بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، اتجهت بسرعة إلى إعادة تشكيل خطوط سيطرتها، فانتقلت بثقلها العسكري نحو محاولة إسقاط مدينة بابنوسة، أحد أهم معاقل الجيش في جنوب كردفان، والمتاخمة لمناطق نفوذها الممتدة عبر غرب كردفان وجنوب دارفور. كانت بابنوسة عمليًا تحت الحصار منذ عام كامل، اعتمادًا على استراتيجية الدعم السريع القائمة على استنزاف المدن عبر قطع الإمداد واستخدام الثقل القبلي في التجنيد كمصدر دائم لرفد قواتها البشرية.

استراتيجية التوحش

قبل تحركها نحو بابنوسة، شنّت قوات الدعم السريع هجومًا عنيفًا في شمال كردفان، استهدفت خلاله مدينة بارا، وارتكبت فيها مجزرة بحق المدنيين وتصفية للأسرى، ما شكّل جزءًا من سياسة “الوحشية” التي تتبعها لزعزعة إرادة السكان ودفعهم للنزوح وإضعاف الغطاء الشعبي للجيش. وأسهم هذا النهج في تفريغ محلية أم حاج أحمد بالكامل، بعدما نزح سكانها؛ خوفًا من سيناريو مشابه لبارا القريبة جغرافيا منها. وفي الوقت ذاته، روّج إعلام الدعم السريع لرغبة هذه القوات في إسقاط مدينة الأبيض معقل الجيش في شمال كردفان، بهدف الإيهام بأن الهدف القادم هو الأبيض، بينما كان التركيز الحقيقي على تشتيت دفاعات الجيش وإجباره على التمترس داخل المدينة وإدارة مناوشات واسعة حولها، مع دفع المدنيين للنزوح. وقد حققت هذه الخطة قدرا مما أرادته من إضعاف تقدم الجيش ومنعه من استعادة المناطق، أو شن هجمات مضادة، كما سمحت للدعم السريع بتحويل الفاشر إلى منطقة طوارئ إنسانية، شرعنت وجوده بشكل غير مباشر عبر البعثات الإنسانية الأممية، ومنحته الوقت الكافي لإنهاء وجود الجيش في دارفور، وهو ما اكتمل بسقوط آخر حامية للجيش في الفرقة السادسة مشاة بالفاشر.

وتحاول قوات الدعم السريع اليوم استخدام التكتيك ذاته في كردفان عبر استهداف الفرقة 22 في بابنوسة والمواقع العسكرية في الدلنج وكادقلي. إن خسارة هذه المواقع تعني عمليًا سقوط معاقل الجيش الأساسية في جنوب كردفان، تمامًا كما حدث في دارفور وغرب كردفان، وهو ما يضع الجيش أمام مسئولية صعبة: الدفاع عن مقاره وفي الوقت ذاته حماية المدنيين الذين يمثل بقاؤهم عنصر الشرعية المتبقي له. فبقاء مقار الجيش يعني بقاء الحد الأدنى من الحماية المدنية في مقابل سرديات الدعم السريع التي تهدف لإظهاره كقوة، تتحصن في ثكناتها، وتترك المدنيين لمصيرهم، وهي سرديات تُستخدم لإضعاف الثقة في الجيش، ويتصل ذلك بسردية أخرى مركزية في خطاب الدعم السريع، تدعي غياب وجود جيش وطني، بل فقط مجموعات قبلية أو حزبية، في محاولة لإظهار الصراع كمعركة بين قوتين متكافئتين، وليس بين جيش وطني وقوة غير نظامية، تمتلك مشروعًا لتشكيل دولة موازية بديلة لمؤسسات الدولة الرسمية، ما يفسر معركته الحقيقية: تفكيك الجيش السوداني وإعادة بنائه وفق مشروعه الخاص.

