في 12 يناير 1924، جرت أول انتخابات برلمانية نظيفة، فلا تزوير فيها، لدرجة أن رئيس الوزراء الذي أجرى الانتخابات سقط في دائرته أمام مرشح حزب الوفد، اكتسح الوفد بأغلبية 195 مقعداً من إجمالي 214 مقعداً، وبناءً عليه شكل سعد زغلول الوزارة في 28 يناير 1924، لكنها لم تعمر أكثر من عشرة أشهر، اصطدمت الديمقراطية الوليدة بقوى الثورة المضادة: الملك والاحتلال.

اصطدمت الحكومة الديمقراطية وبرلمانها المنتخب مع الملك الذي أراد أن يتدخل في اختيار الوزراء، كما أراد أن ينفرد باختيار الأعضاء المُعينين في مجلس الشيوخ، أصر سعد زغلول على موقفه الرافض لتدخل الملك في تشكيل الحكومة، والرافض كذلك لانفراد الملك باختيار المُعينين في الشيوخ، ونجح في تحقيق الهدفين، وهذا لم يحدث في تاريخ أسرة محمد علي باشا منذ مطلع القرن التاسع عشر، من هذه الزاوية، كان سعد زغلول انعطافة شريفة عزيزة كريمة في تطور الشخصية الوطنية المصرية، بل زاد سعد زغلول على ذلك، بأن فرض على الملك عدة أمور، كانت قبل ذلك من المستحيلات: فلا يحق للملك أن يمنح الرتب والنياشين، دون موافقة رئيس الوزراء، كما لا يحق للملك تعيين موظفين في القصر الملكي، دون اعتماد من رئيس الوزراء، ثم لا يجوز للملك أن يتواصل من تلقاء ذاته مع الدبلوماسيين المصريين في الخارج، بل يلزمه أن يفعل ذلك فقط من خلال وزارة الخارجية.

ثم وقع الصدام الأكبر مع الاحتلال، فقد وقع اغتيال قائد الجيش المصري وحاكم عام السودان، السير لي ستاك، وهو من الناحية الرسمية موظف مصري، ومن الناحية الفعلية، يكشف لك هشاشة الاستقلال الذي حصلنا عليه بموجب تصريح 28 فبراير 1922 بعد أكثر من ثلاث سنوات من موجات ثورية، لم تنقطع منذ اندلعت الثورة الكبرى في مارس 1919، وحتى تتعرف على نوع الاستقلال الذي كان عندنا، والذي ينظر إليه كثيرون بيننا الآن من منظور مثالي خيالي وردي حالم، يكفي أن تعرف ردود فعل الاحتلال على الحادث: تم توجيه إنذارين إلى رئيس الوزراء، مع كل إنذار عدة مطالب مُهينة مُذلة، تكررت في الإنذارين، ثم مٌرفق مع كل إنذار تهديد بعقاب عسكري. وكانت المطالب هي: سحب الجيش المصري من السودان، الاعتذار الرسمي عن الحادث، القبض على الجناة ومحاكمتهم، دفع تعويضات مالية، منع المظاهرات السياسية ضد الإنجليز، إطلاق يد الاحتلال فيما يسمى حماية مصالح الأجانب في مصر. حاول سعد زغلول الاستجابة لبعض المطالب مثل الاعتذار ودفع التعويض وملاحقة الجناة، لكنه تصلب في مسألة الانسحاب من السودان، وفي قمع المظاهرات ضد الاحتلال، وفي إطلاق يد الاحتلال في الملفات المتعلقة بالمصالح الأجنبية، وبطبيعة الحال، رفض لغة التهديد والوعيد، لم يكن هناك حل غير أن يتقدم سعد زغلول باستقالة حكومته في 24 نوفمبر، وكانت تلقب حكومة الشعب، أول حكومة مصرية في التاريخ في ظل الدستور، وهكذا دخلت الديمقراطية الوليدة في طريق من التعثر، ما زال ماثلاً أمامنا حتى يومنا هذا.

بعد استقالة حكومة الشعب، جاءت حكومة مدعومة من الملك والاحتلال ضد إرادة الشعب، لكن حظها السيئ، أن برلمان الشعب المنتخب 12 يناير 1924، ما زال قائماً، فلجأت الحكومة إلى تعطيله شهراً، ثم استصدرت من الملك مرسوماً بحل البرلمان في 24 من ديسمبر 1924، أي بعد شهر فقط من استقالة حكومة الشعب بقيادة سعد زغلول.

