لعبت إسرائيل في محاولاتها المستمرة لنسج شبكة استقطاب لدوائر صناعة القرار ببعض الدول العربية على الهاجس الأمني، عبر عرض خدماتها الأمنية تحت المظلة الأمريكية.

بدأت تلك الاستراتيجية، التي تتخذ ستارا من السرية في البداية، مع دولة المغرب عبر  استحضار فزاعة “الصحراء الغربية“، والعلاقات المضاربة مع الجزائر، وتكررت مع غالبية العواصم الخليجية الثرية التي تم اللعب معها، بورقتي العراق في عهد صدام حسين، وإيران حاليًا.

تعود العلاقات الرسمية العلنية بين المغرب وإسرائيل إلى اتفاق تطبيع العلاقات في ديسمبر 2020 بعد أن وقعت بجانب البحرين والإمارات والسودان في العام نفسه على ما سمى باتفاقات إبراهام.

مقابل موافقة المغرب على التطبيع علنا، اعترفت “تل أبيب” بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، كما اعترفت الولايات المتحدة بتلك السيادة تحت ذات الشرط “العلانية”.

لكن التقارب “المغربي ـ الإسرائيلي” أقدم من “اتفاقات إبراهام” بكثير، فالمغرب وافق على إقامة جسر جوي مباشر من أجل تسهيل السياحة بين اليهود المغاربة والإسرائيليين وتنقلهم بين البلدين، خاصة أن مليون إسرائيلي يحملون أصولا مغربية وكثير منهم، يحتفظون بالجنسية المغربية، وتقلدوا مناصب رفيعة، حتى أن عدد الوزراء ذوو الأصل المغربي بحكومة نتنياهو التي شكلها في 2020 بلغ 10 وزراء.

المغرب.. السلاح كلمة السر

وبالعودة للتاريخ فقد تعززت العلاقات السرية بين إسرائيل والمغرب بالسبعينيات من القرن الماضي، فإسرائيل باعت بمنتصف السبعينيات، دبابات “أيه إم إكس 13″، ومدافع فرنسية الصنع إلى المغرب عن طريق وساطة إيرانية “زمن حكم الشاه” لدعمها في حربها أمام جبهة البوليساريو.

كما قدمت تل أبيب الدعم من خلال الخبراء والمستشارين الذين دربوا المغاربة على تكتيكات مواجهة التمرد، وفقًا لـ The Israeli Institute for Regional Foreign Policies.

التقارير الإسرائيلية تشير إلى أن التعاون بين الطرفين شمل التعاون الاستخباراتي، فضلًا عن بيع أنظمة تحكم واتصال عن طريق طرف ثالث، كما ساعدت إسرائيل المغرب بالحصول على أسلحة وأدوات جمع معلومات استخباراتية، وكيفية استخدامهما.

لعب أندريه أزولاي، المستشار لليهودي الذي عينه الملك الحسن الثاني “والد ملك المغرب الحالي”، دورا في الاتصالات السياسية في اتفاقات أوسلو عام 1993، لكن حاليا يجد المغرب في إسرائيل وسيلة لاسترضاء الغرب من أجل تأييده بمطلبه بسيادته على الصحراء الغربية.

انتقل التطبيع العسكري السري إلى العلن في نوفمبر 2021، حينما وقع المغرب وإسرائيل مذكرة تفاهم في مجال التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي والسيبراني وتداول المعلومات الاستخباراتية، وإجراء تدريبات مشتركة، فضلًا عن إبرام صفقات تسليح.

فيما بعد، قام المغرب بشراء أنظمة “سكاي لوك دوم” المضادة للطائرات بدون طيار في عام 2022 مقابل 500 مليون دولار، بالإضافة إلى أنظمة الصواريخ “باراك” في عام 2023 مقابل 500 مليون دولار أيضًا.

في 2024، تم افتتاح منشأة لتصنيع الطائرات بدون طيار من قبل شركة “بلو بيرد إيرو سيستيم” الإسرائيلية بالمغرب، بجانب اعتزام المغرب الحصول على قمر صناعي للتجسس طراز (Ofek 13) من شركة IAI الإسرائيلية في صفقة بقيمة مليار دولار، على أن يتم تسليم القمر في خلال خمس سنوات.

الإمارات.. استثمار ومصالح عسكرية وسياسية

الأمر ذاته ينطبق على الإمارات التي استطاعت الاستفادة سياسياً من علاقاتها السرية القائمة منذ فترة طويلة مع إسرائيل، والتي أصبحت أكثر جرأة بعد إعلان الإذاعة العامة الإسرائيلية مؤخرا أن أبوظبي اشترت أرضًا بإسرائيل لبناء سفارة دائمة.

