في دارفور لم يتغير المشهد كثيرا عنه منذ عشرين عاما.

 مشاهد قديمة تعاد بوجوه جديدة، تتكرر المأساة، لكن هذه المرة بلا ضجيج ولا كاميرات.

 مدن تحترق، وتتحول إلى رماد، عشرات الآلاف من البشر، يتم تشريدهم إلى دول مجاورة، سيرا على الأقدام، فظائع ترتكب في كل لحظة.

هكذا تباد دارفور مجددا، بالموت والصمت.

منظمات الإغاثة الدولية، تتحدث عن مجازر جماعية، ونساء يغتصبن في الطرقات وإعدامات عشوائية، بينما الأمم المتحدة تحذر من ” أكبر أزمة إنسانية على الإطلاق منذ الإبادة الأولى.

العالم يجلس متفرجا، وهو يشاهد دارفور، تُباد للمرة الثانية بنفس السكون المخل الذي صاحب جريمة الإبادة الأولى في عام 2003.

 في المشهد المأزوم، يطغى السؤال، لماذا يتكرر التطهير العرقي في الإقليم نفسه، وبنفس السكوت؟ لِما يغض العالم بأسره الطرف عن الجريمة؟

 ولنجد الإجابات، يجب أن نتتبع جذور الحريق من رماد 2003، وحتى جحيم 2023.

في عام 2003، انفجر الصراع للمرة الأولى في إقليم دارفور بين الحكومة المركزية في الخرطوم وحركات تمرد، كانت تطالب بما تعتبره عدلاً ومساوة.

السلطة من جانبها، ردت وقتها باستخدام ميليشيات “الجنجويد” ومعنى المصطلح راكبو الأحصنة المسلحون، الذين كان اختيارهم وقرارهم سياسيا عسكريا بدوافع محددة، أبرزها الحاجة لأداة فعالة ورخيصة، تعرف تضاريس الإقليم وقادرة على الحركة بسرعة. وبالفعل استطاع الجنجويد تمكين نظام البشير وقتها من قمع التمرد، دون ترك بصمات للجيش أو الدولة وكوفئوا حينها بالسماح لهم بالنهب والاستيلاء على الأراضي والقرى التي نجحوا في القضاء على سكانها.

من هنا بدأت القصة

رصدت الأمم المتحدة وقتها قرابة 300 ألف قتيل، وملايين النازحين، وصنفت الاحداث كتطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية.

بعد سنوات من التهدئة الهشة، ظن العالم أن مجزرة دارفور دخلت مرحلة النسيان، لكن بذور الجريمة كانت تنمو داخل البنية الأمنية التي خلقها نظام البشير بنفسه.

الميليشيات التي ولدت تحت اسم الجنجويد، تحولت رسميا في 2013 إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، لتتحول لذراع عسكرية موازية للجيش السوداني، وحين انفجر الصراع بينهما في 2023، وجدت دارفور نفسها مجددا في قلب المذبحة.

الإبادة الثانية.. للتطهير العرقي وجه آخر

في إبريل 2023، اندلع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، النزاع شمل عدة ولايات، لكن ظلت دارفور الأخطر لعدة أسباب، فهي النقطة الأضعف والأكثر هشاشة في الجغرافيا السودانية؛ لأن الإقليم هو مسقط رأس حميدتي، ومعظم مقاتليه، وبالتالي، فهم يعرفون جيدا تركيبته القبلية وتضاريسه الصعبة، ويملك فيه حاضنة اجتماعية واقتصادية، وبالتالي، السيطرة عليه تعني الاحتفاظ بعمق استراتيجي مستقل عن العاصمة الخرطوم، لا سيما أن دارفور من أكثر المناطق انقساما إثنيا في السودان، مما يجعلها أرضا سهلة لاستخدام البعد القبلي للتعبئة، والتطهير، وهو ما فعلته قوات الدعم السريع ضد قبائل “المساليت”.

