كأنها مونودراما هزلية من فصلين، أولهما جرت وقائعه في الكنيست الإسرائيلي، والآخر في شرم الشيخ.
لم يكن هناك نص للعمل المسرحي في فصليه المتلاحقين بنفس اليوم.
أصوات وأضواء تبايع رجلا واحدا باسم السلام، دون أن يكون هناك سلام.
كل شيء فوضوي وعشوائي، الرئيس الأمريكي يقول ما يخطر له على بال، دون تحرز، كأنه مصدر الحكمة الأوحد.
أسبغ الأوصاف على أصدقائه، فـ”نتنياهو” قائد منتصر، رغم أن خطته استهدفت بالمقام الأول إنقاذ إسرائيل من عزلة دولية، وصلت إلى حدود غير متخيلة.
وصف وزير خارجيته “ماركو روبيو”، بأنه أفضل وزير خارجية في التاريخ الأمريكي، كأنه لم يسمع باسم “هنري كيسنجر”، الذي أنقذ إسرائيل من تبعات هزيمتها العسكرية في حرب أكتوبر (1973).
الحقيقة، أن “روبيو” أسوأهم، والمهام الجوهرية، التي يفترض أن يقوم بها في ملفي غزة وأوكرانيا، يتولاها مبعوث “ترامب” الشخصي “ستيف ويتكوف”.
تأخر “ترامب” لثلاث ساعات كاملة دون داع، أو ضرورة، عن موعده المقرر، لما أطلق عليها “قمة شرم الشيخ للسلام في الشرق الأوسط”.
أوقف زعماء وقيادات أكثر من (20) دولة في طابور لالتقاط الصور التذكارية معه، دون أن يكون لهم دور أو مساهمة تتعدى مجرد الحضور!
كان ذلك مشهدا مهينا، لا يليق بالمناصب التي يتولونها، والدول التي ينتسبون إليها.
في اليوم التالي مباشرة، خرقت إسرائيل اتفاق غزة، اغتالت بإطلاق نار مباشر سبعة فلسطينيين، حاولوا أن يعاينوا بيوتهم المنكوبة، وإذا ما كانت ما زالت صالحة للعيش فيها.
قبل أن تطفأ أنوار الاحتفالات الصاخبة على مسارح السياسة، طُرح سؤال مستقبل “اتفاق غزة”، وإلى أي حد يمكن أن يصمد وقف إطلاق النار؟
لم يكن أول رئيس أمريكي يخطب في الكنيست، فقد سبقه.. “جيمي كارتر” (1979) بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، و”بيل كلينتون” (1994) عقب توقيع اتفاقية “أوسلو”، و”جورج دبليو بوش” (2008) في الذكرى الستين لتأسيس الدولة العبرية بسجله في تقويض القوة العراقية وتهيئة المنطقة، لما أطلقت عليها وزيرة خارجيته “كونداليزا رايس” الشرق الأوسط الجديد، أو بصياغة أخرى “الفوضى الخلاقة”!
بدا الاحتفاء الزائد به هذه المرة، كأنه “بطل قومي إسرائيلي” تمكن وحده من تحرير الأسرى والرهائن الإسرائيليين، لا مجرد رئيس أمريكي، وفر كأسلافه التفوق العسكري الإسرائيلي على دول الشرق الأوسط.
لم يجد الرجل، الذي تطلع للحصول على جائزة “نوبل للسلام”، وما يزال، أدنى حرج، أن يعترف علنا بمشاركته في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة بإمدادات عسكرية بالغة التقدم والتدمير.
ما الذي استدعى الإطالة بغير لزوم في احتفالات الكنيست؟
لا شيء، غير أن يطمئن الإسرائيليين، أنه يمكنهم التعويل عليه دائما.
لا تحدث عن سلام له أفق سياسي ومرجعيات معروفة.
ولا أبدى أدنى استعداد لتعريف القضية الفلسطينية، كقضية تحرر وطني أولا وأخيرا، ولا أشار لأية مرجعية دولية، تؤكد حق شعبها في تقرير مصيره بنفسه.
كل ما يعنيه التطبيع المجاني للعلاقات مع إسرائيل بغض النظر عن القضية الفلسطينية.
في مشهدي الكنيست وشرم الشيخ غاب أي سلام باستثناء ما يطلق عليه “سلام القوة”.
نحى القضية الفلسطينية تماما، عزل غزة ومصيرها عن المصير الفلسطيني في الضفة الغربية.
وفق وثيقته، التي وقعت عليها في شرم الشيخ الدول الضامنة الثلاث، مصر وقطر وتركيا: “ندرك أن السلام الدائم هو الذي ينعم فيه الفلسطينيون والإسرائيليون بالازدهار مع حماية حقوقهم الإنسانية”.
