تفاءلنا خيرا، حين أعاد رئيس الدولة مشروع قانون الإجراءات الجنائية بمذكرة ملاحظات إلى مجلس النواب المصري، وقد كان معظمنا عاقد الأمل على موقف رئيس الجمهورية، في أن ينحاز مجلس النواب إلى جانب الحقوق الدستورية للمواطنين، وليس العكس، كما أوضحته حقيقة الأمور حال المناقشات التي لم تأبه إلى النصوص الدستورية الحامية للحق في الدفاع، حيث لا يختلف أحد من الفقهاء حول قيمة حق الدفاع وصون حقوق المواطنين بوصفه أهم الحقوق المرتبطة بالمحاكمات العادلة، وفي ذلك، لا يختلف أيضاً أحد على ضمان ذلك الحق في المرحلة الإجرائية أو الموضوعية لكافة الأمور الجنائية، بمعنى أنه يجب أن يضمن للمتهم حقه في الدفاع منذ اللحظة الأولى التي يكون فيها عرضة لاتخاذ أي إجراء جنائي بحقه، وتبدأ تلك اللحظة منذ القبض على المتهمين، وعرضهم على النيابة العامة لبدء التحقيق معهم، فيما تنسبه سلطات القبض إليهم من اتهامات، وبعيداً عن كون المتهم المعروض هو بالفعل من ارتكب الجرم المنسوب من عدمه، إذ يجب ضمان حقه في الدفاع كاملاً.

وأذكر في هذا النطاق، أنني حال دفاعي عن بعض المتهمين في القضية المشهورة بقضية “معتقلي الدفوف”، أنني وجدت أن المتهمين قد تم التحقيق معهم بمعرفة النيابة العامة، ولكن في مديرية أمن الأقصر، ودون وجود أو تمثيل لمحام يحضر في هذه التحقيقات، والتي تمت في الصباح الباكر، وكانت كل هذه التحقيقات يرد بها جملة، أننا قد اتصلنا بمقر نقابة المحامين ولم يرد أحد. وكان من أهم أوجه الدفاع، أننا دفعنا ببطلان التحقيقات لعدم حضور محامي مع المتهمين، فما بالنا اليوم في ظل وجود نص المادة 105 على هذه الطريقة التي صيغت عليها، خصوصا في فقرتها الأخيرة، والتي أثارت الجدل الفقهي بين كافة الأوساط المعنية، حيث جاء نص هذه الفقرة، على أنه: «ويجوز لعضو النيابة العامة في الأحوال التي يخشى فيها فوات الوقت، متى كان لازمًا في كشف الحقيقة الانتقال لاستجواب المتهم الذى يخشى على حياته، وذلك بعدما يطلب من نقابة المحامين الفرعية ندب أحد المحامين لحضور التحقيق على وجه السرعة بالطريقة التي يتفق عليها بين النيابة العامة والنقابة العامة للمحامين، فإذا لم يحضر المحامي في الموعد المحدد يتم استجواب المتهم، ويحق للمحامي الموكل أو المنتدب حضور جلسة التحقيق، إذا حضر قبل انتهائها والاطلاع على ما تم من إجراءات التحقيق في غيبته”.

فهل في هذه الصياغة، ما يحث على الأمل في حماية ذلك الحق المقدس للمتهمين؟ والذين يكونون في حالة توصف على أقل تقدير، بأنها الحالة الأضعف، لكونهم في قبضة السلطة وتحت سيطرتها، ولست أدري من الأسباب ما يدفع أعضاء مجلس النواب إلى التصويت لصالح هذه الصياغة على الرغم من انسحاب الأصوات المعارضة، على الرغم من قلتها، وهو ما يدفع إلى التروي في المناقشة، أو حتى الإرجاء إلى المزيد من المناقشات، بعد إجراء الانتخابات النيابية.

ولمزيد من التأكيد على أهمية الحق في الدفاع، نورد بعض ما أوردته المحكمة الدستورية العليا عنه، بقولها أنه: “وكان حق الدفاع – بالنظر إلى أبعاده وعلى ضوء الأهمية التي يمثلها في بلورة الدور الاجتماعي للقضاء كحارس للحرية والحقوق على اختلافها، انتقالا بمبدأ الخضوع للقانون من مجالاته النظرية إلى تطبيقاته العملية- قد أضحى مستقرا كحقيقة مبدئية، لا يمكن التفريط فيها، مندرجا في إطار المبادئ الأساسية للحرية المنظمة، واقعا في نطاق القيم التي غدا الإيمان بها راسخا في وجدان البشرية، وكانت ضمانة الدفاع بالتالي لم تعد ترفا، يمكن التجاوز عنه، فإن التعلق بأهدابها الشكلية دون تعمق لحقائقها الموضوعية، يعتبر إنكار مضمونها الحق مصادما لمعنى العدالة منافيا لمتطلباتها، ومن ثم لم يجز الدستور للسلطة التشريعية إهدار هذا الحق أو الانتقاص منه، بما يعطل فعاليته أو يحد منها، كاشفا بذلك عن أن إنكار ضمانة الدفاع أو تقييدها، بما يخرجها عن الأغراض المقصودة منها، إنما يؤول في أغلب صوره إلى إسقاط الضمانة التي كفلها الدستور لكل مواطن في مجال الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، ويعرض حق الإنسان في الحياة والحرية الشخصية والكرامة الواجبة لصون آدميته لمخاطر مترامية في أبعادها عميقة في آثارها”.