دارفور هي الحلقة الأضعف جغرافيا، والأغنى بالذهب، سبب الحرب الأساسي، وهي أيضا الإقليم الأكثر انقساما، وبالتالي الأنسب لتحويل الحرب إلى إبادة منظمة لتغيير التركيبة السكانية لموالين فقط.

وثقت تقارير هيومان رايتس ووتش والأمم المتحدة مجازر منظمة، وقتل جماعي في الأسواق، وإعدام للمئات من المدنيين، بناء على الهوية، وتدمير قرى وأحياء بالكامل، وفي إحدى الحوادث أجبر مئات الأشخاص على السير نحو الحدود التشادية تحت تهديد السلاح، ومن لم يمت بالرصاص، مات عطشا وجوعا في الصحراء.

 تقديرات المنظمات الأممية، تتحدث عن أكثر من 15 ألف قتيل خلال عام واحد، ونزوح ما يقرب من مليوني شخص من غرب السودان وحده.

ولنقترب من أسباب الصمت الدولي، وغض الطرف عن الجرائم في دارفور، يجب أن نشير إلى اللاعبين المتورطين فيها:

قوات الدعم السريع، الذراع الأبرز في التطهير، والذي أشارت إليه التقارير الدولية بوضوح، وكانت هجماتها منسقة ومدبرة، وتتضمن قوائم بالأحياء المستهدفة، وكانت أوامر الإبادة تنفذ بانتظام لا بعشوائية من أجل إعادة رسم الخريطة العرقية في دارفور، وإفراغها من المجموعات غير الموالية وترسيخ نفوذ الدعم السريع في الإقليم.   

ميليشيات محلية، مجموعات من المسلحين تابعين لقبائل عربية، تشارك في القتل والنهب مقابل أجر ووعد بالأرض والحماية.

هذه المجموعات صارت أداة في هندسة سكانية “ديموجرافية” قذرة، تحدد من يبقى ومن يرحل.

فاعلون إقليميون، هم الأخطر في هذه المنظومة، وسبب استمرار اشتعال الحرب حتى الآن، دول بعينها ترى في حميدتي، شريكا اقتصاديا مناسبا للمرحلة من أجل السيطرة على مناجم الذهب والحدود.

 شركات خليجية وروسية تمول قوات من المرتزقة، استفادت من تجارة الذهب العملاقة المنهوب من مناجم دارفور.

دول غربية تغض الطرف، لأن هذه الشبكات تمر عبر أسواقها المالية وشركاتها الوسيطة.

نحن إذن أمام شبكة عملاقة، تحقق مكاسب طائلة من الذهب المنهوب والسيطرة على المنافذ البرية والبحرية لتهريبه، حيث تتفق مصالح الغرب مع شركات تسليح عملاقة، تضخ السلاح إلى الأطراف عبر السوق السوداء، وقوى إقليمية تريد إعادة رسم النفوذ في المنطقة، وشركات تعدين دولية تشترى الذهب المغسول، وتعيد ضخه في السوق العالمي.

وعلى قمة الشبكة، المستفيدون من خلف ستار، نخبة الساسة في الغرب الذين يكتفون ببيانات “القلق العميق والاستنكار الحاد“.

لماذا يصمت الغرب؟

الصمت هنا مفيد للجميع، دارفور والسودان ليست الصورة الرابحة في توقيت حافل بالأزمات التي يمكن التذرع بها.

أوكرانيا تستنزف الموارد، غزة تفرض إيقاعا إعلاميا وسياسيا مختلفا بحكم كونها القضية الأطول عمرا، وبالتالي، صور الضحايا في السودان ليست على الشاشة، لأن القرار هنا يعوق المصالح في مناجم الذهب التي حولت الإقليم لسوق تمويل غير رسمي للحرب وطرق التهريب عبر وسطاء في دبى وأنقرة، وهو ما يجعل تقويض هذه السلاسل بالإفصاح الإعلامي عالي الكلفة سياسيا واقتصاديا.

وفي الخلفية، علاقات استخباراتية وسياسية، تجعل القادة المحليين أدوات لا يجب المساس بها، لاستكمال المهام التي ما زالت قائمة.

