فرض اتفاق وقف إطلاق النار في غزة قوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وليس شرعية القانون الدولي أو قرارات الأمم المتحدة التي سبق لنفس إدارة ترامب، أن استخدمت حق الفيتو لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، حتى لو لأسباب إنسانية، كما أنها نفس الإدارة التي هددت قضاة محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، إذا استمروا في اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية وملاحقة نتنياهو.

لم يؤمن ترامب بحقوق الشعب الفلسطيني، قبل أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة وبعدها، وطرح في البداية مشروع تهجير الفلسطينيين من غزة، وتراجع دون أن يتخلى عنه، ودعا إلى اجتثاث حماس والقضاء عليها بسرعة وبعد عامين، اكتشف أنه لا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا بقتل نصف الشعب الفلسطيني، وهو أمر بدا مستحيلا في الوقت الحالي.

والحقيقة، أن أبعد رجل يمكن أن يدافع عن الدفاع عن القضية الفلسطينية هو ترامب، فهو يكره التيارات المدنية في أمريكا والعالم الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، كما أن توجهه السياسي يقع في أقصي اليمين، ويختلف مع الانحياز “العاقل” الذي يبديه الحزب الديمقراطي تجاه إسرائيل؛ لأنه يؤمن بالقوة، وليس الحق والقانون والعدالة، وبالتالي كان انحيازه لإسرائيل فجا ومبررا لجرائمها، وداعما لها.

ورغم أن هذه الصفات والممارسات تقول، إن ترامب آخر زعيم يمكن أن يحرص على إيقاف حرب غزة، ولكنه فعلها، ووضع خطة من ٢٠ نقطة، قبلتها إسرائيل وحماس، وفرضت وقف إطلاق النار، في حين فشل الآخرون في إيقافها، بما فيهم سلفه بايدن والأمم المتحدة والمجتمع الدولي.

لقد نجح ترامب في فرض وقف إطلاق النار، وهو الرجل الذي يعرف عنه الكذب والاهتمام باللقطة والشكل والنرجسية الشديدة، فهل صارت هذه الوصفات من مسوغات نجاح أي زعيم في الوقت الحالي؟

إن ترامب رغم خصالة السلبية يمتلك إصرارا على النجاح، ويؤمن بأهمية أفكاره، مهما كانت ضحالتها، حتى لو كانت لدوافع شخصية، وبالتالي، فإن فرصه في النجاح ولو المؤقت، أكبر من أي زعيم آخر لدية “أفكار سوية” وتنطلق من احترام مبادئ القانون الدولي والإنساني، ولكنه لا يمتلك نفس الإرادة والإلحاح على متابعة وتطبيق أفكاره، فلا تتحقق وتظل قيما نبيلة هائمة.

الحقيقة ترامب نموذج لزعماء اللقطة والشو والعموميات والذي يكره الجدية والمضمون والتفاصيل، وبالتالي كان مؤتمر شرم الشيخ بالنسبة له فرصة استثنائية “للقطة” ولكن رغبته في البناء على هذه اللقطة جعلته يتصرف بشكل مختلف، لأنها ستؤدي به إلى مكسب ذاتي حيث يرغب في أن يظهر أمام العالم باعتباره بطلا للسلام يستحق أن ينال جائزة نوبل.

 إن عقلية الرئيس الأمريكي ليست أيديولوجية، إنما هي عقلية رجل بيزنس وصفقات أقرب للمطور العقاري، تقوم على علاقات قوة وأوراق ضغط يزن بها الدول، ويعرف حجمها وتأثيرها، ويتحين دائما الفرصة لعقد صفقة مع حلفائه أو خصومه من أوكرانيا إلى الصين وكندا وحتى غزة.

كلام ترامب عقب إعلان خطته لوقف حرب غزة وقبل وبعد مؤتمر شرم الشيخ، كان كلاما عاما وشعارات فضفاضة، فبعد أن كال الاتهامات لحماس وتجاهل المجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وحين أشار إلى الضحايا المدنيين، بدا الأمر وكأنهم “ماتوا عادي” أو نتيجة كارثة طبيعية؛ لأن الطرف الذي قتلهم أي إسرائيل لم يشر ترامب لمسئوليتها مطلقا.

 ظل ترامب يردد في الأسابيع التي سبقت ثم تلت خطته كلاما عاما عن اللحظة التاريخية وعن انتهاء الحرب في غزة والشرق الأوسط ونهاية الإرهاب وبداية عصر السلام، وشهدنا توقيع قادة كبار على “إعلان ترامب” الاحتفالي، وعلى خطته أمام عدسات التلفزيون، ويبقى التحدي في التطبيق ووجود آلية تنفيذ عادلة وشفافة. 

عقلية ترامب تحكمها الصفقة التجارية، وهو يتعامل مع دورة وتحركاته الدولية بشكل ترويجي، كمن يعلن عن منتج جديد، كما يفعل حاليا عند حديثه عن اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا وقمته المرتقبة أو المتعثرة مع الرئيس الروسي في المجر، وبالتالي، فإن مدرسة ترامب تركز دائما على الشكل والصوة والمظهر الخارجي، ويحب الدعاية والإعلان والبروبجندا أكثر من المضمون الجاد وخطط العمل بكل تعقيداتها وتفاصيلها، فقد ظل متمسكا حتى أمس، بقدرته على إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، دون أن يعرف تعقيداتها وأسباب استمرارها كل هذه السنوات.

إن خطة ترامب من أجل وقف الحرب في غزة جاءت من شخص، يكره غزة، ولكن نرجسيته ورغبته الجامحة في الحصول على جائزة نوبل؛ ليصبح بطل عالمي للسلام، جعلته يتمسك بهذه الخطة، وطالب حماس بكثير من الالتزامات وإسرائيل ببعضها.

نجحت الخطوة أو المرحلة الأولى من خطة ترامب، وأنهت الحرب، وبقيت مرحلتها الثانية الأكثر صعوبة، والتي ستواجه تحديات كثيرة على الأرجح ستتجاوزها، إلا أن مفارقة هذه الخطة، أنها جاءت من شخص لا يؤمن بقيم العدل والسلام والقانون، ومع ذلك تضمنتها نقاط خطته، والسبب في ذلك، أنها ستحقق له مصالح شخصية، تضعه في مصاف القادة الكبار الذين أوقفوا حروبا، وصنعوا السلام، وربما حصلوا على جائزة نوبل للسلام، وهو أمر لم يحققه كثير من المخلصين وأصحاب المبادئ المؤمنين بالقانون والعدالة، لأنهم في جانب لم يمتلكوا نفس الإلحاح والإصرار لتحقيق أهدافهم، وكانوا أكثر نبلا في إنكار الذات، ولم يفعلوا كما فعل ترامب في الترويج لذاته، ولما يفعل.