غالبًا ما يبدو أن العنف المتفشي الذي يأخذ شكل القتل الجماعي وقمع الدولة والإبادة الجماعية…، يتحدى الفهم التقليدي من تفسيرات شائعة مبسطة، تفترض أن المتورطين في العنف الجماعي مرضى اجتماعيون، أو مُجنّدون في نوع من “الجنون الاجتماعي الناجم عن الغضب والكراهية الجماعية”.

ومع ذلك، فقد دحضت خمسة عقود من الدراسات هذه الإجابات السهلة. والنتيجة الصارخة والمرعبة في كثير من الأحيان هي أن “أناسًا عاديين، مثلك ومثلي، هم من يرتكبون الإبادة والقتل الجماعي”.

تتطلب عمليات القتل الجماعي عمومًا دعمًا أو موافقة قطاعات كبيرة من المجتمعات لفترات طويلة، مما يجعل من المستبعد جدًا، أن يكون الأفراد المعنيون غير طبيعيين نفسيًا بأي معنى، وبدلا من أن ينبع ارتكاب شرور استثنائية من أشخاص عاديين أو من شرور جوهرية لا عقلانية، فإن جذورها تنبع من تفاعل معقد بين دوافع عادية وضغوط هيكلية وروايات أيديولوجية متطرفة.

تدرس هذه المقالة كيفية انخراط الأفراد العاديين في العنف الجماعي، وتستكشف الآليات الأساسية للتعبئة، وطبيعة المشاركة الجماعية، والتقنيات القوية المستخدمة لتحييد الموانع الأخلاقية.

لغز الفعل العادي والعمل الجماعي

يُوصف مرتكبو الإبادة الجماعية عمومًا، بأنهم “عاديون بشكلٍ مُرعب”، هم أشخاصٌ يجتازون بسهولة أي اختبار نفسي قياسي. على سبيل المثال، بذلت المنظمات النازية التي تُجنّد أفرادًا جهودًا كبيرةً أحيانًا لاستبعاد المُختلين عقليًا، والساديين، والأفراد ذوي الكراهية اللا إرادية. لا يُمكن تفسير أفعال هؤلاء الأفراد العاديين بالعدوانية الفطرية البشرية، ولا بالمرض النفسي المُنتشر، وهو أمرٌ نادرٌ بين مُرتكبي العنف المُنظم.

ولا يُجبر الجناة عادةً على ارتكاب جرائمهم بالإكراه وحده. فبينما يلجأ منظمو عمليات القتل الجماعي إلى استخدام القوة، تُظهر الأبحاث أن أقلية ضئيلة فقط من الجناة، يبدو أنها أطاعت على مضض أوامر القتل الصادرة تحت طائلة الموت. حتى الأنظمة الشمولية تعتمد على “دعم كبير وامتثال طوعي” من المرؤوسين وعامة الشعب.

وبدلاً من ذلك، تُفهم عمليات القتل الجماعي، على أنها “حملات جماعية” منظمة ومتعمدة للغاية، ناتجة عن “فظائع سياسية”. يتطلب تنفيذ هذه السياسة جهدًا هائلاً ومنسقًا، تدعمه جهات فاعلة متنوعة، مما يستلزم تشكيل ما يُسمى “تحالفات الجناة”. تتميز هذه التحالفات بتنوعها الداخلي، وتُوجِهها مجموعة متنوعة من الدوافع والاعتبارات، بدلاً من عقلية واحدة مشتركة.

غالبًا ما ينبع الاستعداد المُحير لهؤلاء الرجال والنساء العاديين للمشاركة، من كون العنف “نتاجًا اجتماعيًا”، فالقسوة أقل ارتباطًا بالشخصية من كونها اجتماعية في أصلها. ويؤكد الإجماع النفسي الاجتماعي، أن ارتكاب الجريمة هو في المقام الأول؛ نتيجة للوضع الذي يتصرف فيه الفرد، مُقرًا بأن العديد من الأشخاص في سياقات الإبادة الجماعية يشاركون؛ لأنهم “استثنائيون فقط، بما فعلوه، لا بما كانوا عليه”.

