كانت مشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في قمة شرم الشيخ الأخيرة- بين أكثر من ٢٠ رئيس دولة وحكومة- مشهدا ذا دلالة إيجابية، خاصة بالنسبة لي، فقد جاء هذا المشهد- بالمقدمات التي مهدت له- متفقا مع رؤيتي لإعادة ترتيب الأوضاع الجيو استراتيجية في الشرق الأوسط، وهي الرؤية التي طرحتها هنا عدة مرات، كان أحدثها في المقال الرابع من سلسلة مصر ودول الخليج وإسرائيل الكبرى، والتي نشر المقال الخامس والأخير فيها في الأسبوع الماضي.
لاحقا، سوف أعود في هذا المقال إلى المقدمات البعيدة لتأسيس علاقة شبه خاصة بين مصر وتركيا منذ العقد الأخير من القرن الماضي، ولكن أتناول الآن الأسباب الأحدث، والمقدمات المباشرة لمشهد أردوغان في شرم الشيخ، احتفاء بتوقيع اتفاق وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وتبادل الأسرى والرهائن بين حركة حماس وبين إسرائيل، ففي البداية هناك العلاقة الخاصة بين حكومة أردوغان وبين حركة حماس، بحكم انتماء الطرفين إلى الإسلام السياسي، وهو ما دفع البيت الأبيض الأمريكي إلى توظيف الدور التركي في بناء قدر معقول من الثقة مع قيادة الحركة، وإلى دعوة الرئيس التركي ضمن الزعماء العرب والمسلمين الذي قابلهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ،في الشهر الماضي، للتفاهم حول مبادرة أمريكية لوقف القتال في غزة.
وقد نصت هذه المبادرة التي أصبحت تعرف بخطة ترامب ذات الإحدى وعشرين نقطة على مشاركة تركيا في القوات العربية و الإسلامية؛ لحفظ الأمن والسلام في غزة، وعلى مساهمة الشركات التركية في مشروعات إعادة إعمار القطاع، وبغض النظر عن اعتراض إسرائيل على هاتين النقطتين، فإن المحصلة النهائية هي أن تركيا أصبحت، أو ستصبح طرفا مباشرا وعلى الأرض في القضية الفلسطينية، بعد أن كانت تمارس دورها- حتى وإن كان مؤثرا- من الصفوف الخلفية.
على أية حال، ليست غزة وحدها هي جبهة الاحتكاك أو التوتر الاستراتيجي بين إسرائيل وتركيا، إذ تسبقها وتوازيها الجبهة السورية، خاصة بعد قيام النظام الحالي، المنبثق عن جبهة تحرير الشام، التي عاشت طويلا في محافظة إدلب تحت الرعاية التركية، والتي دخلت دمشق تحت هذه الرعاية أيضا.
نعرف أن إسرائيل انتهزت الخلخلة الناشئة في سوريا؛ لتدمير ما تبقى من أرصدة عسكرية في سوريا، واحتلت أراضي سورية جديدة، وفرضت حمايتها على مناطق الدروز في الجنوب السوري، وتطرح خططا للتمدد عبر الجنوب السوري، والتفافا حول قلب الشام إلى الشمال الشرقي الكردي، سواء في سوريا أو في العراق، وهنا يأتي الخطر الإسرائيلي مباشرة إلى البطن الرخوة لتركيا في جنوب الأناضول، وهكذا تصبح المواجهة الاستراتيجية بين الجانبين حتمية، بل وعلى أعلى مستوى من الأهمية أو الإحراج للأمن القومي التركي، ولكرامة وهيبة الدولة التركية، بوصفها واحدة من أهم وأكبر دول الإقليم، وبوصفها وريثة الإمبراطورية العثمانية التي سادت الشرق الأوسط كله عدة قرون، إلى جانب القوقاز والبلقان، وكل حوض البحرين المتوسط والأسود.
