إسرائيل ليست دولة طبيعية، بل هي مشروع حربي، بالحرب نشأ، وبالحرب يكافح من أجل البقاء، وبالحرب يسعى لفرض سيطرته في الإقليم، دولة تتوافق كافة مكوناتها، على أن الحرب ضرورة وجودية لا بديل عنها ولا نقطة تتوقف عندها، حرب لا يوقفها السلام، لكن السلام يقوم مقام الحرب، ويؤدي أغراضها بكفاءة، فكل مشروع للسلام هو عند إسرائيل ذو هدفين كبيرين: إضعاف الطرف الآخر كلما أمكن ذلك، ثم بعد إضعافه، يتم دفعه للاعتماد على إسرائيل في كثير من احتياجاته، بحيث يرتبط أمنه وسلامه واستقراره بضرورة الحفاظ على أمن وسلام واستقرار، بل وازدهار إسرائيل، ومن هنا، يتحول الطرف الآخر- وهو هنا، أي دولة عربية- إلى قوة حماية لأمن إسرائيل عن قصد أو بدفع تلقائي من تطور علاقة الاعتماد المتبادل بينه وبين إسرائيل. هذا لا ينطبق فقط على ما حول إسرائيل من دول عربية وإسلامية فقط، بل ينطبق كذلك على الطرف الفلسطيني ذاته، بما أنه هو الطرف العربي الأصيل المعني بقضية تحرير فلسطين أو بإقامة دولة فلسطينية، فمنظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964 لتنجز ثلاثة أهداف هي: تحرير فلسطين، إقامة الدولة الفلسطينية، عودة اللاجئين إلى بيوتهم التي فارقوها وأرضهم التي هجروها، لكن لم تمر ثلاثون عاماً بالكاد، حتى كانت المنظمة- تحت قيادة فردية استبدادية مثل كل القيادات العربية- قد دخلت في مفاوضات سرية مع عدوها التاريخي، انتهت باتفاقات أوسلو 1993، والتي أسست السلطة الوطنية الفلسطينية التي جسدت في مرحلتها الأولى اضمحلال قيادة ياسر عرفات القائد الرمز، ثم جسدت في مرحلتها الثانية اضمحلال الفكرة من أساسها، اضمحلال فكرة تحرير فلسطين، اضمحلال فكرة إقامة دولة فلسطينية حقيقية، اضمحلال فكرة عودة اللاجئين، لقد ترك عرفات كل ذلك ليجسده من بعده- بكفاءة ومهارة- خليفته والرجل الثاني في قيادة منظمة التحرير، وهو محمود عباس وشهرته أبو مازن، ومشكلته ليست في عدم اقتناعه بجدوى الكفاح المسلح، وليست في تواضع أهدافه وسقوط همته وانحلال عزيمته، لكن مشكلته أنه يفكر ويتصرف ويتحرك وفق منطق عدوه، يحترم المنطق الصهيوني بحذافيره، ويخضع لقوة الواقع في استسلام قدري كامل، فاقد للدافع الذاتي، لا يُلهم نفسه ولا يلهم غيره ولا يوحي من قريب أو بعيد بعقلية مهمومة أو قيادة مشغولة، أو زعامة تناضل لحشد الطاقات وبناء القدرات لتحقيق أي هدف. أبو مازن هو المشروع الفلسطيني عند نقطة الصفر. قيادة أبو مازن هي خاتمة مائة عام من النضال الفلسطيني من 1925 حتى 2025، انتهت إلى ازدواج وانقسام حاد، حيث: سلطة أبو مازن تعيش على منطق العدو في الحدود والمساحات وتحت السقوف التي يرسمها العدو ، ثم سلطة المقاومة حيث منطق التاريخ، يتجسد في الحق الفلسطيني، تعبر عنه الرغبة العاصفة في الاستشهاد الجماعي، إذ يستشهد القائد وأولاده وأحفاده، من كان منهم في ميدان القتال، ومن كان مدنياً، بل ومن كان طفلاً رضيعاً لا فرق .
في هذه الحقبة، فإن نموذج أبو مازن هو المطلوب، وليس نموذج المقاومة، نموذج أبو مازن تعبير صادق أمين عن الموقفين العربي والإسلامي، هو تعبير عن حالة كبرى انفقدت فيها البوصلة، وسقطت فيها المروءة، وانعدمت فيها النخوة وتلاشت فيها العزيمة وغابت عنها الرؤية، أبو مازن حالة موضوعية أو نتاج حالة موضوعية، وليس فقط طائع شخصية أو اختيارات فردية ، أبو مازن هو روح اللحظة الاضمحلالية المنكسرة في تاريخ العرب المعاصرين، لحظة صنعتها زعامات أخفقت في قيادة شعوبها وبلدانها للتقدم الاقتصادي أو العلمي أو السياسي أو الاجتماعي، لحظة يحصد فيها العالم العربي إخفاقات مخجلة على كل صعيد بعد مائة عام من التحرر من الاستعمار، وهي ذاتها المائة عام من خضوع فلسطين للاستعمار ثم الاغتصاب، مائة عام مهدرة، فلا العرب تقدموا ولو في مجال واحد، وفلسطين لم يتحرر منها شيء، ولا حتى شبر واحد، لقد صار العرب- كل العرب- الحيطة الواطية في المنطقة والعالم، لقد وقف العالم كله يتفرج على المقتلة العظمى عامين كاملين في غزة، ثم بعدما لم تجد المقتلة من تقتله، قرر العالم المنحط المنافق أمرين: اعترافات مسرحية هزلية، بما يسمى دولة فلسطين، وصدق العرب الرسميون ذلك، رغم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت قرار الاعتراف بدولة فلسطين عام 1988، ثم قرروا مبادرة الرئيس الأمريكي لوقف الحرب، فاحتشد العرب كلهم يمدحونه ويبجلونه، وهو ليس أقل من مجرم مكتمل الإجرام وشريك كامل الشراكة مع إسرائيل في مقتل عشرات الألوف من أطفال وعجائز وشيوخ ونساء وأبرياء في غزة.