التعبئة من أجل الحقد: كيف يتم تجنيد الأفراد وقبولهم للعنف؟

يتطلب تحويل المواطنين العاديين إلى قتلة جماعيين جهدًا حشديًا وتعبئة هائلًة، تُسهّله وتدعمه بنية تحتية أيديولوجية شاملة، تربط بين مختلف الجناة من خلال آليات سببية متعددة.

إن العملية التي تربط بين الأيديولوجية والعمل العنيف متعددة الأوجه، وتتجاوز الالتزام العميق لتشمل أشكالاً أكثر سطحية من المشاركة:

1. الالتزام: قناعة شخصية عميقة بالمبادئ الأيديولوجية الأساسية، التي توجد غالبًا في المقام الأول بين النخب والاتباع الأكثر حماسة.

2. التبني: القبول الصادق للتبريرات، حتى لو كانت انتقائية أو ضمنية، والتي غالبًا ما تكون متجذرة في التعرف على المجموعة الداخلية أو قبول الأفكار التي طرحتها السلطات الموثوقة.

3. التوافق: الامتثال الذي يحركه الضغط الاجتماعي الناتج عن الأعراف والمؤسسات وتوقعات الأقران، حتى عندما ينكر الفرد الأيديولوجية بوعي.

4. الاستغلال: التلاعب الساخر بالخطاب الأيديولوجي من قبل الأفراد لتحقيق دوافع أنانية أو وظائف أو مكاسب مادية.

من الخطوات الحاسمة في التعبئة ظهور نوع محدد من النظرة التي تتمحور حول عقائد أمنية أيديولوجية متشددة. فالقتل الجماعي ليس في المقام الأول؛ نتيجة “طوباوية ثورية أو طيش فكري”، بل يستغل الأفكار التقليدية المرتبطة بالأمن والحرب والنظام السياسي.

تحدث عمليات القتل الجماعي، عندما تتفاعل أزمة سياسية (مثل الحرب، أو عدم الاستقرار السياسي، أو الصراع المسلح) مع أيديولوجيات متشددة قائمة مسبقًا لإنتاج سردية مبرِرة لقتل المدنيين. تعمل هذه السردية من خلال إعادة تعريف فئة الضحايا وطبيعة العنف.

لا يصور السرد الضحايا كمدنيين أبرياء، بل كتهديد وجودي للمجتمع السياسي. ويُبرَّر العنف، باعتباره دفاعًا عن النفس، أو حفاظا علي الدولة. ويُوَصَم الضحايا بشدة كمذنبين بارتكاب جرائم خطيرة (مثل التآمر والتخريب والخيانة)، مما يجعلهم أهدافًا مشروعة أخلاقيًا للعقاب. ويتجلى هذا بوضوح في جواتيمالا، حيث أكدت النخبة العسكرية: “نحن نقتل الناس، ونذبح النساء والأطفال. المشكلة هي أن الجميع هناك مقاتلون، عصابات”.

يُعلي السرد من شأن العنف، مُصوّرًا إياه، على أنه واجب، ويجري اقترافه مُستعينًا بفضائل كالولاء والوطنية؛ لتجاوز العوائق الأخلاقية. علاوة على ذلك، يُصوّر القتل الجماعي على أنه مُفيد استراتيجيًا (استشراف المستقبل)، ولا مفر منه أساسًا (تدمير البدائل)، وهو الاستجابة الضرورية للدفاع عن النظام السياسي.

دور النخب والدعاية

إن ترجمة هذه الأيديولوجيات المتشددة إلى عمل جماهيري مدفوعة إلى حد كبير بالنخب السياسية التي تسيطر على قدرة الدولة على العنف، وتستخدم أدوات الاتصال القوية.

تتمتع النخب عمومًا بحرية اختيار استجاباتها السياسية في الأزمات؛ ونادرًا ما تتفاقم عمليات القتل الجماعي دون تنظيم نخبوي. القرار الحاسم هو اللجوء إلى العنف المتطرف، حتى عندما يكون غير محدد استراتيجيًا، أو يبدو غير عقلاني، لأنه يبدو مُبررًا “ضمن مجموعة معينة من الافتراضات والروايات والمؤسسات الأيديولوجية المتشددة”. على سبيل المثال، على الرغم من الحماقة الاستراتيجية للعديد من عمليات التطهير الستالينية، فإن العنف يصبح مفهومًا عند النظر إليه من خلال المفاهيم المسبقة لقيادة النخبة عن الأعداء الداخليين والشرعية المُتصوَّرة للعنف الثوري.

