تعتزم الصين اتخاذ قرار بإعفاء وارداتها من مصر من الرسوم الجمركية ضمن خطة لتوسيع آفاق التعاون التجاري بين الطرفين، والسماح بنفاذية الصادرات المصرية بشكل أوسع، ما يكسب المصدرين العاملين بمصر ميزة سعرية نسبية، وقدرات على المنافسة، بسوق تضم 1.4 مليار نسمة.

وفقًا لسفير الصين بالقاهرة، لياو لي تشيانج، فإن قرار بلاده يأتي في إطار اتفاقيات الشراكة من أجل التنمية، وحزمة من مذكرات التفاهم التي تم توقيعها في يوليو الماضي، وتتضمن مجالات واسعة تشمل المواصفات والجودة، والصحة، والتنمية الخضراء، والتجارة الإلكترونية، والتنمية الاقتصادية، والتعاون المالي.

تعتبر مصر أول دولة عربية وإفريقية تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين قبل 70 عاما، لكن الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين ازدهرت منذ عام ٢٠١٤، مع تقديم بكين دعمًا فنيًا وماليًا حاسمًا في بناء المشاريع القومية المصرية الكبرى.

استثمرت الصين مليارات الدولارات في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وفي المناطق الصناعية الحرة مثل منطقة التعاون الاقتصادي والتجاري، التي ترتبط بمبادرة الحزام والطريق، التي تتعاون فيها الصين مع 150 دولة حول العالم، في مقدمتها مصر.

لماذا تهتم الصين بمصر؟

بعيدًا عن الجانب البروتوكولي الخاص بتعزيز العلاقات والاستثمارات المشتركة، تستهدف بكين بإعفاء وارداتها من مصر من الرسوم الجمركية، دعم الشركات الصينية التي دخلت للاستثمار في مصر مؤخرًا، ومنحها القدرة على المنافسة.

كما يدرس عدد من المستثمرين الصينيين العاملين في القارة الإفريقية إمكانية نقل استثماراتهم إلى مصر، للاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة التي تربط القاهرة بالأسواق الإقليمية والعالمية، بما يتيح للمنتجات الصينية المصنعة محليًا النفاذ إلى أسواق متعددة برسوم تفضيلية.

لمصر عشرات الاتفاقيات الخاصة بتسهيل التجارة مع إفريقيا أهمها، اتفاقية الكوميسا التي تضم 21 دولة عضواً في شرق وجنوب إفريقيا، تنص على إقامة منطقة تجارة حرة بين الدول الأعضاء لتتطور؛ لتصبح اتحادًا جمركيًا ثم سوقًا مشتركة.

مع أوروبا، وقعت مصر اتفاقية مع  الدول الأعضاء في رابطة التجارة الحرة الأوروبية (إفتا) على اتفاقية تجارة حرة، دخلت حيز التنفيذ عام 2007، وتتضمن تحرير التجارة في المنتجات الصناعية والزراعية المصنعة، بجانب اتفاقية أغادير مع المغرب وتونس والأردن؛ بهدف إقامة منطقة التبادل التجاري الحر بين الدول العربية المتوسطية الأربع.


يتيح موقع مصر الاستراتيجي للشركات الصينية النفاذ إلى أكثر من 1.5 مليار مستهلك في إفريقيا والمنطقة العربية والاتحاد الأوروبي ذاته، بفضل شبكة واسعة من اتفاقيات التجارة الحرة، والموقع المتميز على الممرات المائية والبرية التجارية، والبنية الأساسية المتطورة، وجعلت تلك المزايا مصر رأس الحربة في مبادرة “الحزام والحرير”.

تمتاز السوق المصرية أيضًا بميزات تنافسية أهمها حجمه الاستهلاكي، والتكلفة التنافسية للعمالة فالتعويم المتتالي لقيمة الجنيه جعل العمالة المصرية “رخيصة”، بجانب بحث بكين عن أسواق بديلة للاستثمار في ظل الضغوط التي تواجهها مع أمريكا فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، ومع أوروبا فيما يتعلق بالانبعاثات.

على عكس الكثير من المستثمرين في العالم، لا يبحث الصينيون في الأسواق التي يستهدفونها باستثماراتهم عن التمويل أو الحصول على أموال من البنوك المحلية، وهي المشكلة التي تواجه مصر، وبالتالي يجدون الأرضية خصبة للاستثمار مع امتلاكهم السيولة والتقنية، وهو ما ظهر في مشروع “البرج الأيقوني” في العاصمة الإدارية الذي يتم تمويله “صينيًا” وتنفذه شركة “CSCEC” الصينية.

ماذا تربح مصر؟

محسن الششتاوي، المدير التنفيذي لمؤسسة رجال الأعمال “المصريين- الصينيين”، يقول إن الاستثمارات الصينية بمصر، ارتفعت لنحو 9 مليارات دولار، ومن المستهدف رفعها إلى 16 مليارًا بغضون 4 سنوات، وهي أرقام قابلة للتنفيذ، فأول ما يبحث الصينيون عنه هو الأمن الاقتصادي، وهذا الأمر متوفر بقوة في مصر.

وفقا لمجلس الأعمال المصري الصيني، فإن قرار الإعفاء الجمركي الصيني يؤدي إلى مضاعفة الصادرات المصرية بأكثر من 100%، وستستفيد منه المنتجات الغذائية، والملابس الجاهزة، والمواد الخام.

يتراوح حجم الصادرات المصرية إلى الصين بين 1.2 و1.5 مليار دولار سنويًا، ومن المستهدف رفعها إلى 5 مليارات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، مع زيادة الطلب الصيني على المنتجات الزراعية المصرية، خاصة البرتقال والعنب.

لكن المدير التنفيذي لمؤسسة رجال “الأعمال المصريين– الصينيين” يرى أن النجاحات التي حققتها المشروعات الصينية بمصر، ستنعكس على جذب المزيد، خاصة المنطقة الصناعية الصينيةـ المصرية “تيدا” التي يبلغ حجم استثماراتها 3 مليارات دولار، بجحم عمالة مصرية في “تيدا” فقط 70 ألف عامل، مضيفا أن عدد الشركات الصينية العاملة بمصر ارتفع لـ 2800 شركة صينية.

بدأت مصر والصين مباحثات حاليا لتوسعة المنطقة الصناعية الصينية “تيدا” التي تضم حاليا 200 شركة صينية باستثمارات، تتجاوز 3 مليارات دولار، مما يجعلها واحدة من أكبر مناطق التعاون الاقتصادي بين مصر والصين.

مجلس الأعمال “المصري ـ الصيني” يعتبر ضخامة عدد السكان في الصين فرصة، تتطلب تواجد أكبر من المصدرين المصريين، بجانب إزالة اعتقاد تاريخي خاطئ، بأن الأسواق الصينية يصعب المنافسة فيها، خاصة في مجال القطن والمنسوجات.

بلغت قيمة واردات الصين من القطن 9.33 مليارات دولار أمريكي عام 2024، وفقًا لقاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية، كما استوردت خيوط النسيج والأقمشة، 10.829 مليارات دولار أمريكي في العام ذاته.

مصر تمهد الطريق أمام استثمارات صينية جديدة

مهدت مصر لنفاذية الصادرات بتوحيد المواصفات القياسية مع نظيرتها الصينية لتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات المصرية، وتسهيل انسياب حركة التجارة بين البلدين، وذلك استجابةً لشكاوى عدد من الشركات العاملة في السوقين المصري والصيني بشأن وجود فروقات في متطلبات المواصفات وجودة التصنيع.

يقول محسن الششتاوي، إن مصر اعتبرت الصين الشريك الاستراتيجي لعام 2024، وقدمت تسهيلات كبيرة للمستثمرين الصينيين الذين يرغبون في العمل في المناطق الحرة العامة والخاصة؛ لأن هدفهم من القدوم لمصر هو التصنيع.


تركزت الاستثمارات الصينية في مصر على المشاريع الصناعية بنسبة (55%)، والبناء (20%)، والخدمات (19%)، ولتعزيز الاستثمارات الثنائية، أسس البلدان جمعية غرفة التجارة المصرية الصينية، وتبادلت وفود تجارية من كلا البلدين الزيارات، في ظل توجيه سياسي مصر بتعزيز تلك العلاقات من الرئيس السيسي الذي زار الصين 7 مرات خلال الـ11 عام الماضية.

تنفذ الصين في مصر سلسلة مشروعات ضخمة، منها تنفيذ المرحلة الثالثة من مشروع القطار الكهربائي الخفيف (LRT)، بجانب بدء أعمال المرحلة الرابعة الممتدة حتى مدينة العاشر من رمضان، بما يسهم في خدمة المناطق الصناعية والسكانية الكبرى.

كما تعتزم شركة “CSCEC” الصينية للمقاولات، التي تتولى تنفيذ الأبراج بمنطقة الأعمال المركزية بالعاصمة الإدارية الجديدة، رفع حجم أعمالها في مصر من 7 مليارات دولار حالياً إلى نحو 9 مليارات دولار بنهاية عام 2026.

تعتزم الشركة تنفيذ أعمال المقاولات لمشروعين كبيرين في مصر، وهما المدينة الطبية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، والمجمع الصناعي لإنتاج حامض الفسفوريك بهضبة أبو طرطور، باستثمارات تبلغ 658 مليون دولار.

كيف تستفيد مصر؟

أحمد زكي، أمين عام شعبة المصدرين بالاتحاد العام للغرف التجارية، قال في تصريحات صحفية، إن تعزيز التعاون الاقتصادي بين مصر والصين يقلل الضغط على الدولار، ويعمل على زيادة تدفقات العملة الصعبة وتعزيز تنافسية الصادرات المصرية بالأسواق الآسيوية.

ووقع البنكان المركزيان بمصر والصين، في يوليو الماضي، مذكرة تفاهم لتشجيع استخدام العملات المحلية في تسوية المعاملات المالية والتجارية، وكذلك تسهيل الاستثمارات المباشرة بين الجانبين، بما يسهم في تعزيز التكامل الاقتصادي وتعزيز التعاون في مجال العملات الرقمية للبنوك المركزية، ودعم الابتكارات المالية باستخدام التكنولوجيا الحديثة.

تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 17 مليار دولار خلال عام 2024 بزيادة 10% عن العام السابق، لكن زكي يدعو إلى تبني خطة استراتيجية تمتد لخمس سنوات لرفع الصادرات المصرية، بالتوازي مع توسيع الاستثمارات الصناعية المشتركة، ونقل مزيد من خطوط الإنتاج الصينية إلى مصر، للاستفادة من موقعها الجغرافي واتفاقاتها التجارية مع الدول الإفريقية والعربية والأوروبية.

ونفذ المكتب التجاري المصري في بكين جولات ترويجية مكثفة بعدد من المقاطعات والمدن الصينية الكبرى، لجذب الاستثمارات الصينية إلى القطاعات الاستراتيجية ذات الأولوية، وفي مقدمتها صناعة السيارات الكهربائية والبطاريات والطاقة الجديدة والمتجددة.

وتسعى مصر للاستفادة من سياسة الصين الخاصة بإنشاء منصات ومراكز تعاون جديدة في مجالات الطاقة، والصناعة الخضراء، والاقتصاد الرقمي، والابتكار العلمي والتكنولوجي، والتعليم العالي، والتعليم المهني والتقني، والذكاء الاصطناعي، والابتكار التكنولوجي.

ماذا تصدر مصر للصين؟

تُصدر مصر للصين سلسلة من السلع أهمها الوقود والزيوت المعدنية ومنتجات التقطير، ومصنوعات من أحجار وأسمنت، والفواكه، والآلات والأجهزة الكهربائية، والنحاس ومصنوعاته.

في المقابل، كانت أهم مجموعات سلعية تستوردها مصر من الصين: آلات وأجهزة كهربائية، وحديد وصلب، وألياف نسيج صناعية، ومنتجات كيماوية عضوية، ولدائن ومصنوعاتها.

التمثيل التجاري المصري يرى أن هيكل التجارة الثنائية لا يزال دون مستوى الطموحات، ولا يعكس الإمكانات الكبيرة المتاحة لدى الجانبين، مؤكدًا ضرورة العمل على تقليص الفجوة التجارية وتعزيز الاستثمارات الصينية بمصر، خاصة بالقطاعات الصناعية والتكنولوجية.

بحسب خبراء، فإن الصين تستورد من العالم المجوهرات والأحجار الكريمة والمعادن والصوف والنحاس والقطن ومنتجات ألبان، ومواد بلاستيكية وكيماويات عضوية وزيوت عطور وخزف، وهي منتجات تمتلك مصر فائضًا بها، ويمكن تعزيز الصادرات المصرية بها.

لدى مصر فرصة أيضًا لزيادة صادراتها من 30 منتجًا بمبلغ 310 ملايين دولار في قطاعات مختلفة. وتشمل القطاعات المحتملة المعدات الكهربائية، والمعدات البصرية، ومستخلصات الدباغة والصباغة، والأواني الزجاجية، والحديد والصلب، والأثاث، والمواد الكيميائية، والألومنيوم.

طريق الحزام والحرير محرك لتعزيز العلاقات

تتقدم العلاقات بين الصين ومصر بشكل أكبر في مجالات الطاقة، والذكاء الاصطناعي، والإلكترونيات، والمركبات الكهربائية، وتحلية المياه، والألواح الشمسية، وصناعة المنسوجات، والكيماويات، وبناء خطوط السكك الحديدية المصرية عالية السرعة.

ازدهرت العلاقات بين البلدين بشكل كبير على مدى العقد الماضي، مع توقيع العديد من الاتفاقيات التجارية الرئيسية، بما في ذلك الشراكة الاستراتيجية الشاملة. تربط هذه الشراكة الخطة الاقتصادية لرؤية مصر 2030 بمبادرة الحزام والطريق التي تعرضها الصين.

تلعب الشركات الصينية حاليًا رأس الحربة في مشروعات الطاقة المتجددة بمصر، إذ وقعت شركة “سويس” لطاقة الرياح اتفاقية مع شركة “باور كونستراكشن” الصينية لبناء محطة رياح بقدرة 1100 ميجاواط في خليج السويس.

ووقعت شركة “الكان” المصرية اتفاقية مع “بكين أوتوموتيف” لإنشاء مصنع للسيارات الكهربائية بطاقة إنتاجية تصل إلى 50 ألف سيارة بحلول عام 2030، كما بدأ مصنع شركة “جيلي” الصيني الإنتاج في يناير 2025 بطاقة 30 ألف سيارة سنويًا.

تواجه الاستثمارات الصينية في مصر عدداً من التحديات، مثل تعقيد الرسوم الجمركية، وتكلفة الحصول على الأراضي، وتأخير مواعيد الموافقات والرخص، نظراً لالتزام الشركات الصينية بجداول صارمة، وأي تأخير في الإجراءات، يؤثر سلباً على الاستثمار، بجانب البيروقراطية، وتغير لنظم والنسب الضريبية، ما يتطلب تحقيق نوع من الاستقرار التشريعي، فضلاً عن تغيير الروتين الحكومي، خاصة مع التقدم في منح التراخيص الذهبية.