النتيجة ليست فشلا للمؤسسات الدولية فحسب، بل نمطا متكررا، حيث تندلع الازمات، وتُوثق الانتهاكات، والتي يعقبها إدانات لفظية، ولكن لا محاسبة فعلية.

 ويقف القانون عاجزا، لأن الحقيقة أن بقاء الوضع على ما هو عليه هو الأفضل لكل الأطراف إلا البشر على الأرض.

كيف ترى الصحافة الغربية دارفور؟

في الصحافة الغربية، تبدو دارفور كجرح، يُستدعى عند الحاجة، لا كقضية متصلة الوجع.

منذ اندلاع القتال في 2023، جاءت التغطيات متفرقة، كأنها محاولات متقطعة؛ لتذكّر بمأساة قديمة، سقطت من الذاكرة.

 الصور التي نشرتها الجارديان، وتايم، وبي بي سي، تُظهر قرى محترقة وأجسادًا مطموسة الملامح، لكن قليلًا منها حاول أن يقرأ، ما وراء المشهد، أو يسأل عن المستفيد من تحويل الذهب والحدود والسلاح إلى وقودٍ لحربٍ بلا نهاية.

في معظم الصحف الأوروبية والأمريكية، بدا الخطاب الإنساني حاضرًا، لكن الخطاب السياسي غائبًا.

 صحيفة ذا جارديان، وصفت ما يجري، بأنه “أسوأ السيناريوهات التي لم يتوقعها أحد”، فيما اعتبر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن السودان “حرب لا يمكن لأوروبا، أن توقفها ولا أن تتجاهلها”، وهي عبارة تختصر المزاج الغربي كله، الإقرار بالعجز كخيار مريح.

حتى تقارير هيومان رايتس ووتش التي كشفت عمليات القتل الجماعي في الجنينة، وُظِفت في الإعلام الغربي كأدلة على المأساة، لا كمحركات لمحاسبة أو ضغط سياسي.

الغائب الأوضح في السرد الغربي هو الغرب نفسه، لا أحد يتحدث عن دوره في سلاسل التهريب التي تمر عبر دبي وتركيا، وصولًا إلى الأسواق الأوروبية، ولا عن الشركات التي تشتري الذهب السوداني المنهوب تحت واجهات تجارية “نظيفة”.

 الغرب في هذه القصص هو “الراصد” لا “الشريك”، والمواطن السوداني هو الضحية التي تستحق الشفقة فقط لا العدالة.

وهكذا، تحوّل تناول دارفور في الصحافة الغربية إلى تغطية للبشاعة، دون سياق عرض للضحايا، دون الجناة الحقيقيين، سرد إنساني متخم بالصور، يكتب العالم الغربي عن دارفور، كما يكتب عن كوكب بعيد، يتألم له لحظة، ثم يغلق الصفحة.

في جوهر الصراع، دارفور ليست مجرد أزمة محلية أو حربا أهلية مصنوعة باقتدار، بل اختبار آخر لمفهوم العدالة الدولية، حين يباد البشر بسبب الانتماء، للحصول على مكاسب لقوى دولية، ويفاوض القتلة على السلطة.     

الضحايا لا يملكون حلفاء في مجلس الأمن، وقطاع كبير من العالم، لا يعرف عن القضية، سوى أنها اقتتال داخلي وحرب أهلية.

 الغرب يختار العمى، حين تتعارض القيم مع المصالح، ولا بريق الآن سوى بريق ذهب السودان الذي حول الصمت إلى تواطؤ، يشجع الجميع في دبي وأنقرة وموسكو وغيرهم على تعميق شبكاتهم الاقتصادية لبيع ذهب دارفور.

السؤال الآن، هل سيقف المجتمع الدولي عند حدود القلق العميق أم سيختار أن يكلف نفسه ثمنا باهظا من مكاسبه الملوثة بالدماء، ويوقف الإبادة التي اشعلتها حمى الذهب؟