متغيرات عديدة تتلاحق في المشهد الإقليمي منذ بداية العام، الجيش السوداني يحرز تقدما في مواجهة ميليشيا الدعم السريع، ويستعيد مدنا ومساحات واسعة من البلاد.
النظام في سوريا يتغير، ويتولى أحمد الشرع رئاسة الإدارة المؤقتة للبلاد، وسط ترحيب من معارضي النظام السابق في مصر ومناف أخرى، والذين ينتمي عدد منهم لليسار، هكذا يقولون.
تلك المتغيرات، طرحت أو أعادت طرح تساؤلات، منها أو لعله أهمها، التساؤل الذي عنونا به مقاربتنا هذه “متى يعود اللاجئون إلى بلدانهم؟”.
التساؤل على قدر من الأهمية والوجاهة، التي يمكن القول، إنها زادت عقب قرارات الرئئيس دونالد ترامب الخاصة بإلغاء الحماية المؤقتة التي كانت ممنوحة للسوريين المقيمين بالولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب تغير النظام في سوريا.
عودة اللاجئين وطالبي اللجوء إلى بلدانهم، والكلام هنا عن أولئك الموجودين في مصر، بعد تغير النظام في سوريا، أو رجحان كفة الجيش السوداني عسكريا على حساب قوات الدعم السريع، بات موضوعاً يستحق الطرح، خاصة مع كونه عنصرا أساسياً يدعم موقف النظامين، السوري و السوداني.
فمن المعروف، أن عودة اللاجئين هو جزء من دعاية أى نظام أمام المجتمع الدولي؛ للتدليل على استقرار الوضع في بلاده في أعقاب الحروب أو الثورات أو الاضطرابات، أو أنه المنتصر، أو أن نظامه المستجد جاهز لاحتضان شعبه الموجود في المنافي.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى عشرين عاما مضت لنسترجع ما حدث في دارفور بالسودان في عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير، سنجد مثالا واضحا على تشجيع (وأحيانا ترهيب) اللاجئين للعودة إلى البلاد. بل أن الأمر امتد وقتها إلى النازحين داخليا.
وأذكر أنني في العام 2007، كنت أعمل ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بشمال دارفور، وحضر لزيارتنا الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك- بان كي مون- فى مقر قوات الاتحاد الإفريقي بمدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، وتحدث إليه أحد كبار موظفينا، قائلا إن دعاية الحكومة السودانية الخاصة بعودة النازحين داخليا في دارفور طواعية إلى قراهم غير صحيحة.
وقتها أخبرت الأمين العام، وأنا أقوم بتعريف نفسي، أن جزءا هاما من عملي بمخيم أبو شوك للنازحين هو عمل محاضرات توعوية وتوجيهية للنازحين الجدد من قراهم إلى المخيم.
بالطبع، وصلت المعلومة للأمين العام فأومأ بابتسامة خفيفة، لكنني سمعت ضحكات على استحياء من بعض الحاضرين على المفارقة الحية، والدليل الواضح على استمرار مأساة النزوح.
فلنعد إلى مصر.. الآن وهنا، حيث بدأت الشكاوى تتزايد من ضغوط من قبل عناصر حكومية سودانية على بعض اللاجئين، خاصة النشطاء منهم للعودة إلى السودان، ولم يخل الأمر من بعض المغريات.
أيضا، هناك معلومات غير مؤكدة، تتعلق بطلب حكومة السودان من نظيرتها المصرية لتجميد اتفاقية الحريات الأربع بين البلدين “التي تنص على التنقل والإقامة والعمل والتملك”، خاصة حرية الدخول، للحد من عدد الفارين من السودان إلى مصر؛ لأن فرارهم يعني استمرار وجود الانتهاكات في دارفور.
