كثيرة هي الأحداث المتلاحقة المتعلقة بالجولة الأولى من الانتخابات، والتي سيكون لها بلا أدنى شك تداعيات على مسيرة الديمقراطية في مصر عامة، ومجلس النواب القادم خاصة، والعملية الانتخابية بشكل أخص.
المتابع للأحداث الأخيرة التي يندى لها الجبين، لا يسعه إلا أن يصاب بالذهول؛ جراء النتائج التي يمكن أن تخلفها أحداث يومي الاقتراع في المرحلة الأولى في الداخل يومي 10-11/ 11 /2025 على المشهد السياسي، ما سيجعل الأمور التي تضمد جراح المجال العام، المتعثر والنازف أصلا، في أقصى حالات الحرج والأزمة، لكونها للأسف تشير إلى أن الانتخابات أصبحت وسيلة لغلق المجال العام.
هل ما زال يتحتم التمسك بالقضاة في مشهد الانتخابات
قديما قالوا القضاة هم أكثر الناس نزاهة، بل هم الأنزه قاطبة، وغيرهم من موظفي الدولة، هم ثلة من الفاسدين، الذين لا يتورعوا أن يبيعوا ذواتهم نظير المال والنقل والترقي أو حتى الخوف من العقاب. لذلك خاضت مصر حربا ضروسا إبان نظام حسني مبارك، حتى يصبح القضاة هم القائمين على إدارة المشهد الانتخابي، عبر تجربة قاضي على كل صندوق، ومنه انتقلت التجربة إلى الكويت، لتصبح مصر والكويت هما البلدان المتمسكان بتلك الإدارة وحدهما، لكن بإجراءات مختلفة في التفاصيل.
اليوم وبعد الأحداث الأخيرة يومي الاقتراع آنفي الذكر، يبدو أن تلك المسلمات والسرديات أصبحت تحتاج إلى مراجعة، فلا القضاة أصبحوا أنزه الناس، ولا الموظفين هم بالضرورة أكثرهم فسادا وإفسادا.
صحيح أن دستور 2012 المعدل عام 2014 أتى بالهيئة الوطنية للانتخابات، وجعل على رأسها 10 من كبار القضاة، وألغى بعد 10 سنوات من سَنْهِ تواجد القضاء العادي وقضاء مجلس الدولة ضمن الإشراف وفق معادلة قاضي على كل صندوق، ليبقي فقط على القضاة الـ10 في مجلس إدارة الهيئة الوطنية، وكذلك على قضاة الهيئات القضائية (مجلس الدولة/ قضايا الدولة) خلال الاقتراع، والذين كانوا حتى وقت قريب لا يدخلون ضمن السلطة القضائية، باعتبارهم موظفي الحكومة والمدافعين عن قضاياها العدلية أمام المحاكم. (رغم ذلك) فإن الأمر برمته أصبح في حالة ملحة للمراجعة الدستورية، التي اعتبر البعض الحاجة إليها قاصرة على شكل النظام الانتخابي فقط. وهو أمر يبدو أن القضاة الـ10 والجهات والهيئات التي ينتمون إليها، والمنتدبين من الهيئات القضائية أيام الاقتراع، سيقاتلون للدفاع عنه، ليس لكونه فقط أمر يمس مكانتهم الرفيعة التي مردوا منذ عقود على الذود عنها وإقرار الناس بتلك المكانة، بل وأيضا لمكتسبات مادية مهمة في ظل غلاء المعيشة وضعف الرواتب الأصلية لهم.
لا شك أن التجاوزات السابقة تحتاج إلى تفسير، بمعنى ماذا يُضير قضاة الوطنية للانتخابات سواء الـ10 مدراء للهيئة، أو القائمين على الصناديق إبان الاقتراع للذود عن حرية الرأي والتعبير التي مرد تاريخهم المنير على الدفاع عنها، وخاضوا حولها العديد والعديد من الصولات والجولات في مواجهة نظام كل من عبد الناصر والسادات ومبارك. بعبارة أخرى، ما هي مصلحتهم في إدارة انتخابات غير شفافة وغير نزيهة، سيذكر لهم التاريخ، أنهم هم الواجهة كي تكون غير شفافة وغير نزيهة.
انتكاسة متوقعة لمشهد المشاركة في الاقتراعات القادمة
ما من شك أن أحد أهم نتائج ما حدث يومي 10- 11/ 11/ 2025، هو أن المشاركة في الاقتراعات القادمة ستنخفض بشكل كبير. إذ سيصبح كل من يذهب للصندوق مدفوعا دفعا من القبيلة أو العائلة أو الأسرة، وليس له أي دافع وطني أو ضميري للذهاب لأداء واجب وطني. بل على العكس، فإن الكثيرين ستدفعهم وتحدثهم ضمائرهم بأهمية عدم جدوى المشاركة في التصويت، بل وربما يعتبر البعض، أن مشاركته سيتم توظيفها لصالح عدم الشفافية وعدم الحياد، بعد أن أصبحت شعارات الوقوف على مسافة واحدة بين المترشحين، أو الرقابة على كل مجريات العملية الانتخابية.. إلخ، كلها مجرد شعارات جوفاء رددتها الهيئة الوطنية، وتبين أنها لا علاقة لها بالواقع على الأرض. لقد تبين أن تلك الشعارات تنكسر أو بالأحرى انكسرت أمام مشاهد عدم منح صور من محاضر الفرز للمرشحين، وقبل ذلك خرق سقوف الدعاية الانتخابية، ووضع مرشحي الأحزاب الأربعة المدللة على رأس ورقة الاقتراع الفردي، وتنظيم الهيئة الوطنية لقوائم انتخابية لقوى “مستقبل وطن ومن صار على شاكلتها في سجل واحد” شاهدة على توريث مقاعد البرلمان بين الأسماء الأساسية والاحتياطية، وقوائم مربكة تضع مرشحي الوجه البحري في قائمة الوجه القبلي والعكس، والأهم من ذلك شهدت الأحداث على رؤية الهيئة التي تدعي الاستقلال دستوريا لمشاهد بيع بعض الأحزاب في القائمة للمقاعد بملايين الجنيهات لرجال الأعمال، دون أن تحرك ساكنا، والأخطر المراهنة بسمعة البلاد بالتلكؤ بنقص مستندات تافهة لمنع منافسة القائمة الموحدة التي تضم أحزاب الدولة المدللة والمرضي عنها، ما يجعل نصف مقاعد البرلمان قد حسمت دون انتخاب، ما شكل فضيحة الفضائح ونكبة النواكب، أن يرى العالم دولة بحجم ومكانة مصر تُعين نوابها في البرلمان بتصريح رسمي من الهيئة “المستقلة” للانتخابات.
