في كل المشروعات والأفكار المتداولة حول مستقبل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط تحتل المملكة العربية السعودية مكانة بارزة، إلى جانب كل من مصر وتركيا وإسرائيل، بغض النظر عن كون تنبؤات معهد دراسات السياسة الخارجية الأمريكي قد استبعدت مصر، وتوقعت أن يرتكز النظام الإقليمي المستقبلي على كل من إسرائيل والسعودية وتركيا، في حين أننا كنا قد دعونا في مجموعة مقالاتنا الأخيرة هنا إلى استبعاد إسرائيل، التي ينبغي أن يتأسس أي نظام إقليمي مقترح لضمان توازن الردع معها، ولمقاومة طموحها الإمبراطوري تحت مسمى إسرائيل الكبرى، وذلك حتى تثبت السياسة الإسرائيلية عمليا تخليها عن هذا المشروع٠

يثبت ذلك بقبول الجانب الإسرائيلي قيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧، وبالانسحاب من الأراضي السورية واللبنانية، ليمكن بعد ذلك أو بموازاته إقامة نظام للأمن الجماعي والتعاون، يشمل المنطقة كلها من حدود باكستان إلى المغرب، على أن يرتكز هذا النظام الذي ندعو إليه على كل من مصر وإسرائيل وتركيا٠

وفي تقديرنا، أن مصر وتركيا جاهزتان لمثل هذه النقلة الاستراتيجية، أو على الأقل فإن الفكرة مطروحة بجدية على مستوى مراكز الفكر الاستراتيجي، وفي الدوائر الرسمية، فماذا عن السعودية نفسها؟ وكيف تفكر في هذه التحديات؟  

 لنحاول فيما يلي الإجابة أو البحث عن إجابة:

 باستثناء اتفاقية الدفاع المشترك بين المملكة وبين باكستان مؤخرا، والبيانات الرافضة لمشروع إسرائيل الكبرى، فليس هناك مصادر يعتمد عليها  لفهم مجريات الفكر الاستراتيجي السعودي، أو التنبؤ بالاختيارات السعودية في إعادة تنظيم إقليم تصول فيه القوة العسكرية الإسرائيلية وتجول أنى شاءت، ومتى شاءت، خاصة بعد أن تلقي محور المقاومة ضربات تعجيزية في كل من غزة ولبنان، وبعد أن سقط في سوريا نظام طائفي ضعيف، ليحل محله نظام جديد أضعف، وأخيرا بعد أن انكفأت إيران داخل حدودها إلى أجل يصعب التكهن به٠

لذا فقد فوجئنا- إلى حد كبير- باختيار الرياض أن تتجه شرقا، لتبرم اتفاقا للدفاع المشترك مع باكستان، الذي لا يمكن- في أفضل الأحوال- أن يكون بديلا لترتيبات الردع الواجب للخطر الإسرائيلي على الدول المجاورة، ومنها مصر والسعودية وتركيا التي تتماسّ سياسيا واستراتيجيا مع إسرائيل في سوريا، والتي يهددها- بشدة ومباشرة- مشروع ممر داوود من إسرائيل إلى المنطقة الكردية، عبر الجنوب السوري، وهو ما لا مثيل له من قريب أو بعيد بين إسرائيل وباكستان٠

 إذن، ففي تقديري، أن الغرض الحقيقي من الاتفاق السعودي الباكستاني هو غرض نفسي معنوي موجه إلى الداخل السعودي، وإلى بقية شعوب الخليج دعما لهيبة القيادة السعودية المحلية والإقليمية، وذلك كرد غير مباشر على الغارة الجوية الإسرائيلية المزلزلة على قطر، منذ شهرين، والتي أسقطت كثيرا من الأساطير، وفي مقدمتها أسطورة اللحظة الخليجية لقيادة النظام الإقليمي العربي، وأسطورة الالتزام الأمريكي بأمن دول الخليج٠ 

وعلى أية حال، فهذا المعنى للاتفاق السعودي الباكستاني مقبول ومشروع، إذا فُهم في تلك الحدود، مع أهمية تذكُر سابقة استقدام قوات باكستانية إلى المنطقة الشرقية للمملكة لتثبيت الأمن في ظروف معقدة، اقترنت بالحرب العراقية الإيرانية، أو ما يسمى بحرب الخليج الأولى٠

على هذا النحو تظل الإجابة السعودية مطلوبة على سؤال الردع الإقليمي لنزعة التوسع الإمبراطوري الإسرائيلي، ورغم أننا لم نر ردا سعوديا مباشرا على هذا السؤال، فإننا نلمح بعض المؤشرات المتناقضة، إذ رفضت الرياض على أعلى مستوى- أي على مستوى ولي العهد نفسه، أو الحاكم الفعلي، حديث رئيس وزراء إسرائيل عن مشروع إسرائيل الكبرى، كما تواصل الدبلوماسية السعودية ربط تطبيع العلاقات مع إسرائيل بقبول الأخيرة لمبدأ حل الدولتين، وإقرار مسار متفق عليه لقيام الدولة الفلسطينية، فضلا عن مبادرة الرياض بالاشتراك مع فرنسا لعقد المؤتمر الدولي الشهير مؤخرا لتأكيد حل الدولتين للقضية الفلسطينية٠ 

في الوقت نفسه، نلمح في المستويات الأدنى ترحيبا حذرا  بأفكار أو مشروعات، تدعو إلى تفاهم سعودي إسرائيلي ثنائي أو ثلاثي، بإضافة تركيا على ترتيبات في المشرق العربي، وخاصة في الكتابات الصحفية المحسوبة على أوساط مطلعة، وهو ما يعني عزل مصر أو إبعادها عن تلك الترتيبات، بما يتضمنه ذلك من فقدان ركن مهم جدا في مفهوم التوازن الإقليمي ككل، ومفهوم توازن الردع مع إسرائيل بصفة خاصة، فضلا عن أنه يحقق لإسرائيل هدفا من أهم أهدافها الاستراتيجية، وهو إخراج الثقل المصري من المعادلة السياسية، كما خرجت مصر من المعادلة العسكرية من قبل٠

 في هذه النقطة يجب أن يكون مفهوما، أننا لا نبالغ في أهمية دور مصر، أو أننا ندافع عن مصالحها ومكانتها لأننا مصريون، ولكن لأن تلك هي الحقيقة التي تؤكدها الجغرافيا، ويدعمها  التاريخ، ويقر بها الصغير والكبير في أنحاء العالم٠

يضاف إلى ذلك ضرورات التحالف المصري السعودي في قضية أمن البحر الأحمر، الذي هو في المحصلة الاستراتيجية بحيرة عربية، وذلك في مواجهة طموح إثيوبيا للهيمنة على القرن الإفريقي برمته، وفي مواجهة العلاقات الخاصة بين أديس أبابا وتل أبيب حاليا ومستقبلا، وهذا وضع يحتم بدوره على السعودية ومصر العمل معا على أعلى درجة من التنسيق والتعاون في كل أنحاء الإقليم٠

  …………………

كما نوهنا آنفا، فإن لدينا من الأدلة ما يؤكد أن هذه هي طريقة التفكير الاستراتيجي في مصر، ونتمنى، بل ندعو أن تكون هذه أيضا الكيفية التي يفكر بها الأشقاء السعوديون٠