تستخدم النخب النشاط الأيديولوجي- مثل وسائل الإعلام التي ترعاها الدولة، والدعاية، والتجمعات، والبرامج التعليمية- لنشر سردية التبرير وضمان تجاوبها مع الجماهير. يُعد هذا النشاط حاسمًا في تشكيل كيفية تفسير الناس للأزمات ونظرتهم إلى المجموعات الضحية.

يمكن للنشاط المكثف، أن يُشبع الخطاب العام أو يحتكره، مما يُنشئ إجماعًا اجتماعيًا مُفترضًا حول شرعية العنف، حتى في حال عدم وجود توافق حقيقي، وهي ظاهرة تُسمى الجهل التعددي. هذا الضغط الهيكلي يُحفز الأغلبية المعتدلة، وإن كانت مُنقسمة، على الصمت والامتثال لأيديولوجية الأقلية المتشددة.

في رواندا، نشرت النخبة الحاكمة من الهوتو خطابًا قوميًا عرقيًا متشددًا عبر الإذاعة (RTLM)، دعا صراحةً إلى إبادة التوتسي. وقد ضمن هذا التوجه الأيديولوجي، مقترنًا بالهيكل الهرمي لسلطة الدولة، التعبئة الجماهيرية وقبول العنف.

استخدم السياسيون والزعماء الإسرائيليون، وكذا نظراؤهم من الغربيين مجموعة متنوعة من المفردات والكلمات والمفاهيم لوصف الفلسطينيين ومقاومتهم خلال حرب طوفان الأقصى. قام الأكاديمي والصحفي المتميز بسام بونني بتقصيها، وجمعها في كتابه الذي حمل عنوان: “عبارات الطوفان: حرب الكلمات والسرديات”. يمثل هذا الاستخدام امتدادا لتقاليد حضارية استخدمها الاستعمار الغربي ضد الشعوب المستعمرة.

توزعت حروب الكلمات على تصنيفات عدة أبرزها:

1. الإهانة والتحقير مثل:

* “حيوانات بشرية”، وهو يشير إلى نزع إنسانيتهم وتجريدهم من حقوقهم الأساسية.

* “إرهابيون”، واستُخدم بهدف وصم جميع الفلسطينيين بالإرهاب، وعدم التمييز بين المقاومين المدنيين والمسلحين.

* “نازيون جدد”: وهو يربط الفلسطينيين بأيديولوجية نازية، وهو اتهام خطير؛ يهدف إلى تشويه سمعتهم وتبرير العنف ضدهم.

* “مخربون”: هذا المصطلح يستخدم لتصوير الفلسطينيين كعناصر مدمرة، تسعى إلى تخريب المنطقة.

2. لغة الحرب والإبادة:

* “سحق”: ويشير إلى نية إسرائيلية لسحق الفلسطينيين وقمع مقاومتهم بأي ثمن.

* “تدمير”: ويعكس الرغبة في تدمير البنية التحتية الفلسطينية وتهجير السكان.

* “محو”: ويعكس الرغبة في محو الوجود الفلسطيني وتاريخه.

* “إبادة”: وهو أن كان بغرض التخويف؛ إلا إنه يشير إلي ما قامت به إسرائيل من ارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين.

3. مفاهيم أمنية:

* “تهديد وجودي”: وعادة ما يستخدم لتصوير الفلسطينيين كخطر وجودي على إسرائيل، مما يبرر استخدام القوة المفرطة ضدهم.

* “أمن إسرائيل”: هذا المفهوم يستخدم؛ لتبرير جميع الإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، بما في ذلك الحصار والعقوبات الجماعية.

* “حق الدفاع عن النفس”: ويستخدم لتبرير الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين، حتى لو كانت غير متناسبة مع التهديد.

4. مفاهيم دينية:

* “أرض الميعاد”: هذا المصطلح الديني يستخدم لتبرير الاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية.

* “الشعب المختار”: ويستخدم لتبرير التمييز ضد الفلسطينيين وتفوق اليهود.

