منذ أكثر من شهر، بدأت صراعات الأحزاب، تبرز إلى السطح بشكل ملفت، حالة من الغليان داخل الأحزاب، الكل يتصارع والفرقاء في ازدياد، يوما بعد يوم، تظهر خلافات تلو الأخرى، وتتدحرج وتكبر ككرة الثلج. الصراعات لم تستثن حزبا قديما أو حديثا، حزبا مدللا من السلطة أو معارضا لها، ليبراليا أو يساريا أو وسطيا.. إلخ. فالخلافات والصراعات ضربت الكثير والكثير من الأحزاب، فهل هذا الأمر هو من طبائع الأبنية السياسية عامة والحزبية خاصة في البلدان النامية؟ وهل السلطة تشجع تلك الظاهرة، حتى لو من باب الوقوف موقف المتفرج منها؟ وهل طبائع الاستبداد أصبحت هي الغالبة في المؤسسات غير الرسمية كالأحزاب، التي طالما استصرخت السلطة باتباع نهج الديمقراطية وحقوق الإنسان أسئلة كثيرة باتت محيرة، وهي لا تجد إجابات قاطعة، لكنها تلقي بظلالها على حال الشجون، لما وصلت إليه السياسة ومآلات ممارساتها في مصر، وهي على أي حال، أمر يختلف البتة عما اعتلته مصر دوليا في قضية غزة من رقي، وكأننا نأمل أن يقود دبلوماسيونا شؤوننا الداخلية، عساهم أن يقوموها، ويصلحوا شأنها، كما فعلوا في ملعبهم.
نسمع ضجيجا ولا نرى طحينا
في أمثال العرب القديمة، أسمع ضجيجا أو جعجعة ولا أرى طحينا، وهي تعني أن كثرة الكلام والوعود لم يعقبها إلا خيبة أو رِدة في الأفعال، أو أن كثرة التباين في الأفكار ووجهات النظر مظنة الوصول إلى الإصلاح، لم تفض إلا لزيادة التشرذم والتفتيت. هذا بالطبع ما يمكن تلمسه في الصراعات الداخلية اليوم داخل الوفد والتجمع والإصلاح والتنمية والدستور والوعي والعدل وحماة الوطن والمصري الديمقراطي الاجتماعي.. إلخ. فالناظر على مواقع التواصل الاجتماعي والمتابع لأخبار تلك الأحزاب في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، يدرك أن تلك الكيانات غير الرسمية تتجه من حالة الضياع لحالة الفناء، فهي ليست رقما معتبرا في العملية السياسية في البلاد، وهي تستخدم في أحسن الأحوال من قبل الحكم كدبوس في رابطة العنق موضوع للزينة، تضحك به على الأحزاب، ومن قبل، تضحك به على ذاتها، بعد أن صدقت نفسها.
تشبث القيادات الحزبية بالبقاء في مناصبهم
الأحزاب في مصر منذ نشأتها الثالثة في 11 نوفمبر 1976، وهي تستصرخ السلطة دوما بمطالب متعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية وعدم تزوير إرادة الناخبين والإقلاع عن الفساد واحتكار السلطة، وحتمية الولوج إلى تجديد الدماء وعدم تكلس النخب السياسية في كافة مواقعها التنفيذية. على أنها في أول اختبار اليوم أصبحت تسقط في جُب الفساد والتسلط، وهو ما برز مرات عديدة، ويبرز اليوم في أوج صوره بخلافات داخل الكيانات التي وصفت ظلما بالأحزاب، وهي لا ترقى لجمعيات أهلية.
المتابع لما يحدث داخل الأحزاب، يجد خلافات بين أجيال، أحدها مجهض الحق، والثاني يبتلع كل شيء وحده، ما جعل الكثير من الخلافات، تنتقل من داخل الأحزاب إلى ردهات المحاكم وساحات القضاء، وعلى أبسط تقدير تنتظر حلولا من قبل قرارات من لجنة الأحزاب السياسية، التي طالما هم أنفسهم- عندما كانوا متوافقين في الداخل- قد شكوا تسلطها في مواجهتهم إبان صراعهم مع السلطة التنفيذية.
التجديد لرئيس الحزب خرقا للقواعد المقننة في اللوائح الحزبية التي لا تسمح بالتواجد لفترتين أو لتجاوز الرئيس المدة المقررة أيا كانت، أصبحت من طبائع الأمور، حتى في الأحزاب التي كان المرء يظن أنها دأبت على ممارسة القواعد المتسمة بالنزاهة والشفافية كحزب التجمع مثلا الذي بات راغبا رئيسه في البقاء مدى الحياة، وحزب الدستور الذي تعمدت رئيسته على إهانة كل من يطالبها بالرحيل بعد تجاوز المدة القانونية، وحزب الإصلاح الراغب في التجديد الأبدي لرئيسه.
