١٠٠ عام من امتحان الديمقراطية، انتهت بالرسوب، وبات يلزمنا الإعادة من جديد لـ100 عام ثانية، أي إلى 2125 لمن يكون حياً من أجيال الأحفاد. بدأ الأجداد كفاحهم العملي مع دستور 1923، وانتخابات 1924 وتشكيل أول برلمان حقيقي منتخب، وأول حكومة أغلبية بقيادة سعد زغلول، وعُرفت باسم حكومة الشعب، تشكلت الحكومة في يناير، ثم استقالت في نوفمبر من العام ذاته، عاشت في حدود عشرة أشهر فقط، كان الاحتلال يكيد لها كيداً، وكان القصر الملكي ومعه القوى الرجعية تكيد لها كيداً أكبر، بعدها عاشت الديمقراطية الوليدة ثلاثة عقود، يتآمر عليها الملكان فؤاد ثم فاروق ومعهما الاحتلال والمتعاونون معه، حتى سقطت ديمقراطية الأجداد عند منتصف ليل 23 يوليو 1952، سقطت موضوعياً، سقطت من داخلها، عجزت عن أداء وظائفها، لم تكن تملك مقومات الاستمرار، وبعجزها باتت السلطة جثة رخوة ميتة مرمية على الطريق العام، فخرج الضباط الأحرار من ثكناتهم تحت جناح الظلام، فركلوا الجثة وأزاحوها من الطريق، وجلسوا على عرش البلاد، لم ينزلوا عنه غير عام واحد فقط من صيف 2012، حتى صيف 2013، ثم استأنفوا سيرتهم الأولى، حيث الديمقراطية السليمة، ظلت الوعد الذي لم يتحقق، ولم يتم الوفاء به. 

السؤال الآن: لماذا أخفقت الديمقراطية على مدار قرن كامل؟

 1- الديمقراطية في الغرب، لم تبدأ كما بدأنا، لم تبدأ بالثورات ثم الدساتير ثم الأحزاب ثم الانتخابات ثم تزوير الانتخابات. أوروبا بدأت بانتزاع الحريات والحقوق على مدى عدة قرون متواصلة، بدأت منذ العصور الوسيطة المتأخرة، أي مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي الذي شهد في مطلعه عام 1215 تمرد النبلاء الإنجليز على السلطات المطلقة للملك، وظفروا بإصدار وثيقة الحريات والحقوق التي أسست الفقه الدستوري على قاعدة أن الأمة هي مصدر السيادة والسلطة، وأن الحاكم تلزم أن تكون عليه قيود في ممارسة السلطة. كان القرن الثالث عشر هو موعد أوروبا مع نقل وترجمة الفكر العربي، وخاصة فلسفة ابن رشد وعقلانيته التي كانت ذروة الفكر الإنساني في القرن الثاني عشر، بعد ابن رشد بدأت أوروبا تتنور وتترجم، وتقتبس خير ما في حضارتنا، ثم بدأنا نتبادل المواقع، أوروبا تخرج بالتدريج من سلطة الكنيسة وقيودها على العقل، ونحن نعود لمنهج الكنيسة، حيث نفرض القيود على العقل ونكبل حرية التفكير. القرن الثالث عشر هو بداية العصر المملوكي الطويل، ثم المملوكي العثماني الذي استمر معنا، حتى فرض الإنجليز حمايتهم الرسمية على مصر عشية الحرب العالمية الأولى، كانت أسرة محمد علي باشا هي آخر تمثلات المملوكية العثمانية بعد تطعيمها بإضافات أوروبية، حسنت المظهر، لكن لم تمس الجوهر. هذا التراث المملوكي العثماني الذي دام ثمانية قرون هو البنية التحتية الصلبة المستقرة في تلافيف العقل المصري، عقل المحكوم قبل عقل الحاكم، هذا مشترك ثقافي عام ضارب بجذوره البعيدة في أعماق التركيبة الوجدانية المصرية. إن مائة عام من الديمقراطية المتعثرة بين 1923- 2025 ليست غير فاصل زمني قصير جداً، مجرد برهة، إذا قيست بالأثر العميق الذي ورثناه عن القرون الثمانية من أول القرن الثالث عشر حتى أول القرن العشرين، هذا مثلاً يفسر لك تماثل تصريحات رموز الكنيسة والأزهر والإفتاء والأوقاف في اللحظات القومية العامة، مثل الحث على التصويت في الانتخابات أو امتداح وطنية الرؤساء، فهذا تراث مملوكي عثماني بامتياز، فضلاً عن عامة المصريين، بما في ذلك من لديهم درجات علمية عالية من أوروبا وأمريكا، تراهم في الجوهر يحملون رؤية وثقافة ومشاعر مملوكية الجذور عثمانية الأصول، تكفيك جولة في ردهات البيروقراطية المصرية في دواوين الوزارات والمرافق الحكومية؛ لتتيقن أننا ما زلنا حتى الأعماق مخلصين لميراثنا المملوكي العثماني حيث المزدوج اللعين: يستعلي عليك ثم يقبل الدنية في الوقت ذاته، ينظر إليك بقرف واشمئزاز، لكن لا يمنعه ذلك، أن يمد يده السفلى لتضع فيها المعلوم، هذا ميراث يشاركنا فيه كل من حكمهم المماليك في مصر والشام بالذات، وكل من حكمهم العثمانيون في القارات الثلاث. هذه البنية التحتية القديمة المتأصلة للفساد، تقاوم أي تحول ديمقراطي يلقي الأنوار على ظلمات البيروقراطية الفاسدة، ويكشفها ويضعها تحت المساءلة والمحاسبة. 

