الختام، فقد حققت اتفاقيات إبراهام أهدافها المباشرة المتمثلة في إنشاء محور أمني واستخباراتي رسمي ومؤسسي بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، مدعومًا بنقل التكنولوجيا الهائل، ومبيعات الأسلحة، والإشراف الاستراتيجي الأمريكي عبر القيادة المركزية الأمريكية. إن هذا الهيكل الأمني الجديد مبني على مصالح نخبوية مشتركة، وهي احتواء إيران وتعزيز السيطرة الاستبدادية المحلية من خلال التكنولوجيا السيبرانية الإسرائيلية.
ومع ذلك، فإن المكاسب الأمنية الدائمة التي حققتها هذه الاتفاقيات ومعاهدات السلام السابقة، مثل اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، تعرضت لاختبارات قاسية؛ بسبب الأزمات الإقليمية اللاحقة، وخاصة مسألة التهجير التي أعقبت هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
أدت الإجراءات العدوانية الإسرائيلية الأخيرة، مثل انتهاك سيادة قطر بقصف اجتماع لمفاوضي حماس في الدوحة، إلى تكثيف التصور بين حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين، بأن إسرائيل تشكل تهديدًا كبيرًا للسلام والأمن، مما أدى إلى فقدان الثقة في الولايات المتحدة. وقد دفعت هذه الإجراءات الدول العربية، بما في ذلك مصر إلى النظر في ترتيبات دفاعية جديدة، تستهدف إسرائيل، بدلاً من التركيز فقط على إيران.
وعلى الرغم من أن القنوات الدبلوماسية والأمنية الرسمية لا تزال مفتوحة من الناحية الفنية- وهي شهادة على العمق الاستراتيجي للاتفاقيات- إلا أن المشاعر العامة المناهضة للتطبيع المنتشرة والمكثفة في جميع أنحاء العالم العربي، إلى جانب الانتهاكات الصارخة للسيادة العربية من قبل إسرائيل، تُظهر عدم الاستقرار الأساسي للترتيب الأمني المبني فقط على مصالح النخبة والقمع، بدلاً من العدالة والدعم الشعبي الأوسع. وبالتالي، فإن الأمن المتصور الذي أنشأته هذه الاتفاقيات محفوف بالمخاطر وعرضة للصراعات الإقليمية المستقبلية.
إن جدوى هذا التكامل الأمني- إن كان له جدوى- على المدى الطويل، تتوقف على امتناع إسرائيل عن الأعمال الاستفزازية التي تنتهك السيادة العربية، ومعالجة القضايا الإقليمية الأساسية- وفي مقدمتها قضية فلسطين، وإعادة بناء الثقة، وهي حقيقة أصبحت واضحة للغاية من خلال التحديات التي تواجهها مصر، أول دولة عربية تضفي الطابع الرسمي على السلام.