– مؤخراً عادت أعداد قد تتجاوز المائتي ألف من السودانيين طواعية إلى ديارهم منذ مطلع العام الجاري، ونظمت الدولة المصريةــ بشيء من الذكاءــ رحلات أسبوعية للعائدين مجانا (حوالي 800 فرد في الرحلة الواحدة) مصحوبة بتغطية إعلامية جيدة على سبيل الدعاية، والتأكيد على حسن وفادتنا لأشقائنا السودانيين، ولا يخلو الأمر من دعم لموقف الجيش السوداني الذي بسط سيطرته على مواقع جديدة، كانت تحت نفوذ قوات الدعم السريع.
لكن وتيرة العودة الطوعية تباطأت بالنسبة للسودانيين لأسباب أمنية واقتصادية، وساء الأمر بعد انتشار حمى الضنك في العديد من أنحاء البلاد هناك.
على الصعيد السوري، نشرت قناة الجزيرة “المعروفة بتأييدها لرئيس المرحلة الانتقالية “نقلا ً عن تقرير لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن هناك مليون لاجئ سوري عادوا إلى البلاد منذ ديسمبر 2024 وقت استيلاء الشرع على الحكم في سوريا.
التقرير نشرته المفوضية بالفعل، لكن مصادر سورية مناوئة للشرع، أكدت أن العدد مبالغ فيه.
وبغض النظر عن صحة الرقم، فإن عودة اللاجئين إلى سوريا يمثل جملة مكاسب سياسية للشرع، فهي دعاية للنظام، كدليل على استباب الأمن في البلاد، وتوطئة– من جهة أخرى- لطلب دعم دولي لتوطين العائدين.
الرغبة في اقتناص هذه المكاسب، تفسر ثلاثة مواقف، أعتقد أنها مرتبطة بالضغط لعودة اللاجئين السوريين الموجودين في مصر والذين وجدوا– بكل تأكيد- أن بقاءهم في مصر أفضل بكثير من عودتهم لبلادهم.
هذه المواقف الثلاثة هي: شكر الشرع للسعودية وتركيا وقطر على استضافة لاجئي سوريا دون ذكر مصر، والتصريح المستفز لفنان سوري مغمور ضد فنانينا، وأخيرا تلك المظاهرات التي انطلقت (ليست عفوية بالتأكيد) أمام السفارة المصرية بدمشق منددة بموقف مصر من قضية غزة.
أغلب الظن، أن هذه المواقف لا تخرج عن كونها مساع من الحكومة السورية لخلق تيار عام مصري رافض لوجود اللاجئين السوريين، لربما أسهم ذلك في إجبار البعض على العودة إلى سوريا.
ينبغي هنا التأكيد، على أن الدولة السورية حاليا تستقبل ــ وتحرص ــ على عودة دفعات فقط من الموالين، وليس جميع السوريين، وهي نظرية أميل إلى تصديقها.
لا شك، أن مغادرة اللاجئين لمصر هو أمر “قد يرضي جميع الأطراف”، فالدولة المصرية تشكو من تزايد الأعباء، خاصة من غير المسجلين لدى المفوضية مثل مئات الألوف من السوريين الذين فضلوا الحصول على إقامات عادية (دراسة الأبناء أو إنشاء مشروعات) عن صفة لاجئ التي قد تفرض عليهم بعض القيود، خاصة في مسألة السفر خارج مصر.
وبالنسبة لمفوضية اللاجئين، هو الحل الأمثل الذي ينهي جزءا كبيرا من أعبائها التي تفاقمت بشكل مطرد، حتى أنها اضطرت لإغلاق أحد مخيمات اللاجئين في جنوب إفريقيا، وألغت بعض برامج الحماية الجندرية، والذي يعد من أهم برامج الحماية بها.
بالعودة إلى السؤال المركزي “متى يعود اللاجئون إلى بلادهم؟”، انتقالا من السياسي والعملاني إلى القانوني، بحسب القانون الدولي الذي ينظم ضوابط وشروط تلك العودة.
