لقد لاقت تصريحات ترامب الأخيرة عقب لقائه بالأمير السعودي محمد بن سلمان قبولاً واسعاً من معظم الأطراف السودانية، وهو أمر يعكس إدراكاً عاماً، بأن الأزمة السودانية قد استفحلت إلى درجة كشفت حدود العجز الداخلي عن إنتاج حلول وطنية قادرة على إيقاف الحرب، أو حتى تخفيف كلفتها المتصاعدة. ولهذا، بات التدخل الخارجي يُنظر إليه كرافعة سياسية ذات شرعية كبيرة، وربما كرهان أخير، يمكن البناء عليه. إلا أن خلفيات الترحيب تختلف بين طرف وآخر، ويبقى السؤال المركزي واحداً: كيف يمكن إيقاف الحرب؟ وكيف يمكن أن يتحوّل وقف القتال من لحظة عابرة إلى استقرار دائم يمنع تفكك السودان؟ الأزمة تخطّت الداخل، ولم يعد أمام السودانيين رفاه السؤال عن مدى الحاجة للتدخل، بل كيفية استخدام الزخم الدولي والإقليمي الحالي لصناعة مخرج، لا يكرر أخطاء الاتفاقات الشكلية التي تنهار تحت أول اختبار. وحتى إذا نجحت المساعي في تثبيت القتال مؤقتاً، وهو هدف إنساني ملحّ، فإن ذلك وحده لا يعني الوصول إلى استقرار كامل، ولا يمنع عودة الحرب بأشكال أكثر خطورة. فوقف إطلاق النار في الظروف الحالية، يعني تثبيت خطوط القتال، لا إنهاء أسباب القتال، ما يفتح الباب لتجدد المواجهات، ويفرغ الزخم الدولي من مضمونه، بحيث يتحول الأمر إلى إنجاز سياسي سطحي، يُحسب لترامب أو لغيره، بينما يبقى ملايين السودانيين وجوارهم رهائن لاتفاق هش، قد لا يصمد أسابيع. ومن هنا، تبدو الحاجة ملحّة لاستخدام هذا الزخم بشكل عقلاني، يعالج جذور الصراع، ويعيد هندسة المشهد الأمني والسياسي السوداني على أسس جديدة.
وتفرض اللحظة التاريخية على كل الأطراف السودانية، أن تنظر إلى الواقع خارج حساباتها السلطوية الضيقة، فالواجب اليوم ليس صناعة انتصارات سياسية، بل صناعة حياة. فالسوداني البسيط الذي فقد الأمن والمأوى والعيش والماء والدواء، لا ينتظر حلولاً نظرية أو شعارات كبرى، بل يريد فقط عودة الحياة إلى طبيعتها، ولو بأبسط صورها. إنه لا ينكر أهمية القضايا الكبرى، ولا يتجاهل تعقيداتها، لكنه يضع الأولوية، حيث يجب أن تكون: في استعادة الحياة نفسها. غير أن هذه الرغبة تصطدم في كل لحظة بالأجندات المتصارعة والمشاريع المتقاطعة، فيتحول حق الحياة إلى ورقة تفاوض، وتتحول معاناة الناس إلى تفصيل ملحق بالمعادلات الكبرى. والسؤال اليوم، هو كيف يمكن صياغة تسوية، تُعيد ترتيب هذه الأولويات، وتضع حياة الناس فوق رغبات الأطراف؟
إن أي مشروع للحل يجب أن ينطلق من حقيقة مركزية: أن ضمان الاستقرار يبدأ بمقبولية الأطراف لبعضها البعض ضمن إطار واقعي لا مثالي، وأن إدارة التنافس السياسي يجب أن تتم عبر آليات سلمية خالية من لغة السلاح، وأن مؤسسات الدولة ينبغي أن تكون خارج ساحة الصراع السياسي تماماً، بوصفها الضامن لا الخصم، والحَكَم لا اللاعب. فالمؤسسة العسكرية والأمنية هي أداة حماية المجتمع، وليست أداة تمكين حزب أو حركة أو تيار. ومنطق الدولة يفترض أن من يرغب في المنافسة السياسية ينزل إلى ملعب السياسة، لا أن يخوضها من داخل مؤسسات الدولة أو عبر السلاح، كما لا يمكن لأي حكم أن يكون اللاعب والحكَم في آن.
وهذا ينطبق على كل الأطراف دون استثناء. فالتيار الإسلامي بوصفه الفاعل الأكثر تغلغلاً في أجهزة الدولة، لا يمكن أن يواصل العمل السياسي من داخل هياكل السلطة أو عبر نفوذه الأمني؛ بل عليه أن ينزل في الساحة المدنية، مستنداً إلى جماهيريته الواقعية لا إلى شبكاته داخل الدولة. وينطبق الأمر نفسه على الدعم السريع، فمشروع حميدتي السياسي يجب أن يعود إلى أرض السياسة لا أرض السلاح، ولا يمكن لأي فصيل مسلح أن يسعى إلى حكم السودان بوسائل القوة أو عبر شرعنة تمرده تحت ضغط الحرب. وهذا الحكم ينسحب كذلك على بقية الحركات والتشكيلات المسلحة التي اعتادت المزج بين السلاح والسياسة. فلا يمكن إخضاع الشعب لمشروع سياسي عبر القوة العسكرية أو عبر التستر خلف مؤسسات الدولة أو الحصول على مكافأة سياسية دولية أو إقليمية مبنية على عنف السلاح. إن العدالة السياسية تقتضي أن تكون السلطة نتاج منافسة مدنية مفتوحة، لا نتيجة فرض الأمر الواقع، لأن شرعنة القوة ستكرس الفوضى وتعيد إنتاجها، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، إن استمرت المعالجات الحالية.
