في خاتمة المقال السابق، قلنا إن مصر والسعودية معا هما موتور النظام الإقليمي العربي، وذلك قياسا على القول الشائع والمسلم به في السياسة الدولية، بأن ألمانيا وفرنسا هما موتور النظام الإقليمي الأوروبي، ذلك النظام الذي أصبح اتحادا، يضم ٢٥ دولة، وكان قد بدأ كمجمع للحديد والصلب من ٦ دول، وتأسس بين دول تحاربت فيما بينها طويلا ومريرا، ليحل الأمن والتعاون محل العداء والحروب.

أما النظام الإقليمي الجديد الذي ندعو إليه في الشرق الأوسط، فهو لموازنة ومقاومة الطموح الإمبراطوري الإسرائيلي، أو ما يسمى بمشروع إسرائيل الكبرى، على أن يكون أساسه المتين هو المحور المصري السعودي أولا، الذي تنضم إليه تركيا تاليا، ثم الأردن، وبقية دول الإقليم تباعا، وصولا إلى إيران، عندما تنضج الشروط، وعلى أن يكون غرض هذا النظام أو التكتل السياسي للأمن والتعاون، هو عزل إسرائيل إقليميا، ما لم تطبع نفسها، أي تصبح دولة طبيعية من منظور القانون الدولي، ذات حدود نهائية ومعترف بها، ولا تحتل أرض شعب آخر، لتحرمه من حق تقرير المصير، وتحرم مواطنيه من أغلب حقوق الإنسان، وتطبق في حقه سياسات التفرقة العنصرية.


وبرغم أن هذا الذي ندعو إليه يعد من البديهيات الاستراتيجية، وأعيد التأكيد على بداهته هذه مرة أخرى، بسقوط ما كان يسمى باللحظة الخليجية في قيادة النظام الإقليمي العربي، فإن الرؤية لا تزال غائمة عند كثيرين- هنا وهناك- من الخبراء والباحثين، بل وبعض المثقفين وقطاعات من الرأي العام، وعالم المال والأعمال، وربما تكون غائمة أيضا لدى بعض المسئولين الرسميين، ولا أتحدث هنا عن غلمان شبكات التواصل الاجتماعي، الذين يملأون الدنيا ضجيجا حول تَوِافِهِ الخلافات والمنافسات المصرية السعودية خصوصا، والمصرية الخليجية عموما، ليس في السياسة فقط، ولكن في الفن والرياضة والصحافة والإعلام أيضا.

كما يجب ألا يغيب عن البال عمليات الغواية والضغط والابتزاز التي تمارسها الولايات المتحدة على كل عواصم الإقليم لعرقلة تأسيس مثل ذلك التكتل السلمي لردع طموحات إسرائيل الإمبراطورية.

ولتبديد تلك الغيوم والضلالات، ولإسقاط الحساسيات الموروثة أو الحديثة، وشد الأزر في مواجهة الضغوط والغوايات الأمريكية، نستلهم دروس التاريخ في الحالات المشابهة لحالتنا أمام الجموح الإسرائيلي، والمروق العلني من كل القواعد والأعراف، الذي يمارسه اليمين القومي والديني في إسرائيل، فضلا عن التهديد والابتزاز اليوميين تقريبا.

أقرب دروس التاريخ إلى حالتنا هذه هو درس العلاقات البريطانية الفرنسية في مواجهة صعود ألمانيا بعد إعادة توحيدها في عام ١٨٧٠، إذ كان البلدان أي بريطانيا وفرنسا في حالة حرب ساخنة، لا تتوقف إلا لتصبح حربا باردة طوال تاريخهما الحديث تقريبا، فمن حرب المائة عام (التي ظهرت خلالها ملحمة جان دارك أو عذراء اللورين) إلى حروب السنين التسع والسنين السبع، وحروب لويس الرابع عشر في أوروبا وأمريكا، ثم الحروب النابليونية، التي نالنا منها مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، لتستمر المنافسة والتربص سمة العلاقات بين البلدين، رسميا وشعبيا أيضا، حتى أجبرهما الخطر الألماني على تصفية خلافات ومنافسات الماضي، ليتأسس التحالف الأنجلو الفرنسي، ويصبح حجر الأساس في الأمن الأوروبي بالتحالف مع روسيا، وذلك خلال حربين عالميتين، خرجتا منهما منتصرتان، بعد كثير من النكبات والهزائم والتضحيات و الدمار.

