تتعامل مصر اليوم مع واحدة من أعقد الأزمات التي عرفتها حدودها الجنوبية منذ عقود، وهي الأزمة السودانية التي لم تعد مجرد حرب أهلية في دولة مجاورة، بل تحولت إلى مسألة إقليمية عميقة التأثير على الأمن القومي المصري. فمع تمدد الصراع، وتشظي القوى العسكرية والسياسية السودانية، وتزايد الانخراط الإقليمي والدولي في مسارات الحرب، تجد القاهرة نفسها أمام تحد مركب، يتجاوز حسابات الدولة التقليدية، ويشمل تفاعلات إنسانية واجتماعية وسياسية، تمتد إلى قلب المجتمع المصري ذاته.
تشكّل الحرب السودانية ضغطاً سياسياً مضاعفاً على الدولة المصرية، ليس فقط بسبب أهمية السودان الحيوية بالنسبة إلى أمن وادي النيل، وإنما أيضا بسبب انزعاج الرأي العام المصري من مشاهد الانهيار وتقدم المليشيات، والخشية من أن تنتقل تداعيات الحرب— أمنياً وديموجرافياً— إلى الداخل المصري. ويذهب جزء من الأصوات العامة والإعلامية إلى الدعوة لموقف مصري أكثر حزما، يحمي الحدود ويضمن عدم تحول السودان إلى ساحة تهديد مباشر للمصالح المصرية. كل ذلك يجعل معضلة السودان شأناً مصرياً بامتياز، ويضع القاهرة أمام سؤال محوري: ماذا يمكن لمصر أن تفعل في ظل حرب لا أفق قريباً لنهايتها؟
في هذا السياق المضطرب، تبرز قضية اللاجئين السودانيين في مصر كأحد أهم أبعاد الأزمة، بل كنافذة، نرى من خلالها هشاشة الوضع السوداني وانعكاساته على الحياة اليومية في مصر. لقد استقبلت مصر منذ اندلاع الحرب موجات بشرية واسعة من السودان، حيث دخل مئات الآلاف عبر الحدود الجنوبية، بعضها عبر طرق رسمية، وبعضها الآخر في ظروف إنسانية قاسية. واللافت أن هذه الموجات لم تقتصر على الفئات الفقيرة أو النازحة فقط، بل شملت أيضاً نخباً سياسية ومهنية وإعلامية سودانية، تجد في القاهرة فضاءً آمنا نسبيا لممارسة نشاطها، وتعيد من خلالها إنتاج رواية الأزمة في المحافل الدولية.
ورغم أن مصر تعتمد سياسة إنسانية واضحة، تقوم على عدم إنشاء مخيمات للاجئين، ما يسمح لهم بالاندماج داخل المدن المصرية، إلا أن هذه السياسة— على أهميتها— لم تعد كافية أمام ضخامة الوجود السوداني وتنوع تركيبته وامتداد أمده. فالأزمة السودانية من النوع المزمن، والعودة القريبة للاجئين، تبدو أقرب إلى الأمنيات منها إلى الواقع، نظراً لتعقّد المشهد العسكري والسياسي في السودان وغياب تسوية قابلة للحياة.
هذا الواقع، يجعل من الضروري إعادة التفكير في مقاربة أكثر شمولاً لاستضافة السودانيين في مصر، تقوم على تصور طويل المدى، بدلاً من الإجراءات قصيرة الأجل التي تفرضها ضغوط اللحظة. إذ تواجه الجالية السودانية صعوبات كبيرة في الإقامات القصيرة، وفي إجراءات التجديد، وفي تعقيد متطلبات الحركة والتنقل، وهي مشكلات تتضاعف، حين يتعلق الأمر بالنخب السودانية التي تحتاج إلى السفر المستمر لحضور اجتماعات أو المشاركة في ترتيبات دولية مرتبطة بمستقبل السودان. إن القيود الحالية— رغم مبرراتها الإدارية والأمنية— تخلق حالة من عدم الاستقرار القانوني وتعرقل إمكانات بناء حياة مستقرة لهؤلاء في مصر، في ظل واقع بات يفرض عليهم البقاء سنوات طويلة.
ولا تقتصر المشكلة على الجانب القانوني، بل تمتد إلى ضرورة دعم برامج التكيف والإدماج داخل المجتمع المصري. فدمج اللاجئين في المدن يحقق فائدة إنسانية واجتماعية، لكنه يتحول إلى تحدٍ حين تتسع الأعداد وتزداد الضغوط على الخدمات العامة، من تعليم وصحة وسكن. ويحتاج الأمر إلى بنية مؤسسية مخصصة: مدارس موازية أو فصول دعم، برامج مهنيّة لدمج الشباب، آليات تنظيم سوق العمل لمنع الاستغلال، وحملات توعية لتجنب الاحتكاكات الاجتماعية في المناطق التي تتداخل فيها الجاليات السودانية والمصريين. هذه الإجراءات ليست ترفا، بل ضرورة ملحّة لتجنب تولّد مشاعر سلبية أو نزعات تمييزية، قد يغذيها التوتر الاقتصادي أو الضغط على الخدمات.
