اندلعت الحرب في السودان في إبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، لتعيد مشهد الصراع العنيف على السلطة في تاريخ السودان، لكن هذه المرة اتسع جغرافيا؛ لأنه قائم بين طرفين في الحكم، ما قسم البلاد، وأضعف هياكل الدولة، ولا تتوقف تداعياته على جغرافيا محلية، وإنما تمتد إلى دول الجوار، وتترك آثاره إقليميا، من اصطفاف وتدخل عالي التكاليف، وشبكات مصالح متعارضة.
الصراع الذي اتخذ شكل الحرب، ليس وحسب بين جنرالين، ولكن يكشف أيضا الاصطفاف الإقليمي، وتعود جذوره إلى فشل مرحلة الانتقال السياسي التي بدأت بعد الإطاحة بالدكتاتور عمر البشير عام 2019 في أعقاب ثورة شعبية، اندلعت في ديسمبر 2018، وحملت آمال ملايين السودانيين في التغيير وتحسين أوضاع بلادهم، ومعالجة مثالب كرسها نظام البشير منذ انقلاب 1989، ورسخ الاستبداد والتهميش والتمييز، ما وسع بؤر الصراع والعنف في مناطق الأطراف، والتي جرى استغلاها.
أنهى الجيش المرحلة الانتقالية، حين أطاح بالحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك، والتي كانت تمثل بعض قوى الثورة، وبرر قائد الجيش، ورئيس مجلس السيادة حينها، عبد الفتاح البرهان، ما جرى بأن الخطوة كانت ضرورية؛ لتجنب اندلاع حرب أهلية، بعد أن شهدت البلاد صراعات بين الحكومة والقوى الاجتماعية التي تعارضها.
لكن عمليا، كان الانقلاب (أكتوبر 2021) انعكاسا للصراع على السلطة، مدفوعا بقوى محلية وإقليمية، تعارض الثورات عموما، وشكل انتصارا للثورة المضادة، واضعا حاجزا أمام طموحات السودانيين في حقبة جديدة، تنهي المصاعب المعيشية والأزمات السياسية والحروب، بل كانت نذيرا باشتدادها واحتدامها، كما أوضح المسار تاليا.
وبعد سيطرة مجلس السيادة برئاسة البرهان ونائبة محمد حمدان دقلو “حميدتي” على الحكم، وتشكُل تحالف بينهما، انهارت الشراكة، وبدأت الحرب والتي تمتد للعام الثالث، بعد أن عكس الخلاف حول الاتفاق الإطاري، والذي ينص على دمج قوات الدعم السريع تحت قيادة الجيش، موضوع الصراع على السلطة بين المكونين العسكريين، ومن يدعمهما من فصائل محلية أو قوى خارجية.
اليوم هناك سودان مفكك وشبه منهار، مقسم، تسيطر على أجزائه سلطتان، ويعاني سكانه أزمة إنسانية غير مسبوقة.
تعطلت نظم الإدارة والخدمات العامة وقطاعات الإنتاج، وارتفعت معدلات التضخم والبطالة، وتصاعدت أزمة الطعام بعد الحرب، حيث يفتقر نصف السكان، حوالى 25 مليون شخص، للأمن الغذائي، غير مئات الآلاف على حافة المجاعة.
وتشير التقديرات إلى تشريد نحو 12 مليونا، داخل البلاد وخارجها، خاصة دول الجوار، حتى ديسمبر 2024، وتجاوز العدد 14 مليونا منتصف العام الجاري 2025.
وضمن حصيلة الضحايا المسجلين 150 ألف قتيل، ومئات الآلاف من الجرحى، وآلاف من النساء واجهوا أشكال العنف الجنسي التي تثير الفزع، واستخدمت بشكل مقصود، كما جرائم سابقة للجنجويد، تكتيكا للحرب وسلاحا للثورة المضادّة. ويذكر أن الجنجويد هو المسمى للميليشيات العسكرية التي ارتكبت فظائع بحق أهالي دارفور في عهد الرئيس السابق عمر البشير وبتحريض منه، وذلك عام 2003. وهذه “الجنجويد”، والتي تعني راكبي الأحصنة المسلحين، يعتبرها متابعو الشأن السوداني هي السلف لقوات الدعم السريع، والتي ترتكب الآن، ذات الفظائع التي سبق ارتكابها عام 2003.
مع تصاعد مستويات جرائم الحرب، وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، في نوفمبر الجاري الأزمة، بأنها “مروعة، خرجت عن نطاق السيطرة”. بينما تقوم المحكمة الجنائية الدولية (تقدم السودان لديها بشكوى) بجمع أدلة حول عمليات قتل جماعي، واغتصاب واسعة النطاق في الفاشر خصوصا، لدرجة وصفتها بعض الجهات بممارسة “إبادة جماعية” للسكان. يذكر أن الفاشر هي عاصمة إقليم شمال دارفور.