ووفقًا للتقرير الإذاعي، قُدّرت قيمة الصفقة بعشرات الملايين من الشيكلات “الشيكل عملة إسرائيل”، وأضافت أن سلطة أراضي إسرائيل ومكتب رئيس الوزراء نتنياهو، شجعا وساعدا في هذه الخطوة، حتى تستقر البعثة الإماراتية التي تتنقل بين مواقع مستأجرة منذ إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات بموجب اتفاقيات إبراهيم.

رغم التنقل لا تزال سفارة إسرائيل في أبوظبي، البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية الوحيدة العاملة بكامل طاقتها في الشرق الأوسط، كما تستمر الرحلات اليومية بين الإمارات وتل أبيب، بما يفوق عشر رحلات جوية يوميًا، في حين أُوقفت الرحلات إلى دول عربية أخرى.


وفي مارس الماضي، زار وفد من كبار ممثلي المستوطنات الإسرائيلية العاصمة أبوظبي، في سابقة من نوعها بالمنطقة، واستقبله علي راشد النعيمي، عضو المجلس الوطني الاتحادي، الذي أشار إلى أن اللقاء كان صعبًا في بدايته، لكن بعد ساعتين من النقاش، أعرب أعضاء الوفد عن استعدادهم لبدء مفاوضات بعد انتهاء الحرب.

التشجيع الأمريكي

يوسي ميلمان، مراسل الشؤون الاستراتيجية والاستخباراتية السابق بصحيفة “هآرتس”، يقول إن العلاقات بين الطرفين تمتد لـ 20 عامًا، تطورت بفضل طبيعة المصالح المشتركة بينهما، فالإمارات تُطور علاقاتها مع إسرائيل، ليس كدولة ذات تمثيل رسمي فيها، بل على أساس صفقات أسلحة ومعلومات استخباراتية بمليارات الدولارات تلقتها “أبوظبي”.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ساهم في تعزيز تلك العلاقات بعدما سمح لإسرائيل ببيع تقنيات عسكرية للإمارات تعتمد على التكنولوجيا الأمريكية، إذ باعت شركة NSO الإسرائيلية للأمن السيبراني برمجيات إلى أبوظبي، بحسب ميلمان، تُمكّن الدولة من التجسس على هواتف مواطنيها.

في عام 2022، نشرت الإمارات العربية المتحدة نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي الصنع “باراك” قرب قاعدة الظفرة الجوية، الواقعة جنوبي أبوظبي.

وكشف آفي شاريف، مراسل صحيفة “هآرتس” العبرية، عن رصد عشر طائرات شحن كبيرة تابعة للقوات الجوية الإماراتية في قاعدة نيفاتيم الجوية الإسرائيلية. وجاء ذلك بعد أن كشفت وكالة رويترز عن شراء الإمارات لمنظومة سبايدر المضادة للطائرات الإسرائيلية الصنع، أن الإمارات اشترت نظام دفاع جوي إسرائيلي آخر “لم يذكر اسمه”.

العامل الإيراني

في مؤتمر بقيادة الولايات المتحدة في وارسو فبراير 2019، الذي كان يُنظر إليه في الأصل على أنه تجمع مناهض لإيران، تحدث دبلوماسيون من السعودية والإمارات والبحرين عن التهديد الذي تشكله إيران على أمنهم، وأكدوا أن مواجهة إيران أصبحت الأولوية القصوى قبل حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

نتنياهو ردد مخاوف مماثلة لنفس التصريحات التي قالتها الوفود الخليجية، وكذلك المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، برايان هوك، الذي قال إن إيران كانت على رأس جدول أعمال وارسو؛ لأن السياسة الخارجية الإيرانية هي المحرك الأكبر لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، بحسب قوله.

استغلت إسرائيل حينها الهجمات بطائرات بدون طيار على منشأتي نفط سعوديتين، ورغم إعلان ميليشيا الحوثي مسئوليتها عن الهجمات التي استخدمت فيها 10 طائرات مسيرة، قالت وكالة رويترز، إنه تم بتخطيط وفعل إيراني مباشر لمعاقبة أمريكا على انسحابها من الاتفاق النووي وفرضها عقوبات اقتصادية على طهران.

