مدينة الدَلنج في ولاية جنوب كردفان، تشكل نقطة استراتيجية حيوية في الجزء الجنوبي للسودان، إذ تقع عند مفترق طرق، يربط جبال النوبة بمحاور كردفان ودارفور، وتتحكم في خطوط الإمداد بين شمال وغرب وجنوب الإقليم. هذه الأهمية الجغرافية تمنح السيطرة على المدينة قيمة سياسية وعسكرية كبيرة؛ كونها تشكل ورقة تفاوضية رئيسية في النزاع، فضلاً عن كونها مركزًا اقتصاديًا محوريًا للولاية.

خريطة لولاية جنوب كردفان
خريطة لولاية جنوب كردفان

مدينة الدلنج لا تزال تحت السيطرة الفعلية للجيش السوداني الذي يؤدي دورًا حيويًا في حماية المدنيين وتأمين الخدمات الأساسية، بينما يفرض كل من الدعم السريع والحركة الشعبية جناح عبد العزيز الحلو حصارًا مزدوجًا على المدينة، مستخدمين التجويع والقصف المباشر على المدنيين كأداة للضغط السياسي، وتثبيت نفوذهم الموازي للسلطة.

الحصار يشمل قطع خطوط الإمداد، والسيطرة على طرق الخروج واحتجاز المواطنين الذين يحاولون الفرار، فيما يكتسب وجود الجيش السوداني حماية للمدينة، ومنع أي استغلال للواقع الإنساني لتحقيق مكاسب سياسية أو ميدانية.

الحصار المزدوج

الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع والحركة الشعبية على مدينة الدلنج يمثل سياسة ممنهجة لإضعاف سلطة الدولة وتجويع المدنيين، حيث أدى إلى نقص حاد في الغذاء والأدوية وارتفاع الأسعار بشكل كبير. أكثر من 63 ألف طفل يعانون من سوء التغذية، وسجلت حالات وفاة؛ نتيجة الحرمان الغذائي منها وفاة 17 طفلًا في المدينة خلال أشهر سبتمبر وأكتوبر .

تتكامل سياسة التجويع مع الهجمات المباشرة، إذ قامت عناصر قوات الحركة الشعبية والدعم السريع باستخدام مدفع AH4 عيار 155 ملم ومدفع هاون 120 وراجمة صواريخ “كاتيوشا” للقصف المدفعي المتواصل على المدينة، بلغ عدد القتلى نتيجة القصف 42 شخصا، ومئات الجرحى، كان آخرها في 17 أكتوبر الجاري، ما أدى إلى مقتل طفلة وإصابة عدد من المدنيين بينهم 5 أطفال وعضوة غرفة الطوارئ رجاء حسين. ويعد هذا القصف الثاني خلال أسبوع واحد، في مؤشر على أن المدنيين هم هدف مباشر للحصار، وليس فقط القوة العسكرية للجيش.

صور توثق منصات إطلاق مدفعية نحو الدلنج
صور توثق منصات إطلاق مدفعية نحو الدلنج

عناصر من قبائل البقارة والحوازمة ضمن ميليشيا الجنجويد جزء منهم من سكان الدلنج وريفها، يتولون مطاردة الفارين من المدينة، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين وتنفيذ عمليات قتل واختطاف ونهب بالتنسيق مع قوات الحركة الشعبية، وهو ما يعكس الاستخدام المنهجي للعنف ضد المواطنين. وروى ناجون، غادروا المدينة إلى إقليم النيل الأزرق، أنهم قضوا خمسة أيام في الطريق، شاهدوا عمليات قتل وتصفيات لمدنيين آخرين من المدينة.

بسبب الحصار المفروض بلغت أسعار المواد الأساسية مستويات قياسية؛ بسبب الاحتكار وتهريب السلع عبر الجمال والحمير من مناطق بعيدة مع جبايات للدعم السريع على طول الطريق. جوال السكر (50 كيلو) في الدلنج، بلغ سعره مليار جنيه (200$) أي أكثر من خمس مرات سعره في مدينة الأبيض، في حين انخفضت أسعار المواد جزئيًا بعد تهريب محدود ومراقب من الدعم السريع، حيث انخفض سعر الزيت إلى 12 ألف جنيه بدل 20 ألفا، والدقيق إلى 15 ألف جنيه بدل 45 ألفا واللوبيا إلى 15 ألفا بدل 80 ألفًا.

صور توثق أحد المطابخ الجماعية في الدلنج
صور توثق أحد المطابخ الجماعية في الدلنج


ورغم وصول المساعدات الإنسانية المتأخر بتنسيق الأمم المتحدة مع الجيش، إلا أنها كانت شريان حياة للمدينة، حيث وصلت قافلة اليونيسف في أغسطس 2025 لأول مرة منذ عشر أشهر حاملة 4200 كرتونة من الوجبات العلاجية للأطفال وأملاح التروية، ما ساعد جزئيًا في تخفيف الأزمة، لكنه لم ينهِ آثار التجويع المنهجي الذي تمارسه قوى الدعم السريع والحركة الشعبية.

الجوع والاستنزاف


تظهر المعطيات الميدانية ثلاثة محاور استراتيجية رئيسية، وهي الجنوب نحو مناطق المزروب وأم روابة والفاشر، الغرب نحو مدن الخوي والنهود لدعم المحور الأول، ومحور فك الحصار الذي يمكن أن يخفف الضغط على مدن بابنوسة والفولة، وربما مناطق قريبة من نيالا. الجيش يركز على تأمين هذه المحاور، ومنع المحاصرين من استغلالها لتوسيع نطاق الضغط، مع الحفاظ على قدرة دفاعية، تسمح بالتصدي لأي محاولة اختراق أو فرض واقع جديد.

خريطة توضيحية للمعطيات الميدانية خلال 2024- 2025.

الدعم السريع والحركة الشعبية يسعيان لإبقاء اللواء 54 الدلنج محاصرًا ومنع فتح المدينة شمالًا، كما تعمل القوتان المتحالفتان على قصف المدن المحيطة، وهي أبو جبيهة ودلامي، بهدف استنزاف الجيش وإجباره على سحب موارده لدعم المحاور الثانوية. وبالطبع فإن فتح جبهات جديدة، يتطلب موارد كبيرة ولوجستيات، ويبدو أن هناك دعما خارجيا لتسهيل هذه العمليات، بما فيها إنشاء معسكرات للتجنيد والتدريب للحركة الشعبية حول منطقة كاودا.

كما تستمر الهجمات على المدنيين بما في ذلك القصف المدفعي من الدعم السريع على حي الصفا، والاعتقالات الجماعية للطلاب والنساء والأطفال في مناطق سيطرة الحركة الشعبية بأم دولو وتنقولي، ومنعهم من مغادرة المناطق إلى الولايات الآمنة التي يسيطر عليها الجيش.

ورغم التحديات اللوجستية والميدانية، حافظ الجيش على قدرته الدفاعية عن المدينة مع ضمان وصول المساعدات الإنسانية ومنع الدعم السريع من تحويل الحصار إلى انتصار سياسي أو عسكري.