نموذج أبو مازن- بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً على أوسلو- جاهز ومجهز لتعميمه في دول الخليج العربية التي لا تخفي استعدادها التام للدخول تحت مظلة السلام الإسرائيلي الذي سوف يكون وتد الخيمة في بناء الشرق الأوسط في المستقبل القريب. حرب الإبادة عطلت أو أجلت أو أبطأت خطى السلام الاسرائيلي نحو الخليج، لكن الخطوط مفتوحة دون عوائق؛ لاستئناف ما كان قد تعطل أو تأجل. السلام الإسرائيلي هنا معناه استراتيجي، ليس مجرد علاقات طيبة بين بلدين متعاقدين، لكن له معناه في شمول نوع من الحماية أو الضمانات أو الكفالة، يقدمها الطرف الأقوى في التعاقد للطرف الأضعف، تماماً مثلما نقول السلام الروماني PAX ROMANA، أي أن الرومان بسطوا حمايتهم على من دخل في سلمهم، وتماماً مثلما نقول السلام الأمريكاني PAX AMERICANA، أي من تشملهم أمريكا بحمايتهم.
دول الخليج في المستقبل القريب، سوف تكون الجائزة الكبرى لإسرائيل، قبل أن تكمل مائة عام من تاريخها كدولة 1948- 2048، فبعد ثلاثة عشر عاماً من الآن، سوف تحتفل إسرائيل بأمرين: مرور مائة عام على تأسيسها، ونجاح السلام والتطبيع مع الخليج العربي، بما يعنيه من مدد اقتصادي مرعب، يضخ القوة والنماء والازدهار في شرايين المشروع الصهيوني والدولة الإسرائيلية. دول الخليج صغيرها وكبيرها لديها ثروات تغري من حولها بالعدوان، ولديها ضعف هيكلي يجعلها هدفاً مستباحاً، لولا حماية الإنجليز من قبل، ثم الأمريكان من بعد، وجزء من تأديب أمريكا وأوروبا لصدام حسين بعد غزو الكويت، ليس بسبب حماقة الغزو في ذاتها، ولكن بسبب جرأته على ما يعتبره الغرب منطقة نفوذ ومصالح وحماية، لا يجوز لأحد المساس بها أو الاقتراب منها، وهذا ما تفهمه إيران فهماً ممتازاً، فهي تعلم علم اليقين، أن الخليج العربي وديعة مؤَمن عليها في ودائع ومستحفظات الاستراتيجية العسكرية الغربية. بعض دول الخليج لا تملك غير قوة دفاع أقرب ما تكون لشرطة عسكرية، وبعضها ذهب تحت تأثير الخوف من تكرار غزو الكويت؛ ليكون بؤرة عسكرية ضخمة، تتجاوز منطق الدولة، وكلها لديها تحفظات غير معلنة على تأسيس جيوش وطنية حقيقية، تحمي أمنها، هذه التحفظات منشؤها خوف قديم من انقلابات الجيوش على الملوك: انقلب الجيش المصري وأطاح بأعرق ملكية، وانقلب الجيش العراقي وأطاح بالملكية الهاشمية، وبقيت الملكية الهاشمية في الأردن؛ لأن لديها ضماناً بالحماية، وبقيت الملكية المغربية بفضل دهاء الحسن الثاني وقسوته التي لا ترحم. بقيت دول الخليج رهينة الفكرة: إذا وجدت جيوش وقعت الانقلابات والعرش الذي يطيح لا يعود. دول الخليج كانت وما زالت في وضع صعب، تزداد فيه الأطماع، سواء من الشقيق أو من البعيد، وتزداد من حولها المخاطر، ولا شيء مضمون بما في ذلك أمريكا إلا بدفع من إسرائيل التي تتسلم مفاتيح الأمن الخليجي، بعد أن ألزمت إيران، أن تهجع خلف حدودها بعد نصف قرن لم تتوقف فيه عن تهديد أمن الخليج.
المشروع الصهيوني جاهز بمشاريع السلام حتى من قبل تأسيس الدولة، ومن قبل أن يحارب من أجل الدولة، المشروع الصهيوني قائم الحرب بالسلاح، تمهد الطريق للحرب بالسلام.