في هذا التقرير قراءة في موقف أبوظبي من الصراع في السودان، بالتركيز على الوسائل والأهداف وعلاقاتها بتحالفات الإمارات إقليميا ودوليا، بوصفها قوى متوسطة، تبحث عبر توجهات سياستها الخارجية عن نفوذ، يضمن لها لعب دور قيادي في منطقة الشرق الأوسط بالتعاون مع إسرائيل وكوكيل للولايات المتحدة في ذات الوقت مع نهج من تنوع التحالفات، يتيح المناورة.
طرفا الصراع في السودان
يخوض الحرب طرفان رئيسيان: الجيش بقيادة البرهان، وهي المؤسسة العسكرية التقليدية للدولة، وقوات الدعم السريع، وهي قوة شبه عسكرية نافذة بقيادة حميدتي، ويلتقي معهما قوى سياسية وعسكرية؛ رغبة في السيطرة والمشاركة في الحكم، ضمن ديناميكيات الصراع الداخلي. لكن التدخلات الخارجية لعبت دوراً حاسماً في تأجيج الصراع، وإطالة أمده، بما في ذلك دور الإمارات، والذي أصبح محوراً أساسياً لفهم مسار الحرب وتداعياتها، وعلاقاتها بالمحاور الإقليمية.
وتوجهت الحكومة السودانية التي اتخذت من بورتسودان مقرا لها، بدلا من الخرطوم بشكاوى لدى مجلس الأمن، تتهم فيها الإمارات بتقديم دعم مالي ولوجستي لميليشيا الدعم السريع، وبجانب الاحتجاج، قطعت الخرطوم علاقاتها الدبلوماسية مع أبوظبي، باعتبارها دولة تمارس أعمالا عدوانية ضدها.
محددات الدور الإماراتي
تتخذ السياسة الخارجية للإمارات، نهجا متعدد الأوجه، يجمع بين الهيمنة الاقتصادية، والتحركات العسكرية والسياسية الحاسمة، وشبكة معقدة من التحالفات.
وبذلك لا يمكن اعتبارها، مجرد طرف خارجي؛ بل هي فاعل محوري، مرتبط بشبكة أطراف إقليمية، ويؤثر دورها على ميزان القوى ومسار الصراع. وأيضا مفتاح لفهم أسباب استمراره، وما بين ذلك، تفسير قدرة الدعم السريع، على استمرار القتال، وتحقيق التوسع، رغم تواضع قدراته السياسية والمالية وإمكانيات التسليح والاستخبارات.
على الصعيد العسكري والسياسي، تلعب الإمارات دورًا حاسمًا، حيث تقدم الدعم العسكري والتقني واللوجستي والسياسي لقوات الدعم السريع، وذلك غير منفصل عن توجهات سياساتها الخارجية نحو إفريقيا ودول الشرق الأوسط، والتي أعادت تعيينها خلال عقدين، ووضعت هدف تحقيق هيمنة نفوذ لها، بوصفها قوة متوسطة، ساعية للتنافس مع قوى الشرق الأوسط بالتحالف مع قوى إقليمية ودولية.
ويأتي دورها مرتبطا بعلاقاتها الخارجية، لا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل، بالمقابل فإن هذا الدور الإماراتي في السودان، يتناقض بذات الوقت مع مصالح القاهرة، وتوجهات إيران وتركيا.
ومع ذلك، فهي تتخذ نهجا، يتسم بتنويع التحالفات، تتعاون مع الصين وروسيا والهند، وتضاعفت تعاملاتها الاقتصادية، بالتوازي مع التعاون في قضايا محل اتفاق، وأيضا تستفيد من ذلك بخلق موازنة، تمنحها قدرة على المناورة مع باقي الأطراف.
أدوات الدور في مناطق الصراع
أما عن أدوات هذا الدور الإماراتي الساعي لخلق نفوذ اقليمي، وأن تصبح أبوظبي قوة وازنة في الشرق الأوسط، فهي تشمل أدوات اقتصادية، كما الاستثمارات، واستغلالها في التأثير على القرارات الحكومية، بجانب قمع الحركات الثورية والسياسية التي لا تتفق مع أجندتها، ودعم الانقلابات والنزاعات السياسية، بدعوى محاربة الإسلاميين والتطرف.
ويترتب على ذلك، خلق بيئة تسهل السيطرة، ونهب الثروات سواء في ظل حكومات تابعة أو عن طريق النزاعات وحالة الفوضى، كما انخراطها في الأزمة السودانية، والذي لا يعد استثناء، فهي تساهم في حروب بالوكالة، ودعم ميليشيات، مع تباين حجم وشكل التدخل.
وبين ذلك، انخرطت في صراعات في كل من إثيوبيا وليبيا والصومال واليمن، على صعيد عسكري، وفى مصر وتونس سياسيا، وهو ما يؤدي بجانب استغلال الموارد، والإضرار بالاستقرار الإقليمي، إلى نتائج مضرة عموما بوصفها تدخلات خارجية ضد إرادة قطاعات كبيرة من الشعوب، وأحيانا نتائج تمثل كوارث إنسانية كما في السودان.
الصورة الدبلوماسية: بين الوساطة وتأجيج الصراع
تشارك الإمارات في المبادرات الدولية، أبرزها “المجموعة الرباعية” الخاصة بالسودان مع الولايات المتحدة والسعودية ومصر، وأعلنت- أي المجموعة- في سبتمبر 2025 خارطة طريق للسلام.