شروخ داخل الأحزاب
وبالانتقال إلى ما يحدث داخل الأحزاب، يتبين أن هناك شروخا كثيرا قد ضربت جدرانها، وزلزلت هياكلها. حزب الجبهة الوطنية، وهو أحد الأحزاب الأربعة المدللة، والذي نشأ في فبراير الماضي، هو واحد من الأحزاب التي شهدت استقالات عديدة بعد إعلان النتائج، بالطبع تبرأ الحزب من المستقيلين منه، لكنه لم يستطع التبرؤ من آخرين كاللواء محمد الدالي مرشح الجيزة والدقي، ورئيس لجنة الحزب بالجيزة، الذي رفض أن يستمر في جولة الانتخابات التالية، رغم نجاحه في أن يخوض جولة الإعادة مع هشام بدوي (مستقل) في ديسمبر القادم.
جدير بالذكر، أن الشروخ داخل الأحزاب السياسية قد وقعت قبل الانتخابات، وكان أكبرها إبان الترشيح، عندما رشحت بعض الأحزاب على قوائمها أشخاصا من ذوي المكانة المالية الرفيعة، بعد تبرع هؤلاء بالملايين لتلك الأحزاب، وبعضها لقيادات حزبية، في مشهد عمق من الفساد الكبير، وذلك كله في مواجهة أعضاء الحزب الأصليين الطامحين والأولى بالمشاركة.
برلمان قادم لن تُمحى ذكريات انتخابه
على أن أكبر الآثار السلبية التي ستخلفها الانتخابات، وستخلفها أفعال الهيئة الوطنية، هو أنها قد أسست برلمانا من نوع خاص، سيُخول له بحكم الدستور سلطة التشريع لهذا البلد العريق والكبير في المحيطين الإقليمي والدولي. هذا البرلمان سيتأثر حتما بشكل سلبي بسبب وجود 55 % منه من المعينين، 5 % منهم تعيين دستوري من قبل رئيس الجمهورية، و50 % بحكم القائمة المطلقة الفريدة والوحيدة التي كانت نتاج خيار الهيئة الوطنية للانتخابات. هذا البرلمان أيضا سيكون متضمنا لوجود أحزاب، استصرخ بعضها السلطة من عدم جدوى القوائم المطلقة المفضوحة دستوريا (الحكم 3 مرات بعدم دستوريتها) وأخلاقيا (كونها تزور إرادة الناخبين)، وفي نفس الوقت، شاركت فيها تلك الأحزاب بكل رضاء، تحت دعوى عدم ترك الساحة، والامتناع عن سيادة مناخ التشاؤم والانهزام!!. برلمان كان المال الانتخابي الفاسد هو الحَكم في اختيار الكثير من النواب، بعد أن تجاوز هؤلاء سقوف الدعاية، ووزعوا الكراتين التموينية والمال أمام مقرات الاقتراع. هذا البرلمان هو من سيختار رئيس الجمهورية القادم في العام 2030، وربما يُوكل إليه في أي وقت تعديل الدستور، أو ربما تغييره، فكيف وأنى يكون لبرلمان أغلبية أعضاؤه هكذا، أن يتحكم في كل ذلك، أو أن يكون له رأي مستقل وحر في هذا الأمر أو ذاك.
لحظة فارقة
ما من شك أن انتخابات المرحلة الثانية وإعادة الانتخابات في المرحلتين، والانتخابات في الـ19 دائرة الملغاة، سيكون لأداء الهيئة الوطنية وسلوك المرشحين، ولربما الناخبين من خلال مدى مشاركتهم في الاقتراع، (سيكون) لحظة فارقة، ربما تُعدل وتُصلح بعض الشيء، ما وطأته كفة الميزان المختلة، عسانا أن نعي ونفيق من كارثة على حافة الوقوع.
إذا ما مرت الأمور بسلام، فسيكون الدرس الكبير لتلك الانتخابات، هو أن تعديل قانون الانتخاب سيكون أمرا حتميا، حتى لا يتكرر هذا المشهد الغريب، وسيتحتم معها إعادة النظر في النظام الحزبي المتلاعب به من قبل آخرين، وكذلك إجراء إصلاح دستوري يقضي على خرافة الكوتات التي لا مجال لها إلا لتأسيس مجلس اجتماعي لا سياسي كالبرلمان.