يلزم القانون الدولي الدول المضيفة، ومنها مصر بالتأكيد، بعدم طرد أو رد “الرد هنا بمعنى، أن تعيد الدولة شخصا، دخل حدودها طالبا اللجوء”، اللاجئ أو طالب اللجوء، والذي يعتبر لاجئا، إلى أن يثبت غير ذلك.
ووفقا لسجلات مفوضية اللاجئين بالقاهرة، فإن هناك حتى الثلاثين من سبتمبر 2025 ما يربو على مليون وستة وخمسين ألف لاجئ، وطالب لجوء تحت ولايتها، لا يجوز ترحيلهم قسرا.
أي أن الدولة المصرية لا يجوز لها قانونا ترحيل لاجئ أو طالب لجوء إلا في حالات ضيقة، نصت عليها المادة 33 من اتفاقية 1951 الخاصة بوضعية اللاجئين.
في المقابل، فإنه في حال بدأت الأمور في بلد اللاجئ الأصلي في الاستقرار، فإن كل من مفوضية اللاجئين، بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة تشجع العودة الطوعية، باعتبارها الحل الأمثل، ولكن هذا الخيار محكوما بشروط، منها أن تكون العودة آمنة وبكرامة، وأن تكون هناك الخدمات والمرافق الأساسية مثل التعليم والصحة والكهرباء… إلخ. وقد وضع بعض فقهاء القانون الدولي، قاعدة (الخمس إعادات) أو الخمسة RE:
Reconstruction: أي إعادة البناء للبلد إن كان مدمرا.
Reconciliation: أي المصالحة التي يجل التوافق عليها لإنهاء الصراع.
Recognition: أي الاعتراف بالشهادات والخبرات التي حصل عليها اللاجئ في بلد اللجوء.
Rehabilitation: أي إعادة التأهيل لمن أضيروا من جراء الصراع الذي أدى إلى تلك الهجرة القسرية.
Reintegration: أي إعادة إدماج هؤلاء العائدين في وطنهم مرة ثانية.
ويجدر القول هنا، إن هذه الشروط لا تخلو من طوباوية “مثالية” ومن الصعب، أن تتحقق كلها إلا في عالم مثالي، لذلك تسعى الجهات الدولية لتشجيع (وأحيانا تمويل) عمليات العودة الطوعية عند توفر عنصري الأمان والكرامة فقط.
السؤال الثاني هنا هو: هل يُجبر اللاجئ أو طالب اللجوء على العودة، إن أصبحت بلده الأم آمنة وصالحة للعيش؟
-الإجابة هي أن الأمر لا يمكن أن يحدث بشكل جماعى بل case by case، أي كل حالة على حدة، فهناك من واجهوا التعذيب أو الاغتصاب، أو شهدوا مقتل عائلاتهم أمام أعينهم، فأصيبوا بما يسمى في علم النفس “كرب ما بعد الصدمة” أو PTSD، وهي حالة نفسية، قد تستمر لعقود، وليس لسنوات، وتصبح إعادة المصاب بها إلى بلاده- حتى وإن تحسنت الأمور أو أزيح النظام أو الميليشيات التي ارتكبت تلك الانتهاكات- بمثابة إعادة الشخص إلى الجحيم بعد انتشاله منه، وهذه الحالات ليست كثيرة لحسن الحظ.
الخلاصة
اللاجئون وطالبو اللجوء المسجلون لدى المفوضية في مصر، وعددهم يزيد قليلا عن المليون (أقل من نسبة الواحد بالمائة من تعداد السكان)، هم الفئة الجديرة بالحماية، ولا يجوز إعادتهم قسرا فور تحسن الأمور ببلدانهم الأصلية، وهناك برامج تشجع وتسهل وتمول عودتهم إلى بلدانهم؛ لتنتهي دائرة اللجوء بواحدة من الحلول الدائمة وهي: الاندماج في بلد اللجوء، أو إعادة التوطين في بلد ثالث آمن، أو العودة الطوعية بأمان وكرامة، وهو الحل الأمثل، والذي تسعى المنظمات الدولية بالتعاون مع الدولة المصرية لانتهاجه.