كانت تلك صياغة معدلة لجوهر “صفقة القرن”، التي طرحها في ولايته الأولى، ولاقت اعتراضا فلسطينيا جماعيا، أسقطها في مهدها.
يقال عادة، إن الشيطان يكمن في التفاصيل.
تفاصيل الخطة كلها ملغمة.
المرحلة الأولى أوضحها وأسهلها، وقف إطلاق النار وإعادة انتشار محدود للجيش الإسرائيلي عند ما يطلق عليه الخط الأصفر، وتبادل الأسرى والرهائن.
لا بد هنا أن نفرق بين أمرين رئيسيين.
الأول، أن القبول الواسع فلسطينيا وعربيا ودوليا بالخطة والاحتفاء بها، يعود بالمقام الأول إلى التضامن الشعبي الواسع مع الضحية الفلسطينية، التي تتعرض لأبشع حروب الإبادة في العصور الحديثة تقتيلا وتجويعا وإذلالا.
والثاني، اعتبار خطة “ترامب” تأسيسا لنوع من السلام.
الطرفان المتقاتلان لم يُقِرا تفاصيل الخطة، والخطة نفسها غامضة وملغمة، كل بند فيها موضوع مساومات وضغوط وتهديدات، قد تفضي إلى تقويض وقف إطلاق النار نفسه، ليس الآن، ولكنه يظل احتمالا ماثلا.
الخرق الإسرائيلي لوقف إطلاق النار في اليوم التالي لتوقيع اتفاق غزة إشارة أولى.
إعلان إسرائيل تقليص المساعدات وعدم فتح معبر رفح في اليوم المقرر “الأربعاء” إشارة ثانية أخطر وأفدح بذريعة عدم التزام “حماس” بتسليم رفات (24) رهينة إسرائيلية كما هو مقرر.
المستلفت هنا، أن الصليب الأحمر، والوسطاء والضامنون والرئيس الأمريكي نفسه، يقرون باستحالة الوصول إلى رفات الرهائن بالإمكانيات، التي تمتلكها “حماس”.
إنه التعنت المقصود لإفساد اتفاق غزة.
إنه المنهج الذي سوف يتبع عند كل أزمة كبرت، أو صغرت.
من الحكم عند أي خلاف؟
إنه “ترامب” ولا أحد غيره.
لا يملك الوسطاء غير مناشدته بالتدخل لدى حليفه الإسرائيلي.
في المرحلة الثانية، التي يقول “ترامب” إنها بدأت، هناك ملفان ملغمان يصعب القفز فوقهما.. سلاح المقاومة الفلسطينية.. ومن يحكم غزة؟
حسب “ترامب”، فإنه سوف يتكفل بنزع سلاح المقاومة، إذا لم تسلمه طوعا.
هل يقصد التدخل العسكري المباشر، أم منح الضوء الأخضر لإسرائيل لاستكمال عملياتها العسكرية في غزة؟!
المشكلة الرئيسية هنا: من يتسلم السلاح؟
لا تمانع “حماس” في المبدأ، لكنها تريد، أن تسلمه لجهة فلسطينية، وربما مصرية فلسطينية، في ظل مسار واضح لبناء دولة فلسطينية وفق المرجعيات الدولية.
هذا اشتراط جوهري لتسليم السلاح، وإلا فإنها هزيمة مجانية، لم تستطع إسرائيل حسمها بحرب وحشية، امتدت لسنتين.
أعلن رئيس الوزراء البريطاني “كير ستارمر” استعداد بلاده للمساعدة في نزع سلاح المقاومة.
ما المقصود بالضبط بنوع المساعدة؟
إلى أي حد يقدر الضامنون الإقليميون الثلاثة في إحداث نوع من التوازن لتجنب تفجير الموقف؟
من يحكم غزة؟
هذا ملف ملغم آخر.
تجاوز حق الفلسطينيين في حكم غزة مستحيل تماما.
لا وصاية دولية، ولا انتداب جديد.
وجود اسم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “توني بلير” في مجلس الرئاسة، الذي يقترحه “ترامب”، يثير اعتراضات جوهرية بحكم سجله الإجرامي في حرب العراق.
السؤال الأكثر جوهرية: هل مجلس الرئاسة، الذي سوف يقوده “ترامب” مرجعية سياسية لمرحلة انتقالية.. أم تجمع استثماري، يضم مطورين عقاريين ورجال أعمال وفق مشروع “ريفييرا الشرق الأوسط”؟
نحن أمام خطة فوضوية بلا أفق سياسي، وهذا مقتلها في نهاية المطاف.