لكن هذا الدور المزدوج للإمارات يمثل إدارة للصراع وحفاظا على استدامته، بما يحفظ موازين القوة لصالحها، في ظل تقديم الدعم العسكري لقوات الدعم السريع، ومنع الجيش من تحقيق نصر حاسم سواء ميدانيا، أو عبر الدبلوماسية، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية التي ترى أنها ستهدد سواء بوصول حكومة ديمقراطية للحكم، أو عبر تحكم الجيش منفردا، والذي تراه ممثلا للإسلاميين، ليكون الوقوف بجانب حميدتي هو الاختيار الأفضل، خاصة إذا استطاع تشكيل تحالف سياسي يدعمه.
المصالح الاقتصادية والاستراتيجية
تمثل المصالح الاستراتيجية المحرك الأساسي لنهج السياسة الخارجية الإماراتية في السودان، والتي تشمل الاستثمارات، خاصة في قطاع الزراعة والمواني، والتأثير في المسار السياسي، وليس انتهاء بدعم عسكري.
على مستوى قطاع الزراعة، استثمرت الإمارات نحو 10.2 مليارات دولار، بينما يجمع قطاع المواني ومشروعات البحر الأحمر، وبين أهداف اقتصادية، وأخرى عسكرية، وعقدت صفقة تطوير ميناء أبو عمامة بقيمة 6 مليارات دولار (أُلغيت نوفمبر 2024). وتبلغ إجمالي الاستثمارات الإماراتية في السودان، وهي الأكبر خليجيا، نحو 22 مليار دولار، ما يمنحها نفوذاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً.
كما تعد دبي مركزا رئيسيا لتجارة الذهب السوداني، بما في ذلك ما يجري تهريبه من مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، مما يوفر تمويلاً حيوياً للعمليات العسكرية، وكانت أحد المصادر المالية للميليشيا، ودافعا لوجودها في أماكن التعدين.
إضافة إلى تلك الأدوات، فهناك التدخل في الصراعات سواء بشكل مباشر أو بدعم المكونات العسكرية.
الإمدادات العسكرية واللوجستية
تشير أدلة مادية وتقارير الخبراء، إلى أن الإمارات تُعد الداعم الخارجي الرئيسي لقوات الدعم السريع، بما في ذلك توفير الأسلحة، وهي تشمل الطائرات بدون طيار والمدفعية، ما ساهم في تغيير موازين القوى في مراحل مختلفة من الحرب، والقدرة على صد هجمات الجيش بدعم تقني ومعلوماتي بجانب السلاح.
تمر المساعدات عبر مراكز إمداد ودعم، تتمركز في دول مجاورة للسودان مثل، تشاد وأوغندا وليبيا وأيضا أرض الصومال، من بين ذلك ما نشر في يونيو 2023 حول هبوط طائرة شحن إماراتية في مطار أوغندي، تحمل أسلحة وذخائر، رغم أن وثائقها أشارت إلى كونها تحمل مساعدات إنسانية، لكن استخدمت كغطاء للعمليات اللوجستية.
كما قدم الجيش السوداني لمجلس الأمن ملفات، تحتوي على صور لجوازات سفر إماراتية، قيل إنه تم العثور عليها في مواقع قوات الدعم السريع بمدينة أم درمان، بالإضافة إلى معدات عسكرية بريطانية الصنع، مما يثير تساؤلات حول انتهاك حظر الأسلحة.
في المقابل، تنفي أبوظبي هذه الاتهامات، مؤكدة أن سياستها ترتكز على دعم الحلول السلمية، وتنخرط في تقديم المساعدات الإنسانية.
شبح التفكك والانقسام
في المحصلة، يعكس الدور الإماراتي في السودان امتداداً لنهجها في إدارة الصراعات الإقليمية عبر دعم الفاعلين المسلحين على حساب الدولة المركزية، كما حدث في ليبيا كمثال أو تدخل مباشر كما الحرب على اليمن.
وبدعمها المباشر لقوات الدعم السريع، ساهمت أبوظبي في إطالة أمد الحرب وتعميق الانقسام الجغرافي والاجتماعي، ما يجعل خطر تفكك السودان أقرب إلى الواقع، شرق يسيطر عليه الجيش، وغرب تحت سيطرة الدعم السريع.
هذا الدور، يأتي ذلك ضمن مشروع هيمنة أوسع، تسعى من خلاله الإمارات إلى ترسيخ نفوذها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي عبر السودان، وأيضا توسيع تحالفاتها مع إسرائيل وقوى دولية أخرى.
ومن خلال الجمع بين القوة العسكرية والاستثمارات والدبلوماسية المرنة، تعمل الإمارات على إدارة الأزمات، بما يضمن مصالحها، ويُضعف فرص التحول الديمقراطي، وأيضا منافسة القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، في إطار يعيد تشكيل ميزان القوى الإقليمي، عبر التدخلات والحروب المدمرة في المنطقة، ويضع السودان على حافة التفكك والانهيار.