من الطريف، أن نتذكر هنا أن مصالحة بريطانيا وفرنسا جاءت على حسابنا في مصر، مثلما جاءت حروبهما على حسابنا بحملة نابليون لاحتلال بلادنا، فقد نص الاتفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا عام ١٩٠٤، على أن تتوقف فرنسا عن معارضة الاحتلال البريطاني لمصر، وكانت هذه المعارضة الفرنسية هي التي اعتمدت عليها الحركة الوطنية المصرية بزعامة مصطفى كامل لإنهاء الاحتلال البريطاني.


من الواضح، أن تطبيق هذا الدرس الفرنسي البريطاني على العلاقات المصرية السعودية هو قياس مع الفارق الكبير، إذ لم يشهد تاريخ العلاقات بين البلدين تلك الحروب التي لا تنقطع، ولا تلك المنافسات المريرة المطولة، وليس صحيحا أن حروب محمد علي باشا ضد الدولة السعودية الأولى، وضد الحركة الوهابية كانت حربا مصرية سعودية في الأصل والسبب والأغراض، ولكنها كانت حربا عثمانية سعودية، وكان محمد علي فيها تابعا، وليس متبوعا، فضلا عن أن هذه الحروب لم تكن إلا في نجد فقط، فيما كانت علاقات مصر مع الحجاز متميزة منذ الحكم الفاطمي في القاهرة.

وفي التاريخ القريب، كان هناك ما يشبه التحالف المصري السعودي ضد تبعية الأسرة الهاشمية بكل فروعها لبريطانيا، وضد أطماع الهاشميين التوسعية في سوريا والحجاز وفلسطين، وكانت الضمانات المصرية هي ما شجع الملك عبد العزيز آل سعود على الانضمام إلى مؤسسي جامعة الدول العربية، وكان أغلب مستشاريه في الشؤون الخارجية مصريين.

وقد استمر هذا التعاون أو شبه التحالف السياسي بين القاهرة والرياض مع مصر الناصرية ضد مشروعات الأحلاف العسكرية البريطانية أو الأمريكية في المنطقة، وهي مشروعات انخرط الهاشميون فيها بقوة.


وعلى الرغم من أن مصر والسعودية اقتربتا من حافة الحرب بينهما خلال الحرب الأهلية في اليمن في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، فإن وجود الجيش المصري في اليمن لمساندة الجمهوريين هناك، والذي تسبب في أشد الإزعاج للأسرة السعودية، يعتبر الآن النافعة التي ظُن أنها ضارة في البداية، إذ أنه بالرجوع إلى الوراء، وفي حقيقة الأمر، فإن كل التغيرات التي قادت الدولة والمجتمع السعوديين نحو الحداثة، بدأت كاستراتيجية وقائية ضد المد الثوري الناصري الذي وصل إلى الجزيرة العربية بوجود الجيش المصري في اليمن، من ذلك تبوء الملك فيصل عرش السعودية وقيادته مشروع التحديث الشامل، وتأميم شركة أرامكو… إلخ. والتفاصيل موجودة لمن يريد أن يستزيد.

وينطبق نفس الأثر الإيجابي لوجود الجيش المصري في اليمن على كل دول الخليج الأخرى، فقد كان ذلك الوجود هو ملهم ومصدر إمداد الثورة ضد الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، وكان جلاء البريطانيين عن الجنوب اليمني هو مقدمة تصفية الوجود البريطاني العسكري في شرق السويس، أي في الخليج، لتصبح مشيخات المنطقة دولا مستقلة، تمتلكً نفطها، وتراكم ما نراه الآن من ثروات ونفوذ وأدوار، منها ما هو بناء، ومنها ما هو غير ذلك.

الخلاصة، أنه يوجد وبوفرة ما يحتم التحالف المصري السعودي كموتور لنظام إقليمي، يحجم إسرائيل، ويردع مشروعها الإمبراطوري، ولا يوجد ما يعرقل قيام هذا التحالف إلا صغائر الأمور وصغار العقول.


وفي الأرض شر مقاديره… لطيف السماء ورحمانها.