2019.. التقارب البحريني الإسرائيلي

كان عام 2019، أيضًا مفصليًا فبسبب الهجوم على منشآت النفط بالسعودية، شهدت العلاقات بين البحرين وإسرائيل تقاربًا بشكل ملحوظ،

وقتها قال وزير خارجية البحرين على هامش ورشة عمل اقتصادية نظمتها الولايات المتحدة في البحرين استمرت يومين، إن إسرائيل جزء من تاريخ المنطقة، كما أعلن حينها وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس (وزير الحرب الحالي)، أنه التقى بنظيره البحريني خلال زيارة لواشنطن.

اجتمع في أكتوبر 2019، ممثلون من أكثر من 60 دولة بما في ذلك إسرائيل في البحرين، لمناقشة الأمن البحري في أعقاب هجمات على ناقلات نفط في الخليج ومنشآت نفطية سعودية، وبعدها بشهور وافقت المنامة على السماح للرحلات الإماراتية من وإلى إسرائيل بالتحليق في أجوائها.

أسهمت سياسات الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن في الجفاء مع الخليج في تقديم إسرائيل نفسها كبديل، فالدول الخليجية طالبت بايدن بمزيد من الدعم الأمني “حتى لا يكون هناك فراغات، وحتى لا تكون هناك إمكانية لـ”إعطاء الفرص للاعبين الآخرين للانتقال إليها”.

قطر.. عزاء واعتذار

ظهر أول دليل علني على علاقات الدوحة بإسرائيل بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين عام 1995، حيث حضر وزير الإعلام القطري حمد بن عبد العزيز الكواري في القدس مرتدياً الزي العربي الكامل، وقام خلف رابين، شمعون بيريز، بزيارة الدوحة في عام 1996.

بداية العلاقة المؤسساتية بين قطر وإسرائيل تعود لعام 1996، حينها كانت الدوحة أول دولة تقيم علاقات تجارية مع إسرائيل، من خلال إقامة مكتب تجاري إسرائيلي حتى إغلاقه عام 2000 مع بداية الانتفاضة الثانية.

من خلال هذا المكتب، تم التوقيع على اتفاقية لبيع الغاز القطري إلى “إسرائيل”، وإنشاء بورصة الغاز القطرية في تل أبيب، والسماح لمستوطني الكيان من زيارة قطر بجوازات سفرهم.

كان أحد الدوافع الرئيسية لإقامة الدوحة علاقات مع إسرائيل هو الاعتقاد، بأن “تل أبيب” ستساعد قطر على التأثير على الولايات المتحدة عبر لوبي الضغط اليهودي، لكن قطر في هذا المجال لم يحركها الخوف من إيران، فالاثنان “إيران وقطر” لهما علاقة جيدة بحماس، و”حقل غاز الشمال” البحري الضخم التابع لقطر، يجاور “حقل بارس الجنوبي” الإيراني، ما يفرض حالة من التشارك القسري، تحتم على الدوحة بشكل أساسي الحفاظ على علاقات جيدة مع طهران.

مع الهجمات التي شنتها تل أبيب في 9 سبتمبر الماضي على مبان سكنية في العاصمة القطرية الدوحة، كان فيها قياديون من المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، راهن كثيرون على انتهاء 3 عقود من العلاقات الوديّة بين تل أبيب والدوحة، لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو اعتذر لدولة قطر عن استهداف أراضيها، وجرى الاعتذار من البيت الابيض خلال لقاء ترامب ونتنياهو، وقبلت الدوحة الاعتذار.

السعودية وإسرائيل.. مد وجزر

على مدى أكثر من عقد، زار مسئولون إسرائيليون الرياض سراً، من ضمنهم بيني جانتس، عندما كان رئيساً للأركان، ورؤساء الموساد مئير دغان وتامير باردو ويوسي كوهِن، أحد الأهداف كان التنسيق الأمني، وخصوصاً ضدّ إيران.

كان المحرك الأول لتلك العلاقات هو الأمن، إذ باعت شركة “NSO” للسعودية برنامجها التجسّسي، “بيجاسوس“، كما شجعت الحكومة الإسرائيلية شركتين أخرييتن على مواصلة العمل مع المملكة العربية السعودية، وأصدرت ترخيصًا جديدًا لشركة رابعة للقيام بعمل مماثل.
لاحقاً، اشترت السعودية قدرات سايبر أيضاً من شركات إسرائيلية أخرى، بعضها بصورة مباشرة وبعضها بواسطة عقود فرعية مع شركات أجنبية. لكن السعودية قلصت ذلك التعاون بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، وربطت أي تطبيع مع إسرائيل بشرط بإقامة دولة فلسطينية، وهو ما يعارضه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشدة.