يمكن اختصار تاريخ النضال الفلسطيني منذ وعد بلفور 1917، حتى وعود ترامب 2025 في ثلاثة معاني: 

1- أولها: الجهاد الذي يشرف أي شعب عظيم، قدموا تضحيات، يقف أمامها التاريخ بإجلال وتقدير، تضحيات لم تتوقف مائة عام كاملة 1925- 2025.

2- ثانيها: الانقسام الذاتي المدمر، سواء كان الانقسام على مستوى القيادة، أو في عمق المجتمع ذاته، هذا الانقسام أهدر الجزء الأكبر من الطاقة الفلسطينية، وانحرف بها عن مسارها الطبيعي.

3- ثالثها: النكبات المتواليات، فعقب كل جهاد نكبة تتلوه، وخاتمة كل نضال نكبة جديدة، ومن ثم يجري إجهاض متوالٍ للحلم الفلسطيني الذي يمكن تلخيصه في كلمتين: تحرير الأرض ثم العودة إلى الديار.

وخلاصة أكثر من مائة عام من النضال يمكن تلخيصها في عدة نقاط: 

1- الأولى: لا توجد قيادة موحدة، وهذه معضلة فلسطينية مزمنة، فمنذ البدايات الأولى تعددت القيادات والولاءات، وما يترتب عليها من حزازات وتحزبات وعصبيات، لم يتوحد الفلسطينيون تحت قيادة الشيخ أمين الحسيني، كما لم يتوحدوا تحت قيادة ياسر عرفات، لم يدخل كل الفلسطينيين تحت مظلة اللجنة العربية العليا، ولا الهيئة العربية العليا، ولا منظمة التحرير الفلسطينية. ثم زاد على ذلك، أن آل الوضع في أيامنا هذه ليس فقط إلى عدم وجود قيادة موحدة، لكن إلى عدم وجود قيادة مُقنعة، قيادة تحظى بالهيبة والاحترام ممن يختلفون معها. آخر قيادات كانت تحتفظ بالهيبة رغم الاختلاف معها كانت في رجلين: ياسر عرفات، ثم أحمد ياسين، الأول مقاتل جسور، ثم مفاوض مكسور، مات- على الأرجح- مسموماً في نوفمبر 2004، وفي مارس من العام جرى اغتيال أحمد ياسين بطائرات إسرائيلية، قضت عليه عائداً من صلاة الفجر، باستشهاد القائدين انتهى جيل القادة الحكماء.

2 – لا يوجد مجتمع فلسطيني موحد، جذرُ هذه المعضلة يعود إلى التاريخ، فلسطين جزء من الشام، والشام تركيب تاريخي معقد من إقطاعات وقبائل وعشائر وطوائف ومذاهب، كل منها ملتف حول نفسه، مستغرق في ذاته، هكذا تدوال عليه الغزاة والفاتحون، هكذا كان تحت بيزنطة، ثم العرب من أمويين وعباسيين وفاطميين، ثم الأيوبيين والمماليك، ثم حرص العثمانيون خلال أربعة قرون على حكم الشام باستغلال هشاشته الداخلية، أي باللعب على تناقضات التراكيب الإقطاعية والقبائلية والعشائرية والطائفية والمذهبية. الانتداب الفرنسي والبريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، ورث التقليد العثماني، وأكمل عليه من عنده، فعندما قامت الثورات الفلسطينية طوال المائة عام الماضية، وجدت نفسها أسيرة ورهينة هذا الإرث الاجتماعي الممزق الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، ومنذ اللحظة الأولى لعبت الانقسامات الموروثة بين العائلات الإقطاعية دورها في شق صفوف النضال الفلسطيني: انقسم الفلسطينيون قبل مائة عام خلف بيتين من أعرق بيوت القدس: بيت الحسيني، وبيت النشاشيبي. أما الآن، فيمكنك أن ترى- بكل وضوح- الحقيقة السافرة: لا يوجد مجتمع فلسطيني واحد، لكن توجد عدة مجتمعات فلسطينية سواء تحت الاحتلال في القدس أو تحت الحكم الذاتي مع السيادة الإسرائيلية في رام الله، أو تحت حكم حماس في غزة، مع حصار انقلب إلى إبادة، تسود وجه القرن الحادي والعشرين، ثم الفلسطينيون في المهاجر.

3- لعنة الزعامة، حيث القيادة ديكتاتورية عنيدة، تميل إلى العمل فقط مع دائرة مغلقة من المقربين، وحيث العناد والتصلب والإعجاب بالذات يمنعها من استيعاب المختلفين أو حتى التسامح معهم أو الاعتراف بحقهم في الوجود، عجز المفتي الشيخ أمين الحسيني بكل عظمته، أن يكون مظلة لكل الفلسطينيين، ومثله كان ياسر عرفات بكل رصيده النضالي، ومثلهما كانت قيادات حماس التي هي- بطبيعتها- تنظيم عقائدي عسكري منغلق بذاته وعلى ذاته. والآن تنظر فترى في مكان ياسر عرفات قيادة ماسخة المذاق ميتة الهمة فاقدة العزيمة منزوعة الروح، يمثلها الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، حيث وصلت الواقعية السياسية إلى عكسها تماماً، فأصبحت تسكت على جرائم العدو ضد أشقاء الوطن الذين هم- بالمعنى القانوني والأخلاقي- من جملة رعايا الرئيس الفلسطيني، وصلت الزعامة في عهد أبو مازن إلى حضيض معناها السلبي، زعامة عبء على شعبها، زعامة خطر على قضيتها، زعامة ضد نفسها، زعامة ضد المستقبل الفلسطيني.

4- تكرار الأخطاء: لم يستشر الشيخ أمين الحسيني أحداً في قراراته التي طبعت النضال الفلسطيني بين الحربين الأولى والثانية، وانتهت بالنكبة الكبرى وقيام إسرائيل، تحالف مع المحور، بما فيه النازي الألماني، فلما خسر المحور، دارت الخسارة على القضية الفلسطينية. وعلى خطاه فعل ياسر عرفات الذي تحالف مع العراق في غزوه للكويت، فوضع نفسه وقضيته ضد الخليج وضد الغرب، ثم منفرداً دخل في مفاوضات أوسلو السرية التي انتهت بعودته على رأس السلطة الوطنية الفلسطينية 1994. قيادة الشيخ الحسيني لم تجهز الفلسطينيين لقتال منظم، عندما اندلع القتال الحقيقي مع منظمات الصهاينة المسلحة 1947، فقاتل الفلسطينيون عدوهم بالمجهود الذاتي وبالسلاح القديم، ودون تدريب ولا تخطيط ولا تسليح مكافئ لما عند الصهاينة، قامت دولة إسرائيل، وتحول الشيخ أمين الحسيني إلى لاجئ في لبنان، وعاش وهو يرى إسرائيل تستقوي، حتى مات 1974. مثله هيمن ياسر عرفات على القرار الفلسطيني قريباً من أربعين عاماً من تأسيس حركة فتح 1965، ثم قيادته لمنظمة التحرير 1968، ثم تأسيسه السلطة الوطنية الفلسطينية 1994، حتى لقي ربه شهيداً مسموماً في نوفمبر 2004. ثم جاءت قيادة أبو مازن لتدخل القضية الفلسطينية في أطوار التصفية البطيئة، مع أبو مازن لا توجد قيادة تكرر أخطاء من سبق، بل توجد القيادة الخطيئة.

5- غياب الحد الأدنى من الثقافة الديمقراطية، بما يترتب على ذلك من غياب القدرة على التفاهم والتفاوض والتواصل إلى نقاط مشتركة وحلول وسط وتعايش فلسطيني- فلسطيني مع اختلاف التنظيمات والتوجهات والأفكار، والبديل الجاهز عن كل ما سبق، هو اللجوء إلى العنف كوسيلة لحل الخلافات الفلسطينية- الفلسطينية. شاهدنا في صيف 2007 حجم العنف الذي لجأت إليه حماس، حتى تتخلص من حركة فتح في غزة، عنف هو الأعنف أو بالأحرى هو المرئي والحاضر في الذاكرة القريبة، لكنه لم يكن غير تتويج لتقاليد فلسطينية، رافقت النضال الفلسطيني من أيامه الأولى، وبالذات مع الثورة العظيمة 1936- 1939، حيث أُريق الدم الفلسطيني بالسلاح الفلسطيني بغزارة، وحيث ترتب على ذلك أجواء الفوضى التي سبقت، ومهدت للنكبة الكبرى بعد ذلك بعشر سنوات. عنف حماس ضد فتح سبقه بالتأكيد سعي فتح لإفشال حكم حماس في غزة، وسعي حماس لاحتكار القرار الفلسطيني في غزة سبقه سعي فتح لاحتكار القرار الفلسطيني في غزة وغير غزة.

6- غياب ثقافة الدولة الوطنية: الفلسطينيون خرجوا من عباءة الإمبراطورية العثمانية 1917، ثم دخلوا تحت عباءة الانتداب البريطاني 1923، ثم وجدوا أنفسهم أمام دولة صهيونية 1948. الدولة الفلسطينية حلم عظيم، كان من الممكن أن تكون السلطة الوطنية الفلسطينية 1994 بداية لتحقيقه، لكن الذي حدث بعد أكثر من ثلاثين عاماً، هو العكس، السلطة الوطنية باتت أداة لإجهاض حلم الدولة الفلسطينية لسببين أساسيين:

 أ- السلطة، بالذات بعد عرفات، ألقت وراء ظهرها كل خيارات المقاومة، بما في ذلك المقاومة بكلمة الحق عبر تبني أجندة وطنية فلسطينية شريفة، عرفات كان يعتبر تأسيس السلطة نقطة بداية لنضال تدريجي مستمر لكسب المزيد من حقوق الشعب الفلسطيني، لهذا حاصره أعداؤه داخل المقاطعة مقر إقامته في رام الله، ولهذا سمموه، ولم يوافقوا على خروجه للعلاج، ولم يعطوه الضمان في حق العودة بعد العلاج، إلا لأنهم كانوا على يقين، أنه لن يشفى، ولن يعود وأنهم استراحوا منه للأبد. فكرة أن قيادة شعب تحت الاحتلال تتخلى كاملاً وإلى الأبد عن خيار المقاومة سواء مسلحة أو غير مسلحة، هذه فكرة مستجدة في التاريخ، لم نسمع عنها إلا مع قيادة أبو مازن، ومصدر غرابتها، أنها تعني أن الخاضع للاحتلال قرر عدم إزعاج القائم بالاحتلال.

ب: تحولت السلطة إلى جهاز بيروقراطي، يدير شؤون قروية ومحلية بالتنسيق مع الأمن الإسرائيلي وتحت السيادة الإسرائيلية، وهي مطمئنة لذلك، ومكتفية بذلك، وسعيدة بذلك، ولا تطمح لأكثر من ذلك. وهي بهذا المعنى، صارت عقبة في طريق القضية الفلسطينية. 

7- الجدار العازل: ترتب على انتفاضة الأقصى الثانية 2000- 2005 بناء الجدار العازل 2006 الذي عزل ومزق وحدة وتواصل ما بقي من أرض فلسطينية، ومن يومها وآثاره السلبية تخلق واقعاً فلسطينياً، يبتعد كل يوم مسافات ومسافات بعيداً عن حلم الدولة الفلسطينية. العدو يعمل على الأرض، بالاستيطان الذي لا يتوقف، حتى ينسف أي احتمال أرضي مادي، يمكن أن تولد فوقه دولة فلسطينية.

…………………………………..

السؤال: كيف الخروج من هذا المثلث؟

كيف نؤسس لنضال يتجاوز الانقسامات ويتفادى النكبات؟

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.