وفي مجمل القول، أنه على الشارع حينما يخطط أو يشرع في معالجة موضوع بعينه فعليه ألا يتجاوز أو يجور على حقوق الأفراد العامة بالمصادرة أو الانتقاص، أو بما يفرغها من مضمونها، فإن التحديات القانونية لمواجهة الجريمة بشكل رئيسي تبدو هامة وحاسمة في ظل عصر، سادت فيه قيم دولة القانون، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأصبحت هذه القيم جزءًا من الضمير العالمي. ومن هنا احتلت مواجهة الجريمة جانبا مهما من مسئوليات النظام القانوني، متى تتم المواجهة من خلال التوازن بين متطلبات مكافحة ومنع الجريمة أو العقاب عليها أو ضبط الجناة، وبين متطلبات حماية حقوق الإنسان. فبغير الثقة في النظام القانوني وسيادة القانون، يكون الكفاح والسعي ضد الجريمة ناقصا. وكما قيل، فإن سبل التجريم يجب أن تٌكافح بسلاح العدالة، وأن الفكرة الفاسدة يجب مكافحتها بفكرة صالحة، ولا يجوز أن يعالج الضرر بضرر مثله، ويجب حماية القانون بالقانون.

كما وأنه من حق المتهم، أن يكون له محام يدافع عنه منذ بداية التحقيقات معه، فلا بد أن يضمن لذلك الدفاع جديته وجدواه، وإلا كان مجرد ضمان شكلي، وحتى يكون لذلك الدفاع دور في الدعوى الجنائية، أو في الخصومة الجنائية، التي يكون فيها المتهم هو الطرف الضعيف أمام السلطة الاتهامية، والتي بمثابة الطرف الأقوى، بما تملكه من إمكانيات وصلاحيات، فلا بد من ضمان مجموعة من الحقوق للمتهمين، تكون بمثابة السياج الحاكم للعلاقة ما بين طرفي الخصومة “المتهم– السلطة “، ولا بد أن تتضمن القواعد الإجرائية رسماً واضحاً لهذه العلاقة وحداً فاصلاً لما يجب أن تمثله الشرعية الجنائية بشقيها الإجرائي أو الموضوعي، إذ أن الحقيقة تكمن في أصل عمومي وهو ضمان الشرعية الإجرائية، بما تمثله من قواعد ضامنة لحقوق المتهمين، راسمة لكيفية سير الدعاوى الجنائية منذ للحظة الأولى حتى ختامها بمحاكمة جنائية عادلة، تسدل الستار على ما تم اتخاذه من إجراءات حيال المتهمين، بشكل لا يجور على حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم، بما يتضمنه حق الدفاع من ضمانات أو خطوات راسمة منذ اللحظة الأولى لحالة تماس الأشخاص مع السلطة في حدود الدعوى الجنائية، وحيث أن البدايات تدلل على ما سوف تنبني عنه تلك الخصومة الجنائية بين طرفيها، فكان لا بد وأن يكون القانون الراسم لتلك الخطوات معبراً بشكل كامل عن ضمان حقوق المتهمين، أو العسف فيما يتم حيالهم من إجراءات.

ومن هنا لست أدري، لماذا يعود بنا مجلس النواب في أيامه الأخيرة إلى المربع صفر في مناقشاته وإقراره لهذه التعديلات، دونما الإنصات إلى الأصوات التي ملأت الشارع مطالبة بضرورة الحفاظ على حقوق المواطنين، حال مناقشته لمواد قانون الإجراءات الجنائية. وإذ أن الأمر بات حقيقة واقعة، فإننا ليس أمامنا سوى مناشدة رئاسة الجمهورية بعدم التصديق مرة ثانية على هذا القانون، وإعادته وفق الأسس الدستورية إلى مجلس النواب المقبل لمناقشته برمته، انحيازاً من السلطة لصالح المواطنين وحقوقهم.