كان الزخم الديمقراطي رغم ذلك أقوى من محاولة وأده، ثم دفنه في مهده، قامت حكومة الملك والاحتلال بإجراء انتخابات برلمانية جديدة في نوفمبر 1925، أجراها وزير الداخلية إسماعيل صدقي الذي عاش ومات 1875- 1950، يؤمن في قرارة نفسه، أن الشعب المصري غير جاهز ولا مؤهل للحكم الديمقراطي، لجأت وزارة الداخلية تحت قيادة إسماعيل صدقي إلى كافة أساليب التزوير التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا، كان إسماعيل صدقي رغم أنه بدأ السياسة في الصفوف الأولى من ثورة 1919، هو النقيض الموضوعي لسعد زغلول، كان سعد زغلول مُفرط الثقة في الشعب وفي الديمقراطية، بينما كان إسماعيل صدقي مُفرط الثقة في النخبوية وحكم الأقلية من البيروقراطية المثقفة والأوليجارك الأثرياء، مثلما أسس سعد زغلول أصول النضال الديمقراطي، فإن إسماعيل صدقي أسس مدرسة مصرية في أروقة وزارة الداخلية، تحترف عن جدارة كافة فنون تزوير الانتخابات سواء بالذوق أو العافية، حتى باتت ثقافة التزوير تراثاً سياسياً متجدداً له انتشاره الكبير في المجتمع، وليس لدى الحكومة وحدها. بدأ إسماعيل صدقي العادة الرديئة السارية حتى يومنا هذا، وهي تأسيس أحزاب مصطنعة مجهزة معلبة مغلفة، تنتجها معامل الحكومة وفق مواصفات الحاكم لا فرق بين ملوك الأمس ورؤساء اليوم، أسس حزب الاتحاد، وخاض به الانتخابات، ولم يدخر جهداً في تأسيس منظومة التزوير: ضغط، إكراه، استخدام البوليس والإدارة والبيروقراطية، واللعب في كشوف الناخبين وكافة صنوف الترغيب والترهيب، ثم فوجئ وفوجئ الجميع، أن الوفد يعود لاكتساح الانتخابات من جديد رغم التزوير: حصد الوفد 113 مقعداً من إجمالي 214 مقعداً، وتوزع الباقي: 40 مقعداً للأحرار الدستوريين، 36 مقعداً لحزب الاتحاد المصطنع في دهاليز السراي الملكي بدعم الاحتلال، ثم 9 مقاعد للحزب الوطني، وفاز المستقلون بـ24 مقعداً.

بعد أن جرت الانتخابات في نوفمبر 1924- أي قبل مائة عام بالتمام والكمال من يومنا هذا- اجتمع البرلمان في مارس 1925، جرت الانتخابات بين الأعضاء على منصب رئيس البرلمان والوكيلين، فاز سعد زغلول بمنصب رئيس البرلمان بعدد 123 مقعداً، بينما خسر عبد الخالق ثروت الذي حصل على 85 مقعداً، كما فاز من الوفد ويصا واصف، وعلي الشمس بمنصب الوكيلين. معنى ذلك، عودة برلمان يمثل الشعب، مع حكومة تمثل الملك والاحتلال، معضلة كبرى كان حلها الوحيد هو الاحتفاظ بحكومة الملك والاحتلال، وما يلزمه من التضحية ببرلمان الشعب، صدر المرسوم بحل البرلمان مساء اليوم ذاته، يعني عاش البرلمان الثاني للشعب 9 ساعات فقط، وعاش البرلمان الأول للشعب 11 شهراً فقط، وعاشت حكومة الشعب الأولى 10 أشهر فقط، وتجلت الحقيقة مبكراً: لا مكان لبرلمان منتخب انتخابات حرة نظيفة من الشعب، لا مكان لحكومة تمثل الشعب تمثيلاً أصيلاً، والعكس صحيح: مطلوب برلمانات على مقاييس الحكام، ومطلوب حكومات ليس أكثر من صدى لأصوات الحكام، هذه هي القاعدة التي عاشت في أتم صحة وأكمل عافية من 1925 حتى 2025 وإلى ما شاء علام الغيوب.

كثيرون من المصريين- في اللحظة الراهنة- لديهم اعتقادات متصلبة، تُحسن الظن بالعهد الملكي، على أساس أنه عصر ديمقراطي ارستقراطي راقٍ، وفي المقابل، يُسيئون الظن، بمن جاؤوا بعده، ولديهم يقين لا يقبل الشك، بأن الاستبداد والطغيان والفساد الذي يعانون منه على مدار الساعة، تعود جذوره فقط إلى صباح الثورة المباركة في 23 يوليو 1952. الحقيقة ليست هذا ولا ذاك، الحقيقة، أن جذور الطغيان والفساد ممتدة ومتأصلة في العهدين معاً، الاختلاف فقط في أن العهد الملكي كانت فيه السلطة موزعة بين ثلاث قوى: الاحتلال، القصر الملكي، الشعب ممثلاً في الوفد المصري بقيادة سعد زغلول، ثم مصطفى النحاس، هذا المثلث كان في حال تدافع وتنازع، لا يسمح لطرف، بأن ينفرد بزمام السلطة، ثم يقبض عليها بيد من حديد، هذا الوضع سمح للمصريين بهوامش للحركة ومساحات للتنفس والتنفيس وفرص للتأثر والتأثير، فنتجت عن ذلك كله: ديمقراطية متعثرة ممتزجة بمقدار غير يسير من الفوضى، الكلمة العليا فيها للاحتلال أكثر الأوقات، ديمقراطية هشة مسكونة بأوجه نقص، وثغرات أفقدتها المناعة الذاتية، حتى فتكت بها الأمراض، فهزلت ثم ذبلت ثم ماتت في الثلاثين من عمرها، ما بين تصريح الاستقلال الناقص في 28 فبراير 1922- حتى وثبة صغار الرتب من ضباط الجيش الملكي على السلطة منتصف ليل 23 يوليو 1952. وهنا أنقل عن عالم السياسة الكبير الأستاذ الدكتور عليَ الدين هلال في ص 264 من كتابه العمدة “العهد البرلماني في مصر من الصعود إلى الانهيار 1923- 1952”. يقول: “اتسم النظام الملكي في مصر بالاستبداد وعدم احترام قواعد الحياة الدستورية، فقام الملك بمخالفة الدستور، وتعطيل الدستور، وإقالة الحكومات، وحل البرلمانات، وكان من الأمور العادية أن تُزيف الانتخابات، أو أن يتعرض الناخبون لسائر أنواع الضغوط النفسية والمعنوية، كانت الأصوات في المناطق الريفية تُباعُ وتُشترى بواسطة من لديهم القدرات المالية”. انتهى الاقتباس.

…………………………………..

نستكمل الأسبوع المقبل بمشيئة الله تعالى.