التوازنات القبلية في جنوب كردفان ومعضلة الدعم السريع

يتحرك الدعم السريع نحو بابنوسة وفق مقاربة، تستند إلى قراءة دقيقة للتداخلات القبلية في الإقليم، فهو يدرك أن السيطرة على المنطقة لا تتحقق فقط بالقوة العسكرية، بل عبر النفوذ الاجتماعي والولاءات المتجذرة داخل النسيج المحلي. وقد نجح بالفعل في استقطاب أو تحييد بعض المجموعات ذات الارتباطات القبلية بعناصره داخل المدينة الأمر الذي أدى إلى إضعاف خطوط الدفاع من الداخل، لكنه ظل عاجزًا عن تحقيق اختراق مماثل، لما فعله في مدن أخرى، مثل الفاشر التي رغم حصارها الطويل، صمدت عامًا ونصف العام أمام مختلف أشكال الهجمات.

في هذا السياق، تبرز قوة العامل القبلي كأحد المفاتيح الأساسية لفهم ميزان القوى في جنوب كردفان. فوجود المكون النوباوي القادم من جبال النوبة، بامتداده الثقيل في الدلنج وكادقلي، يمثل عائقًا طبيعيًا أمام تمدد الدعم السريع، إذ يحمل هذا المكون إرثًا طويلًا من الصراعات والذاكرة المناهضة للبنى الاجتماعية التي يتشكل منها الدعم السريع. لقد شكّل هذا الرفض التاريخي كتلة صلبة داخل الجندية السودانية، منعت طوال سنوات إخضاع المنطقة سواء لصالح الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو أو لصالح الدعم السريع. ومن هذا المنظور، يصبح تقدّم الدعم السريع نحو بابنوسة أكبر تعقيدًا، إذ يواجه مجتمعًا غير قابل للانضواء في مشروعه، ما يمنح الجيش هامش صمود إضافيًا في مواجهة الحصار والهجمات.

ويزداد المشهد تركيبًا، حين ننظر إلى تكليف الجيش لقوات درع السودان بقيادة أبو عاقلة كيكل بفك الحصار عن بابنوسة، وهي قوة ذات امتدادات قبلية من شرق ووسط السودان. إلا أنّ وقوعها في كمين في أم سيالة كشف مرة أخرى تعقيدات الجغرافيا السودانية، فالقوات الوافدة من مناطق بعيدة، يصعب عليها العمل بفعالية في بيئات لا تعرف تضاريسها ولا بنيتها الاجتماعية، بخلاف الدعم السريع الذي يتحرك داخل امتداد قبلي كثيف، يمنحه أفضلية لوجستية ومعرفية. ومع مرور الحرب إلى عامها الثالث، تحوّل الصراع تدريجيًا من صراع سياسي وعسكري إلى صراع نفوذ قبلي واسع، وبات واضحًا، أن مناطق مثل شرق دارفور أو النهود والفولة لم تسقط بفعل القوة العسكرية وحدها، بل نتيجة انهيار البنية القبلية المحلية التي استغلها الدعم السريع عبر مزيج من المال والترهيب واستمالة الإدارات الأهلية.

هذا الواقع ليس وليد الحرب وحدها، بل هو نتيجة تراكم طويل منذ سقوط نظام البشير، حين بدأ حميدتي مبكرًا في بناء شبكة ولاءات عبر الإدارات الأهلية والطرق الصوفية، مستندًا إلى اقتصاد النفوذ والمال السياسي لخلق كتلة اجتماعية، تسند مشروعه العسكري. وقد ساعدته هشاشة الأوضاع الاقتصادية وغياب الدولة في بناء جيش موازٍ قائم على تحالفات قبلية أكثر من قيامه على مؤسسات وطنية.

وفي المقابل، يظل التكوين الاجتماعي في شمال كردفان أقرب إلى السلم، وأبعد عن عسكرة المجتمع، ما جعل قبائلها غير قابلة للتجنيد داخل الدعم السريع رغم التشابه في الظروف الاقتصادية مع مناطق مجاورة. وحين فشل الدعم السريع في بناء حضور اجتماعي حقيقي، لجأ إلى استراتيجية الترهيب، ودفع السكان للنزوح، كما حدث في بارا، في إعادة إنتاج لنموذجه في الفاشر والجنينة، حيث أُقصيت القبائل غير الموالية مثل الزغاوة والمساليت.