إن أي قراءة واقعية لطبيعة الأزمة السودانية تقود مباشرة إلى المؤسسة العسكرية بوصفها العمود الفقري للدولة، ومركز الثقل الذي لا يمكن تجاوزه. فالجيش، رغم ما لحق به من تسييس عبر ثلاثة عقود، لا يزال يمثل المؤسسة الوطنية الأكثر امتداداً جغرافياً والأقرب لتجسيد الدولة، لكنه في الوقت ذاته، يحمل تركة ثقيلة من نفوذ الإسلاميين الذين لم يعودوا مجرد تيار فكري، بل شبكة اجتماعية وسياسية واقتصادية، تشكلت خلال حكم امتد لثلاثين عاماً. ومع ذلك، فإن نفوذهم داخل الجيش ليس سيطرة مطلقة، بل امتزاج معقد داخل مؤسسة متعددة المستويات. وهذا ما يجعل أي محاولة لإقصائهم كلياً مسألة مكلفة، قد تفتح الباب لصراع داخل الجيش نفسه.
وفي المقابل، تمدد الدعم السريع كقوة مسلحة هجين، ذات جذور قبلية وامتدادات إقليمية واقتصادية، حتى أصبح مشروع دولة داخل الدولة. وواقعية أي تسوية، تقتضي الإقرار، بأن تفكيك الدعم السريع لا يمكن أن يتم دون معالجة التمويل الخارجي، ودون إعادة بناء مراكز النفوذ في غرب السودان نفسه. فالاعتراف بحجمه لا يعني القبول بشرعيته، وإنما هو شرط لمعالجة مصدر قوته لا نتيجتها.
أما القوى المدنية، فمشكلتها الكبرى أنها تريد دولة بلا أنياب وسط غابة من اللاعبين المسلحين، لكن فقدانها للأدوات لا يلغي مشروعية رؤيتها، بل يفرض ضرورة بناء معادلة جديدة، تضمن لها دوراً حقيقياً في صياغة المستقبل، لا دوراً رمزياً يُستدعى عند كتابة الاتفاقات، ثم يُقصى عند تنفيذها.
ثلاثة مسارات محتملة للمستقبل
ومن منظور التحليل الواقعي، ثمة ثلاثة مسارات محتملة لمستقبل السودان في حال استمرار الوضع الراهن: الأول مسار الاستقرار المدعوم، الذي يعتمد على اتفاقات هدنة، ثم ترتيبات انتقالية، يضمنها وسطاء إقليميون ودوليون مع تقديم حوافز اقتصادية وفرص للحوار المؤسسي، مع تأجيل بعض ملفات العدالة إلى مرحلة لاحقة مصحوبة بآليات تحفظ الأدلة، الثاني مسار الانقسام البطئ، حيث تستمر الهدنة الهشة، ويزداد تفكك الدولة تدريجياً، مع استمرار وجود قوات موازية، ما يؤدي لتدهور الخدمات والمعيشة، والثالث مسار التصعيد الشامل، الذي يشمل فشل الوساطات وعودة القتال بمقاييس أوسع، وربما تدخل خارجي محدود، مع نتائج كارثية على الحدود واللاجئين وأمن المنطقة.
إن الوصول إلى المسار الأول يتطلب أدوات مركبة: ضمانات خارجية قابلة للتنفيذ، قفل التمويل الخارجي للشبكات المسلحة، دمج مرحلي للقيادات العسكرية، آليات عدالة انتقالية تدريجية، وبرامج اقتصادية عاجلة لاستعادة الحياة اليومية. ويجب أن تُدار هذه الأدوات بوضوح وشفافية، مع آليات متابعة دولية ومحلية مستقلة، لتقليل مخاطر الغلبة أو التلاعب، ولإقناع جميع الأطراف، بأن التنازل عن السلاح والتعاون مع الدولة يعادل استعادة الحياة والشرعية.
الخطاب الوطني عنصر حاسم في هذه المعادلة، فلا بد من تحويل السردية من “صراع وجود” إلى “مسئولية مشتركة عن إعادة البناء”، مع وجود الجيش كحامٍ للسيادة، وليس طرفاً سياسياً، وتقديم الدعم السريع لمسار دمج سياسي بديل مقابل انسحابه من مصادر القوة الموازية، ودمج التيار الإسلامي ضمن قواعد لعبة سياسية شفافة، في حين تبني القوى المدنية شعبيتها على التنافس الحقيقي.
على الأرض، يجب أن يترافق أي اتفاق مع إعادة الخدمات الأساسية، بما يشمل الصحة والماء والكهرباء والرواتب وإنعاش سوق العمل. حزم الدعم الدولي والإقليمي يجب أن تُربط بتحقق خطوات عملية ومراقبة شفافة، لتوفير دوافع تنفيذية حقيقية. ويجب أن تتدرج الإجراءات زمنياً: فترة تهدئة، ترتيبات ثقة، لجنة فنية لمراجعة هياكل الأمن، تقنين التمويل، برامج اقتصادية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة المحلية، مع آليات متابعة واضحة.
في النهاية، الأزمة السودانية ليست مجرد صراع على السلطة، بل صراع مشاريع كبرى: مشروع الدولة الوطنية، مشروع المليشيا، مشروع الإسلام السياسي، مشروع الثورة غير المكتملة، ومشروع المجتمع الذي يريد فقط، أن يعيش. والاستقرار لن يتحقق إلا حين تُنقل هذه المشاريع من ميادين العنف إلى ميادين السياسة، وحين تُبنى مؤسسات الدولة فوق الجميع لا لحساب أحد، وحين يصبح الشعب صاحب القرار لا ضحية المنافسة.