2- الديمقراطية لا مجال لتطبيقها إلا في إطار الدولة الوطنية، دولة مستقلة ذات سيادة محكومة بالدستور والقانون، ويتساوى فيها كل مواطنيها في الحريات والمسئوليات والحقوق والواجبات، بغض النظر عن أديانهم أو عقائدهم أو مذاهبهم أو ألوانهم ولغاتهم وأصولهم العرقية. فكرة الدولة الوطنية في مصر ما زالت مستجدة تتلمس طريقها، عاشت مصر، ما يزيد على ألفين وخمسمائة عام جزءاً من إمبراطوريات كبرى فارسية وإغريقية ورومانية وعربية وكردية ومملوكية وعثمانية، تاريخ طويل لم يحكمها ابن لها من طينتها وعجينتها، تأخر ذلك كثيراً، حتى صار لها جيش حديث، وهذا الجيش قياداته كانت من الغرباء وجنوده من المصريين، حتى انفتحت أبواب كليات الحرب بعد عام 1936 لأبناء الفقراء من المصريين، فدخلوها عام 1937، ثم تخرجوا ضباطاً 1938، ثم اعتلوا عرشها- لأول مرة منذ دخلها الفرس بقيادة قمبيز الثاني 525 قبل الميلاد- وما تزال مصر في عهدتهم، واليقين أنها سوف تبقى كذلك أمداً، لا يعلمه إلا علام الغيوب. فكرة الدولة الوطنية عند التطبيق، ما زالت أبعد من أن تنال رضا كل مواطنيها، ففيها من القهر والغشم الكثير الذي تسرب إليها من التراث المملوكي العثماني، لا تزال الفكرة الوطنية تحتاج إلى تمرينات شاقة وتدريبات عسيرة، حتى تقتنع أنها للمواطنين وليست عليهم، إنها في خدمتهم وليسوا في خدمتها، أنها مقيدة بإرادتهم، وليس هم المقيدون بقسرها وقهرها، أنها منهم وليست غريبة عنهم كما المماليك والعثمانيين، الدولة الوطنية ورثت عن التاريخ، ما جعلها تقهر الحاضر وتقطع الطريق على المستقبل. الدولة الوطنية لم تتوافق على شيء في عهدها الملكي ثم عهدها الجمهوري، مثلما توافقت دون اتفاق وتواطأت دون قصد على إعاقة الديمقراطية، الدولة الوطنية في الـ100 عام كانت وما زالت تنظر إلى الشعب باستخفاف وشك وريبة، وتراه غير ناضج بالقدر الكافي، ولا يؤتمن على نفسه وبلده، إذا نال حريته كاملة، في ظل هذا المعتقد الرسمي المستقر، مستحيل أن يحصل أي تقدم ديمقراطي قابل للاستمرار والتطور.