أما صمود مناطق مثل بابنوسة والدلنج وكادقلي، فيعتمد اليوم على قدرة مجتمعاتها على تحمل الحصار والقصف والتجويع، وهي الأدوات الأساسية في تكتيكات الدعم السريع الهادفة إلى تفكيك الجيش عبر الضغط اللا إنساني. في المقابل، يواجه الدعم السريع معضلة ما بعد السيطرة: فهو لا يملك أي مشروع قادر على حفظ الأمن أو إدارة المناطق التي يسيطر عليها، فتتحول هذه المناطق إلى فضاءات للفوضى والصراع القبلي، ما يعيد إنتاج الأزمات التي عجزت الدولة السودانية عن معالجتها منذ الاستقلال.

وفي المحصلة، يبقى المشهد في كردفان مفتوحًا على احتمالات متعددة، إذ لا يمكن حسم الصراع عبر توازنات قبلية مسلحة أو عبر تمدد جماعات، لا تمتلك مشروع دولة، بل عبر وجود دولة مركزية قادرة على إعادة تنظيم الجغرافيا والبنى الاجتماعية، بعيدًا عن مشاريع العسكرة القبلية التي لا تصنع استقرارًا، بل تغذي الفوضى، وتفتح الطريق أمام دورات جديدة من العنف.

الحملة الشعبية والانكشاف الدولي

 لعبت الحملة الشعبية التي شنها السودانيون إلكترونيًا، وفي وقفات المهجر دورًا مهمًا في فضح حجم الدعم الخارجي الذي يتلقاه الدعم السريع، خصوصًا بعد المجازر في الفاشر. ورغم أن هذه الحملة لم تؤدّ إلى تقليص مباشر للإمدادات العسكرية، إلا أنها أحدثت انكشافًا كبيرًا للدول الداعمة، وعلى رأسها الإمارات، التي وُجهت لها اتهامات مستمرة منذ الشهور الأولى للحرب. وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو لتضفي على هذه الاتهامات شرعية سياسية جديدة، خاصة بعد الكشف عن خطوط إمداد، مرت عبر ليبيا وتشاد وجنوب السودان. وأسهم الضغط في إيقاف شحنة أسلحة عبر إسبانيا، كانت متجهة إلى قوات حفتر التي تُعتبر قناة رئيسية لوصول الإمدادات إلى الدعم السريع. كما استهدف الطيران السوداني قوافل على المثلث الحدودي السوداني الليبي التشادي أكثر من مرة.

لكن هذه الجهود لم توقف الإمداد بصورة كاملة، إذ ما تزال هناك منافذ أخرى، أبرزها تشاد بعد توقيع اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع الإمارات، ما يرجح أن تكون قناة الإمداد الرئيسية مستقبلًا، خصوصًا مع الاضطراب السياسي في جنوب السودان بعد إزاحة نائب الرئيس، وهو تطور قد يزيد من هشاشة مناطق العبور، ويخلق فراغًا، تستفيد منه قوات الدعم السريع. وفي حال امتدت الأزمة السياسية في جوبا، قد ينفجر الوضع في جنوب السودان نفسه، ما يشكل كارثة إقليمية جديدة، تستفيد منها المجموعات المسلحة وفي مقدمتها الدعم السريع، وهو ما يستوجب إدراكًا استراتيجيًا لأهمية استقرار الإقليم بأكمله.

وتكشف هذه التطورات أيضًا عن حجم التصدع الخليجي حول الملف السوداني، فالحملة الشعبية ضد الإمارات، أظهرت بوضوح غياب الغطاء الخليجي لها، ما يعكس تضاربًا داخليًا حول إدارة الملف، وأن استمرار هذا التصدع قد يدفع السودان نحو سيناريو مشابه لليمن، إذا تحولت الساحة السودانية إلى ميدان تنافس بين القوى الإقليمية.