5. مفاهيم تاريخية:

* “الضحايا”: استخدام هذا المصطلح يهدف إلى تصوير اليهود كضحايا دائمين، وتجاهل معاناة الفلسطينيين.

* “المحرقة”: والغرض منه تضخيم معاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وتشويه صورة الفلسطينيين كجلادين.

6. مفاهيم سياسية:

* “السلام مقابل السلام”: هذا المفهوم يستخدم؛ لتبرير رفض إسرائيل للمفاوضات مع الفلسطينيين.

* “الدولة اليهودية”: والغرض منه قيام دولة إسرائيل على حساب الفلسطينيين.

7. مفاهيم أخرى:

* “التحريض”: وعادة ما يكون بهدف قمع حرية التعبير لدى الفلسطينيين.

* “الكراهية”: وهدفه تشويه صورة الفلسطينيين كشعب يكره اليهود.

* “اللا سامية”: هذا المصطلح يستخدم لإسكات أي انتقاد لإسرائيل أو لسياساتها.

استخدام هذه المفردات والكلمات والمفاهيم وراءه جوهر واحد وهو: نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين ومقاومتهم.

غالبًا ما يُنظر إلى الأشخاص المجردين من إنسانيتهم، على أنهم يشكلون تهديدًا هائلاً؛ لأنهم أشرار، ويتمتعون بقوى تفوق تلك التي يتمتع بها البشر العاديون. في اضطهاد المجموعة التي تم نزع إنسانيتها، يرى أصحاب السلطة أنفسهم عادةً، وكأنهم يتصرفون دفاعًا عن أنفسهم، وليس مضايقة أقلية مهمشة، أو مجموعة بشرية محددة.

آليات التآكل الأخلاقي: التحييد والانفصال

حتى في مواجهة الضغوط الأيديولوجية والاجتماعية، يُقيّد الأفراد بموانع أخلاقية، تمنعهم من ارتكاب العنف المتطرف. وتتطلب عملية ارتكاب الشر من قِبل الناس العاديين تآكلًا منهجيًا لهذه القيود من خلال عوامل تيسيرية وأساليب تحييد متعددة.

تفترض الحجة الأيديولوجية التقليدية خطأً أن القتل الجماعي يتطلب قلب جميع القيم الأخلاقية التقليدية. بدلاً من ذلك، تسمح أساليب التحييد للجناة بالحفاظ على جوهر قواعدهم الأخلاقية سليمة مع إعادة تعريف أفعال القتل المحددة، على أنها مسموح بها أو مبررة أو ضرورية، ويشمل هذا:

1. النزوح وانتشار المسئولية: إن إحدى آليات التحييد الأكثر فعالية هي السماح للجناة بالتخلي عن المسئولية الشخصية عن أفعالهم.

وعادةً ما يُلقي الجناة بالمسئولية على عاتق السلطات الشرعية، ففي تجارب علم النفس، كان الأشخاص على استعداد لإيقاع صدمات، تبدو مميتة، عندما يتحمل المُجرِّب، بصفته سلطة شرعية. استند الجناة مثل عملاء جهاز الأمن السوفيتي (NKVD) في إرهاب ستالين، إلى التزامهم بطاعة السلطات الشيوعية، وهم بذلك يجعلون عنفهم مشروعًا ومُشرِّفًا. تُشكِّل هذه الفكرة جوهر مفهوم حنا أرندت عن “تفاهة الشر”، حيث إن “طيش” أيخمان- الذي تعود إليه المسئولية الرئيسية عن إبادة يهود أوربا- والتزامه الراسخ بدوره التنظيمي يعنيان أنه لم يشعر بمسئولية شخصية عن العواقب الأخلاقية لأفعاله.

وفي الهياكل التنظيمية المعقدة، تُقسّم الإبادة الجماعية إلى مهام غير ضارة (مثل النقل والحراسة وإدارة القوائم)، مما يُتيح توزيع المسئولية عبر سلسلة القيادة. فالموظف الذي يكتفي بكتابة المذكرات أو وضع المخططات، يستطيع تدمير شعب بأكمله دون إطلاق نار. وقد سهّل النطاق الواسع وتقسيم العمل في حالات مثل المحرقة هذا الانفصال الأخلاقي.

