أعتبر مناقشة التعليقات حول تسريبات أحاديث الرئيس جمال عبد الناصر مع الرئيسين الليبي والموريتاني، فرصة جيدة؛ لمناقشة مستقبلنا في الصراع مع القوى الكبرى، الذي لن يتوقف على هذا النحو، إلا عندما نبلغ درجة من التقدم والتوازن، وخاصة أن التسريبات استخدمت على نحو مضلل، أو على الأقل على نحو خاطئ، بسبب نقص المعرفة بالصورة الكاملة، وأرى أنها تجربة، ما زالت حية، وينبغي الاستفادة بها.

رسالة الحسم إلى أمريكا وقبول مبادرة روجرز:

 لنبدأ في مناقشة النموذج منذ الموقف الأخير في أول مايو 1970، حين قرر عبد الناصر إتاحة الفرصة أمام الولايات المتحدة؛ لتتخذ موقفًا متوازنًا، فتوجه في خطاب علني في عيد العمال بنداء إلى نيكسون، جاء فيه: “إن الولايات المتحدة توشك أن تقوم بخطوة بالغة الخطورة على الأمة العربية، في إشارة إلى دفعات جديدة من الطائرات، تدرس تزويد إسرائيل بها، سيفرض على الأمة العربية موقفًا لا رجعة فيه. وأضاف إذا كانت أمريكا تريد السلام، فلتأمر إسرائيل بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة.

 وأما الحل الثاني، إذا لم يكن ذلك في طاقة الولايات المتحدة، فنحن على استعداد لتصديقها، إذا قالت ذلك، مهما كانت آراؤنا فيه، ولكننا في هذه الحالة نطلب طلبًا واحدًا، هو بالتأكيد في طاقة أمريكا. ذلك الطلب هو أن تكف عن دعم جديد لإسرائيل، ما دام هي تحتل أراضينا العربية، أي دعم سياسي أو اقتصادي أو عسكري”.

وأضاف: “إنني أقول للرئيس نيكسون، إن هناك لحظة فاصلة قادمة في العلاقات العربية الأمريكية، إما أن تكرس القطيعة إلى الأبد، وإما أن تكون بداية أخرى جادة ومحددة، وأن التطورات القادمة لن تمس العلاقات العربية الأمريكية وحدها، وإنما سوف تكون لها تأثيرات خطيرة أوسع من ذلك وأبعد”.

وكانت إسرائيل من جانبها تمارس حملة سياسية نشطة داخل الولايات المتحدة، من أجل الضغط على الحكومة الأمريكية، للارتباط معها على 125 طائرة جديدة، وقد وقع 85 عضوًا في مجلس الشيوخ الأمريكي في 4 يونيو 1970 على خطاب، قدموه إلى وليم روجرز مطالبين حكومتهم بتزويد إسرائيل بالمزيد من الطائرات الحربية الحديثة.

يقول محمود رياض أمين عام جامعة العربية الأسبق ووزير الخارجية حين ذاك: في 7 يونيو صرح وزير الخارجية الأمريكية، بأن الولايات المتحدة ستعلن قريبًا قرارها بشأن بيع الطائرات الحربية لإسرائيل، وامتنعت الولايات المتحدة في هذه المرحلة عن البت في صفقة الطائرات الجديد لإسرائيل، وإن كانت استمرت في تسليم الطائرات التي سبق التعاقد عليها منذ عام  1968.

ويقول هيكل: وقرر نيكسون أخيرًا، أن يتحرك استجابة لنداء الرئيس جمال عبد الناصر، وجاء تحركه في شكل رسالة، كتبها وزير خارجيته وليم روجرز في 19 يونيو 1970، عرفت بمبادرة روجرز، قام بإبلاغها دونالد برجس في اليوم التالي إلى محمود رياض وزير الخارجية في القاهرة، وهي تتضمن إجراءات يشرف عليها يارنج لتطبيق قرار مجلس الأمن 242، تشترط وقف إطلاق النار مدة 90 يومًا .