هنا بالضبط تظهر حتمية التعاون الاستراتيجي بين تركيا وبين مصر بالذات، التي سبق أن قلنا عنها إنها وللأسباب الجيو بوليتيكية البحتة، لا تقبل الهيمنة الاسرائيلية على الإقليم، بما يعزلها (أي مصر) عن المشرق العربي والخليج، وبما يهدد كرامتها الوطنية وأمنها القومي، فضلا عن مصالحها الاقتصادية الحيوية، وعن وراثة دورها في القيادة الإقليمية، وفي موقع الوسيط الجغرافي بين أوروبا وكل من الخليج وجنوب وشرق آسيا، ولنتذكر فقط المشروع الأمريكي المسمى بالممر الاقتصادي بين الهند وبين إسرائيل، مرورا بالخليج والسعودية.
ومثلما قلنا في المقال السابق عن العلاقات المصرية السعودية، إنه أمام خطر التوسع الإمبراطوري لليمين الإسرائيلي، فلا مجال لصغائر الأمور، ولا لصغار العقول، ولا لأية تناقضات ثانوية، فإن ذلك ينطبق أيضا على العلاقات المصرية التركية، خاصة بعد أن زالت أسباب التأزم الطارئة في تلك العلاقات، والتي يعرف الجميع ملابساتها وتطوراتها، بما لا داعي معه لتكرارها هنا.
لكن الذي ينبغي تكراره والتأكيد عليه دوما، هو ما قلناه آنفا، ووعدنا بالعودة إليه بشيء من التفصيل، أي تأسيس علاقة شبه خاصة بين مصر وتركيا منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ اكتشف البلدان في وقت واحد تقريبا، أن التوازن الإقليمي والمصلحة المشتركة يحتمان تعاونهما في قيادة الإقليم.
كانت تركيا تحت قيادة كل من نجم الدين أربكان، ثم سليمان ديميريل، ثم تورجوت أوزال قد أعادت اكتشاف مصالحها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية في الشرق الأوسط، بعد فترة طويلة من الانكفاء الداخلي؛ بسبب الصراعات المحلية، أو الاتجاه غربا؛ بسبب الحرب الباردة، والتوجس النخبوي من الإسلام والعروبة، وكانت مصر من ناحيتها تبحث عن شركاء إقليميين موثوقين، بعد الفشل المدوي لمجلس التعاون العربي مع العراق والأردن واليمن؛ بسبب الغزو العراقي للكويت، وايضاً بعد فشل إعلان دمشق بين مصر وسوريا ودول الخليج، وكذلك بعد اكتفاء دول الخليج بتنظيمهم الإقليمي، وتأسيس ما كان يعرف باتحاد المغرب العربي، ولم يكن هناك أفضل ولا أهم من تركيا؛ لتكون هي الشريك الإقليمي المناسب لمصر في تلك الظروف، التي ينكفئ فيها الجميع على أنفسهم.
في تلك الحقبة، توسع التعاون الاقتصادي تجارة واستثمارا بين البلدين، واستطاع الرئيس المصري حسني مبارك الحيلولة دون حرب تركية سورية؛ بسبب رعاية دمشق وقتها لعنف حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي التركية، وإيوائها لزعيم الحزب عبد الله أوجلان، وتأسست مجموعة الدول الثماني الإسلامية بمبادرة تركية مصرية.
في تلك الحقبة أيضا، كان المسئولون الأتراك يتوافدون على القاهرة بانتظام، وكانت الوفود المصرية لا تنقطع عن زيارة تركيا، وفي واحدة من تلك المناسبات عام ١٩٩٨، وعلى عشاء في السفارة التركية قال لي: يشار ياكيش السفير التركي في القاهرة- آنذاك- باعتزاز واضح بمصر، إن الأتراك وجدوا في مصر قبل أن يوجدوا في تركيا، في إشارة إلى الدولتين الطولونية والإخشيدية، وإلى الطور الأول من دولة المماليك، وقد أصبح ياكيش فيما بعد وزيرا للخارجية في أول حكومات حزب العدالة والتنمية، وكانت برئاسة عبد الله جول، عندما كان أردوغان مسجونا كمحاولة أخيرة فاشلة؛ لمنعه من رئاسة الحكومة، لكن هذه ليست قصتنا الآن على أية حال.
أخيرا، مصر مع تركيا شريكان على قدم المساواة في كل شيء، ومُرحب بهما في الإقليم، ولو بعد حين، أما أية شراكة عربية إسرائيلية فهي نزوة من جانب الشريك العربي، واحتيال من جانب إسرائيل… والنزوة والاحتيال كلاهما إلى زوال وإن طال المدى.