كما إن المشاركة في مجموعات كبيرة أو ارتداء الزي الرسمي/ الأقنعة (كما رأينا في البوسنة أو رواندا، يعزز عدم الكشف عن الهوية، مما يجعل الأفراد أقل اهتمامًا بتقييم الذات وأكثر استعدادًا لارتكاب أفعال، تعتبر إشكالية أخلاقية.

2. التباعد اللغوي والنفسي

ويستخدم الجناة اللغة، ويخلقون حواجز مادية لإبعاد أنفسهم عن الواقع المروع لأفعالهم مثل، استخدام مصطلحات مُلطِّفة، ونزع الصفة الإنسانية، أو خلق المسافة المادية.

يُخفى مصطلح “الذبح” وراءه “لغة التطهير”، واستخدم النازيون مصطلحات مثل، “الحل النهائي” و”المعاملة الخاصة” و”إعادة التوطين”. أشار الخمير الحمر إلى القتل الجماعي بـ”التطهير”. تُنشئ هذه المصطلحات المُلطِّفة خطابًا، “لم يعد من الضروري فيه تجربة الشر، أو حتى إدراكه، على أنه شر”.

وبتصوير الضحايا، على أنهم “دون البشر” أو أدنى منزلة، يُخرجهم الجناة من “عالم الالتزام” البشري، ويُسهّل فعل القتل نفسيًا، إذ يتراجع التعاطف والضمير الأخلاقي عند مواجهة أشياء، تُعتبر أقل من البشر. تُلاحظ هذه الآلية في العديد من جرائم الإبادة الجماعية.

وتُمكّن التكنولوجيا الحديثة من القتل عن بُعد، سواءً من خلال قصف الحلفاء للمناطق خلال الحرب الثانية، أو غرف الغاز النازية، أو القتل باستخدام المسيرات وبالاستعانة بالخوارزميات. هذه التكنولوجيات اختُرعت لتجنب المواجهات المباشرة التي قد تُثير ردود فعل “بشرية”، وتمنع القتل. يُعدّ تجنب الاتصال البصري المباشر أو إخفاء وجه الضحية دافعا قويًا للعدوانية، يعكس تطور تقنيات القتل، من إطلاق النار من مسافة قريبة إلى عربات الغاز المتنقلة، وصولًا إلى غرف الغاز الثابتة، إلى المسرات وتكنولوجيا المعلومات… جهدًا مستمرًا لتعظيم المسافة المادية من أجل راحة الجناة النفسية.

3. التعود والتصعيد

تصبح المشاركة أسهل بمرور الوقت من خلال التعرض المستمر للعنف، وهي العملية المعروفة باسم إزالة التحسس المنهجي، أو ما أطلق عليه التطبيع مع العنف.

يصبح القتل والتشويه والتدمير روتينًا وطبيعيًا، مما يخفف الصدمة، ويسمح للفرد باكتساب مقاومة أكبر للرعب. يتعلم الفرد بالممارسة، وغالبًا ما تؤدي المشاركة المستمرة إلى الوحشية، حيث يفقد العنف طابعه الروتيني، ويصبح “لعبة قاتلة ذات لمسة شخصية من القاتل الجماعي نفسه”. يمكن أن يؤدي تعاطي الكحول والمخدرات إلى كبت مشاعر الشفقة والوعي، مما يجعل القتل أسهل ويعزز التعود.

غالبًا ما ينزلق الأفراد تدريجيًا نحو العنف الشديد على طول “سلسلة من الدمار”، تعكس تصاعد الالتزام. يصبح وقف الفعل الإبادي صعبًا نفسيًا، إذ يتطلب الرفض الاعتراف بأن الأفعال السابقة الأقل بشاعة، كانت خاطئة أيضًا. تُجبر هذه الديناميكية الأفراد على مواصلة المشاركة؛ لتجنب التنافر المعرفي الناتج عن إبطال أفعالهم الماضية.