سافر عبد الناصر إلى موسكو يوم 29 يونيو 1970، في زيارة عقد فيها صفقة كبيرة من السلاح السوفيتي، وعدد فيها للقادة السوفييت دواعي قبوله لمبادرة روجرز، وقد أحدثت نتائج زيارته الأخيرة للاتحاد السوفيتي في شهر يناير، تغييرًا في الموازين الاستراتيجية بين مصر وإسرائيل.

وأن مصر لا تريد أن تتسبب في مواجهة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لأن الاتحاد السوفيتي أعطاها سلاحًا، ووضع رجاله في الدفاع عن العمق المصري، أن تصل المسائل إلى درجة من التوتر، تفلت من زمام السيطرة، وأن مصر بقبول المبادرة وما تنص عليه من وقف إطلاق النار محدودا بثلاثة أشهر، تريد أن تعطي قواتها فرصة للحشد والتركيز والتقاط الأنفاس؛ لأنها حين تنتهي هذه الأشهر الثلاثة، لا بد أن تكون في وضع يسمح لها بنوع آخر من العمليات، أكبر من عمليات المدافع، ليقدر على حماية القوات المسلحة، في أية عمليات على الضفة الشرقية لقناة السويس.

وأبلغ عبد الناصر هيكل- القائم بأعمال وزير الخارجية، وكان يتولى ترتيبات موقف إطلاق مع روجرز، عليه أن يكسب ست ساعات إضافية بعد الموعد المتفق عليه، في الساعة العاشرة مساء بتوقيت جرينتش يوم 8 أغسطس 1970، لكي يتمكن الفريق أول فوزي، من إدخال مجموعة بطاريات صواريخ إلى الجبهة، قبل أن يسري وقف إطلاق النار، وعندما تحقق ذلك، جرى إبلاغ عبد الناصر، قال: “إذن لقد انتصرنا في معركة التحرير”.

يقول هنري كيسنجر عن مبادرة روجرز في مذكراته: “في الثاني والعشرين من يوليو عام 1970، وفي الوقت الذي كانت فيه المجابهة محتومة، قَبِل ناصر وبصورة مفاجئة اقتراحنا حول وقف النار والمفاوضات”، ويضيف: “كادت الحكومة الأمريكية أن تطير فرحًا لقبوله مبادرة روجرز، وكان روجرز ينسب لنفسه مبدأ افتتاح مفاوضات، الأمر الذي كان يعارضه سيسكو على انفراد، مؤكًدا على إنه صاحب الفكرة، وكان نيكسون على ثقة أن هذا التغيير المفاجئ، كان  نتيجة تصريحه الشهير الذي أصدره في أول يوليو، أما بالنسبة لي فلم أتردد في أنسب قسمًا من هذا النجاح إلى تلك اللهجة النشيطة في مؤتمراتي الصحفية يومي 20 و26 يونيو، وإلى المباحثات التي أجريتها مع السفير السوفيتي دوبرنين، ومهما يكن من أمر، ظهر أن فرحنا سابق لأوانه”.

ويفسر شارون في مذكراته، سبب قبول عبد الناصر لمبادرة روجرز ووقف إطلاق النار، حيث يقول: “أدهشت الجميع، موافقة عبد الناصر على وقف إطلاق النار، ولم تمض ساعات قليلة حتى كشف النقاب عن سرها، فخلال الأشهر الأخيرة كان الروس يدفعون إلى الأمام خطوة خطوة، منصات إطلاق الصواريخ سام 3 في اتجاه القناة، فيما كان وقف إطلاق النار يدخل حيز التنفيذ.