3- الشعب نفسه له موقف مشوش من الديمقراطية، هي سلعة لا طلب له عليها، لأنه يريدها بغير ثمن، ثم هو يريدها، بينما يحمل في تلافيف عقله وروحه وضميره ترسانة من الأفكار الموروثة، تتناقض تماماً مع أي فكر ديمقراطي، المصري يدير حياته الخاصة والعائلية بعقلانية ومادية، بل وبعلمانية، لكنه ينتظر من السياسة أن تكون مثالية، وينتظر من الأحزاب أن تكون عقائدية، وينتظر من الدولة أن تكون مدينة فاضلة، في أموره الخاصة متعقل، بينما في العامة متحمس، هذا الطبع يتجلى منذ ظهرت دعوة الزعيم مصطفى كامل 1874- 1908 ومدرسة الحزب الوطني حتى وقتنا هذا، مثالية غير ذات أساس، لا يسلم منها أي تيار، ومن يبرأ من عيوبها، تراه بلا جمهور ولا أنصار، فقد تعودنا البلاغة الوطنية العالية، ونبرة الاحتجاج الصاخبة، وخطاب الغضب الزاعق، ليست عندنا تقاليد في أن العمل السياسي هو خدمة أهداف بسيطة على الأرض، تحسن حياة الناس وتمكنهم من رزق ومن عمل ومن تعليم ومن علاج ومن سكن ومن ترفيه ومن ثقافة، ومن الحفاظ على صحتهم البدنية والنفسية وتمكينهم من حياة طيبة، يرضون عنها وتطيب لهم. السياسة عندنا من مصطفى كامل، حتى يومنا هذا، تدعو الناس إلى: الموت الزؤام في سبيل الاستقلال التام، نموت نموت ويحيا الوطن، بالروح بالدم نفديك يا جمال، منقولش إيه إديتنا مصر، ونقول أيه هندي لمصر، استحملوني كمان سنتين، طب خلوهم عشرة، طب عشرين، استحملوا معانا. كل ذلك يجعل من المصري مشوش الفكر، كلما سمع كلمة الديمقراطية أو الوطنية أو الإصلاح الاقتصادي، فهو عنده حق عندما ينظر بشك وارتياب، ويستدعي من تلافيف عقله الباطن حذره وتوجسه التاريخي من حكامه الأسبقين مماليك وعثمانيين، إنه في التاريخ لم يغادره رغم 100 عام من الديمقراطية العاقر العقيم التي لم تنتج أثراً طيباً ولا ثمرة نافعة.

……………………………..

الأخطر من كل ما سبق، أن المائة عام من الفشل الديمقراطي تعرض لما أسميه محركات التاريخ إلى الخلف، حدث ذلك مرتين: الأولى بعد عشر سنوات من تعثر ثورة 1919، حيث ظهرت جماعة الإخوان. المرة الثانية عقب هزيمة 1967، حيث ظهرت ما يسمى الصحوة الإسلامية التي كانت بمثابة الهزيمة الثانية أو الهزيمة الحضارية الأعمق والأخطر من الهزيمة العسكرية. 

هذا هو موضوع مقال الأسبوع المقبل بمشيئة الله تعالى.