هيمنة وانفراد القيادات الحزبية في صنع القرار
بالطبع هناك صنف آخر، لا يقل تسلطا واستبدادا عن الصنف السابق، وهو صنف يفعل كل ما يخطر على باله دون دراسة أو نقاش أو تبادل الرأي. هذا الصنف من الأحزاب استطاع أن يُخرب المؤسسة التي يرأسها لكونه أو لمظنة أنه يصنع المستحيل، هو فرعون صغير وسط بيئة مليئة بالفراعنة أصغر وأكبر. حزب الوفد الذي مرد منذ وفاة مؤسسه فؤاد سراج الدين في أغسطس 2000 على الانفراد بالرأي والتسلط في اتخاذ القرار هو مثال حي على حزب، كان يوما حزب الشعب فآلت الأمور به، لحزب لم يعد له من تاريخه سوى الاسم. حزب حماة الوطن، وهو أحد الأحزاب المدللة الأربعة لدى السلطة- مع مستقبل وطن والشعب الجمهوري والجبهة الوطنية- يُتهم اليوم ببيع المقاعد علنا، وتُسأل أحد قياداته من النساء من الأجهزة العدلية بالدولة، ولا تُسأل قيادة الحزب عن تلك الفعلة الشنعاء التي انتقلت عدواها لباقي الأحزاب، مُنذرة ببرلمان به نوابا مفسدين، اشتروا العضوية بالمال ليشرعوا للبلاد. اليوم هذا الحزب يُكافأ ويعين في مجلس الشيوخ منه 28 عضوا!!! الإصلاح والتنمية أغلق العضوية، ولم يعد يقبل عضوية جديدة، وكأنه حزب جماهيري مُتخم بالملايين، ولا يريد المزيد. أما العدل والمصري الديمقراطي الاجتماعي والوعي، فالخلافات فيها أقل شأنا بكثير، لكن شكاوى نفر من الأعضاء بدأت عدواها تبرز للسطح داخلها، وبدأت أمانات كاملة، تستقيل من عضوية الحزب. هناك أحزاب أخرى، أعياها الخلافات بين أعضائها وقياداتها؛ بسبب لجوء الأخيرة إلى قيادات من خارج الحزب للترشح، وترك الشباب الذين أجهدهم أمل الرقي بالحزب، ومنح الفرصة لهم للتقدم عبر تقديمهم للناخبين.
أين السلطة من كل ذلك؟
وسط كل ذلك تتخذ السلطة موقفا سلبيا من تلك الصراعات، وهي تعلم أنها قد أزكتها، ولو بشكل غير مباشر منذ عهدي السادات ومبارك. فهي من أشركت الأمن في عضوية تلك الأحزاب بغرض الرقابة، وهي من اتخذت النظام الانتخابي بالقوائم المطلقة، وأهملت القوائم النسبية التي تنمي من قدرة الأحزاب السياسية ونشاطها، وهي من منعت النشاط الحزبي في معاقله التقليدية، كما يحدث في البلدان المتمدينة كالجامعات ومقار العمال. إضافة إلى ذلك، فإنها هي من نشرت الأحقاد والحنق والغل بين الأحزاب، بأن راحت تُنشِئ وتُدلل بعض الكيانات الحزبية وتُهمل الأخرى، وهي من أوعزت لأجهزة الرقابة الإدارية والمحاسبية، بأن تبتعد عن نشر أي بيانات أو تقارير للجهاز المركزي للمحاسبات، تشير إلى فساد البنى الحزبية؛ بسبب الفساد والرشاوى ونهب المال الحزبي، وهو مال عام في القانون المصري.
الطريق إلى الإصلاح
كل تلك الأمور السلبية ليست مستعصية على الإصلاح، إذ قد يجد المرء الفرصة في حلها بالإقلاع عن كل مظاهرها. فاتباع النظام الانتخابي النسبي، ومحاسبة لجنة الأحزاب للأحزاب القائمة على عدم عقد أبنيتها التنظيمية في الموعد المحدد باللوائح، وتشجيع الأحزاب السياسية على الاندماج؛ بدلا من هذا الكم الغريب من الأحزاب، وفتح المجال لتمويل الدولة للأحزاب- مع ربط التمويل بنشاط سياسي كعدد أصوات الناخبين أو عدد المقاعد المنتخبة- حتى تنشغل الأحزاب بالبناء والتنمية، وتبتعد عن كل، ما يسفر عن التخريب والتدمير، والإقلاع عن اعتبار الأحزاب ثلة من الخونة، إلى أن يثبت عكس ذلك، وترك الأحزاب تعمل بحرية في الشارع؛ كي تتفاعل مع الناس.
ما من شك، أن فتح المجال العام من قبل السلطة سيجبر الأحزاب، على أن تكون ديمقراطية، إذ أنها ما كان للصراعات أن تقطعها إربا، لو أنها ما شاهدت الخروقات المتوالية لحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
كل ما سبق وغيره هو من أهم الآليات لتأسيس حياة سياسية جيدة عامة، ونظام حزبي جديد خالي من التسلط والاستبداد والصراعات الشخصية الهدامة خاصة.