 وبدا واضحًا أن المصريين والروس قبلوا هذه الهدنة، ليس بهدف التوصل إلى حل (كما رغبت في ذلك وزارة الخارجية الأمريكية)، بل كحيلة تسمح لهم بدفع صواريخ سام 3 للأمام، دون أن تتعرض- مؤقتًا على الأقل- لهجمات الطيران الإسرائيلي، وكان ذلك حدًا فاصل، فما أن يعاد انتشار الصواريخ، حتى يغدو المجال الجوي فوق القناة محظورًا على طائراتنا، فيستطيع المصريون إعادة قصفنا بكل بطارية مدفعياتهم، دون أن نستطيع هذه المرة، أن نرد عليهم، وإذا قرروا عبور القناة، لا نستطيع أن نستخدم طيراننا لإيقافهم، فإذا قبلنا هذا الوضع على مضض، نكون قد قبلنا حربا جديدة لا مفر منها”.

ويؤكد ذلك إيلي زعيرا- رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية: “ومن الواجب علي أن أوضح أن السلاح الجوي، قد أبلغ وزارة الدفاع بكل صراحة- حتى قبل نشوب حرب عيد الغفران- أنه لن يستطيع تحقيق هذه المهمة، على أقل تقدير خلال الـ 48 ساعة الأولى من الحرب، لأنه منذ عام 1970، فصاعدًا حدث تغير هام وجوهري للغاية، حيث وضعت صواريخ أرض/ جو فعالة، من إنتاج الاتحاد السوفيتي في منطقة الجبهة، ومنعت السلاح الجوي من تقديم المساعدة للقوات البرية في معركة الفرملة، ولقد كان معنى بلاغ السلاح الجوي واضح، وهذا يعني أن واحدا من أعمدة نظرية الأمن قد انهار” .

ويعبر ما يقوله هنري كيسنجر عن مدى ما بلغته سياسات جمال عبد الناصر من نجاح، خلال الصراع مع الولايات المتحدة، وتأثرها بدوره في قيادة النظام العربي، حيث يقول: “في حين أنني لا أشترك أبدًا في حفلات الاستقبال التي تجري في السفارات، فقد عزمت على المشاركة في حفلة، دعت إليها البعثة المصرية في واشنطن مساء 22 سبتمبر 1970، لأدلل جيدًا على أن سياستنا غير مناهضة للعرب”.

أي برغم ترفعه عن حضور حفلات السفارات الأجنبية، حضر حفلة في مقر البعثة المصرية، بالرغم من أنها أقل من مستوى سفارة، لأن العلاقات المصرية الأمريكية مقطوعة منذ 6 يونيو 1967، ورغم ذلك فقد حضر ليخاطب العرب من منصتها، أي من مقر البعثة المصرية، ويعبر عن عدم مناهضة أمريكا لهم.

ويذكر كيسنجر عن مصر في كتابه عن المشكلات الدولية خلال مطلع السبعينيات، الذي جاء تحت عنوان “سنوات الاضطراب Years of Upheaval: “وهكذا أصبحت مصر مفتاح دبلوماسية الشرق الأوسط، وعززت الضرورة التكتيكية ما كسبته مصر، بحجمها، وتقاليدها، ونفوذها الثقافي، وتضحياتها في سلسلة من الحروب العربية الإسرائيلية، وكانت مصر الدولة العربية الأكثر اكتظاظا بالسكان، والمركز الثقافي للمنطقة، وكان معلموها هم العمود الفقري للنظام التعليمي في العالم العربي، كما استقطبت جامعاتها الطلاب من جميع أنحاء المنطقة، وهي تتمتع بأطول تاريخ في التنظيم السياسي بين الأمم، مع استثناء محتمل للصين.

Thus, Egypt become the key to middle east diplomacy. Tactical necessity reinforced what Egypt had earned by its size, tradition, cultural influence, and sacrifice in a series of Arab – Israeli wars. Egypt was the most populous Arab country, the cultural hub of the Area. Its teachers were the backbone of the educational system of the Arab world. Its universities attracted students from all over the region. It has the longest history of political organization of any nation with the possible exception of China.

هذا هو ما انتهت إليه تجربة جمال عبد الناصر في السياسة الخارجية في الصراع الدائر.

لكن كيف بدأت؟ هذا هو موضوع الحلقات القادمة.