وهنا يصبح دور المجتمع الدولي مركزياً. فمصر في نهاية المطاف دولة متوسطة الدخل، تتحمل أعباء إنسانية مضاعفة، بينما يظل الدعم الدولي أدنى كثيراً من حجم الأزمة. إن المجتمع الدولي يستفيد من استقرار مصر واستيعابها لموجات النزوح، لكنه لا يقدم ما يكفي لضمان استدامة هذا الدور. لذلك تصبح القاهرة بحاجة إلى إطار دعم جديد— من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات الخليجية والمانحين— لتمويل برامج الإدماج، وتطوير البنية الصحية والتعليمية في المحافظات التي تستقبل أعداداً كبيرة من السودانيين، مثل القاهرة الكبرى وأسوان.
ولأن جزءاً من النخب السودانية بكافة أنواعها السياسية والاقتصادية والفكرية أصبح يمارس دوره من القاهرة، فإن تطوير إطار قانوني واضح لوجودهم، يساعد مصر في تنظيم هذا الوجود، بشكل يخدم الاستقرار الاجتماعي، ويقلل من فرص استخدام الأراضي المصرية كنقطة صراع سياسي سوداني داخلي، أو كمنصة لاختراقات خارجية. كما يتيح لمصر القدرة على التأثير الإيجابي في خطاب هذه النخب تجاه مستقبل السودان، بما ينسجم مع رؤية مصر لوحدة الدولة السودانية وترتيبات أمنها متعدد الأبعاد.
على الجانب السياسي، تدرك القاهرة، أن الأزمة السودانية ليست مجرد صراع داخلي، بل هي ساحة مفتوحة لتنافس إقليمي حاد، تتداخل فيها مصالح قوى عربية وإفريقية، ثم تتسع لاحقاً لتشمل القوى الكبرى التي ترى في السودان موقعاً استراتيجياً مرتبطا بالبحر الأحمر والقرن الإفريقي. ولذلك تحتاج مصر إلى حذر شديد في مواقفها، فهي من جهة لا تستطيع تبني سياسة منحازة لطرف بعينه، حتى لا تخسر قدرة الوساطة أو تؤجج حساسيات داخل السودان، ومن جهة أخرى، تشعر بأن استمرار الحرب يهدد استقرار حدودها، ويخلق واقعاً جغرافياً وسياسياً جديداً، على نحو قد يضر بمصالحها الحيوية.
وفي ظل هذه البيئة المركبة، تعتمد مصر مقاربة تقوم على دعم وحدة الدولة السودانية ومؤسساتها العسكرية والأمنية، مع الحفاظ على قنوات اتصال مع القوى المدنية، والانفتاح على أي تسوية سياسية قابلة للحياة. لكنّ قدرة مصر على التأثير على الأطراف السودانية تبقى محدودة؛ بفعل تشظي القوى والولاءات، وتزايد النفوذ الخارجي في الحرب. ومع ذلك، تظل القاهرة صاحبة المصلحة الأكبر في منع تفكك السودان، أو رسم ترتيبات أمنية جديدة في الإقليم، تستبعد دورها أو تحد منه.
أما على مستوى الحدود، فإن مصر تواجه واقعاً أمنياً حساساً. فالتدفقات البشرية الكبيرة عبر معابر الجنوب، وتنوع الخلفيات الاجتماعية للوافدين، يفرض على الأجهزة المصرية حالة استنفار دائم لمنع تسرب السلاح والعناصر الخطرة، وفي الوقت نفسه السماح بالعبور الإنساني الضروري. وتحتاج السياسة الحدودية هنا إلى توازن دقيق بين الحماية والمرونة، لأن التشدد المفرط قد يدفع المدنيين إلى طرق غير قانونية، ويغذي شبكات التهريب، بينما الانفتاح المبالغ فيه قد يتم استغلاله لأغراض تهريب سلاح أو تمركز جبهات صراع داخل الأراضي المصرية.
وفي مواجهة هذه التحديات، تبدو القاهرة مطالبة بسياسة مركبة تشمل: تعزيز دورها في المبادرات الإقليمية الخاصة بالحل السياسي، تطوير منظومة استضافة اللاجئين على أساس طويل المدى، المطالبة بدعم دولي منظم ومستدام، وتنظيم الوجود السوداني سياسياً واجتماعياً، بما يمنع استخدامه ضد مصالح مصر أو تحويله إلى عبء داخلي.
إن المعضلة السودانية، بما تحمله من تعقيد وتداخل وتشظي، تكشف هشاشة البيئة الإقليمية بأكملها، لكنها تكشف أيضاً أهمية أن تبني مصر رؤية استراتيجية طويلة المدى لملف اللاجئين السودانيين تحديداً. فهذا الوجود ليس ظرفياً ولا مؤقتاً، بل هو واقع إنساني وسياسي، سيستمر لسنوات، وربما يشكل مستقبلاً جزءاً من النسيج الاجتماعي المصري. ومن ثم، يصبح تطوير سياسات إدماج واستقرار وحماية قانونية أمراً مرتبطاً مباشرة بالأمن القومي، وليس مجرد شأن إنساني.
إن مستقبل الدور المصري في وادي النيل سيُقاس— جزئياً— بقدرتها على إدارة تداعيات الحرب السودانية، دون أن تتحول إلى أزمة داخلية أو عبء اقتصادي واجتماعي. وبقدر ما تنجح القاهرة في تحويل المعضلة السودانية إلى فرصة لإعادة بناء حضورها الإقليمي واستعادة التوازن في علاقتها مع القوى الدولية، بقدر ما تتمكن من الحفاظ على أمنها واستقرارها الداخليين.