إن تعقيد الدوافع يتجلى بشكل أفضل من خلال التجارب المتنوعة عبر عمليات الإبادة الجماعية الكبرى:

أظهرت مشاركة كتيبة الشرطة الاحتياطية الألمانية رقم 101، أن الامتثال والطاعة كانا دافعين أساسيين. شارك معظم الرجال لشعورهم بضغط هائل لعدم الخروج عن الصفوف أو التخلي عن رفاقهم للقيام “بالعمل القذر. استغلت الدولة النازية الأعراف العسكرية القائمة للواجب والولاء. والأهم من ذلك، أن التنظيم البيروقراطي للهولوكوست كان له دور فعال في حماية الجناة. تولى أفراد طواعية أدوارًا متخصصة (مثل أدولف أيخمان) فصلت مهامهم البيروقراطية (مثل رسم المخططات، وإدارة النقل) عن عواقب القتل الجماعي، محافظين على الشعور بالنزاهة الأخلاقية من خلال التركيز فقط على إنجاز المهام بكفاءة. في حين أن معاداة السامية وفرت الإطار والشرعية للتدمير، فإن الأيديولوجية لم تكن الدافع الأساسي لمعظم مرتكبي الجرائم من المستوى المنخفض.

لقد كان انتشار القتل في رواندا مدعومًا بمزيج قوي من الروابط الاجتماعية القوية والسلطة المحلية والانتهازية الصارخة. وقد حشد القادة المحليون وميليشيات إنتراهاموي السكان بنشاط. شارك الناس؛ بسبب الإكراه الشديد داخل الهوتو والضغط من الأقران، خوفًا من الإقصاء الاجتماعي، أو حتى الموت إذا رفضوا المشاركة.

وبالإضافة إلي هذه الدوافع، فقد أتاحت الإبادة الجماعية فرصًا هائلة لنهب الأراضي والماشية والمنازل والسلع الاستهلاكية. خدمت المشاركة مصالح اقتصادية (نهب/ بقاء) أو أتاحت للأفراد تصفية حسابات شخصية وخلافات سياسية محلية تحت ستار الإبادة الجماعية.

تضفي الرواية القومية العرقية المتشددة على التوتسي، باعتبارهم “متواطئين” شرعية علي فعل الإبادة، وتبرز في هذه الرواية التهديد الذي تشكله الجبهة الوطنية الرواندية، وتبرر القتل، باعتباره حربًا دفاعية ضرورية، وهي الرواية التي يقبلها العديد من المشاركين، حتى وإن كانت بشكل انتقائي.

تلاعب الخمير الحمر بالمفاهيم الثقافية التقليدية المتعلقة بالمكانة، فجعلوا القتل عملاً مشرفاً والرفض مرادفاً للعار، وبالتالي، استغلوا المصلحة الذاتية لإجبار الناس على المشاركة.

خاتمة

إن ارتكاب الناس العاديين شرورًا استثنائية، ليس لغزًا من أسرار الأمراض البشرية، بل هو نتيجة للتلاعب الاجتماعي والبنيوي، الذي تُمكّنه قدرة الحداثة على الكفاءة التكنولوجية والتبرير البيروقراطي.

تتجذر الإبادة الجماعية في الأفكار المتشددة حول سياسات الأمن، والتي تُولّد في أوقات الأزمات، سردية تبريرية شاملة للعنف المتطرف. ويتم تأمين تورط الناس العاديين في العنف الجماعي من خلال بنية تحتية أيديولوجية، تستفيد من الدوافع اليومية المبتذلة- في المقام الأول الديناميكيات الاجتماعية (التوافق والضغط من الأقران والإكراه) والمصالح الانتهازية (المكاسب المادية والتقدم الوظيفي وتصفية الحسابات)- مع تحييد القيود الأخلاقية من خلال الآليات النفسية والبنيوية مثل، إزاحة المسئولية وإزالة الإنسانية واللغة الملطفة.

إن انتشار هذه الدوافع التي تبدو عادية عبر حالات متنوعة، من معسكرات الموت في الهولوكوست إلى قرى رواندا، يثبت أن هذه الآليات عالمية، مما يدل على أن القدرة على الشر الشديد ليست حصرية للأفراد الوحشيين، ولكنها مصنوعة اجتماعيًا، عندما يتم تعليق القدرة الأخلاقية للبشر العاديين وتجاوزها استراتيجيًا.

اقرأ في هذه السلسة:

١- تصنيع الوحوش البشرية: تعريف الآخر كتهديد 

٢- الدولة وإنتاج العنف الجماعي

٣- العنف الاستبدادي وعبادة الهيمنة