مُستحيل يكون عندك برلمانات حقيقية في مجتمعات لا تتمتع بالقدر الكافي من الحريات المدنية. دون حريات مدنية تأتي البرلمانات على مقاس السلطات التنفيذية التي تهندسها، ابتداءً من اصطناع الأحزاب السياسية، ثم حشو هذه الأحزاب بعناصر مُنتقاة وفق مفرزة السلطة، ثم تصميم قوانين الانتخابات، بما يضمن نتائجها، قبل أن تجرى، ثم إدارة العملية الانتخابية ذاتها كزوابع في قواقع أو فناجين، كما تقول الأمثال الشعبية، وتكون المحصلة برلمانات بالاسم فقط، لكنها في جوهرها ملحقات وتوابع للسلطات التنفيذية، حيث تسقط وظيفة الرقابة، وحيث تكون وظيفة التشريع أداةً طيعةً لينةً سهلةً في يد الحكومات بغض النظر عن إرادة أو مصالح الشعوب.

عرف العالم بذور البرلمانات الحديثة عند مطلع القرن الثالث عشر في بريطانيا، ثم عند مطلع القرن الرابع عشر في فرنسا ثم إسبانيا، وتطورت عبر أكثر من ثمانية قرون متوازية مع كفاح الشعوب الأوروبية على عدة جبهات: التحرر من السلطة المطلقة للملوك، التحرر من سلطة الكنيسة ورجال الدين، التحرر من التمييز الطبقي لصالح النبلاء والإقطاع والأشراف، التحرر من تخلف القرون الوسيطة المبكرة، وقد أثمر هذا الكفاح شعوباً حرة متنورة، لم تولد بقرار، ولم تتشكل عقولها وضمائرها بين يوم وليلة، ولم تحصل على الحرية والاستنارة بمنحة من حكامها، لكنها ناضلت بصدق وجدية؛ من أجل أن تزيح ظلام الطغيان سواء من الحكام أو الإقطاع أو رجال الدين أو الخرافات الموروثة من القرون البعيدة. أوروبا بدأت حداثتها منذ وقت مبكر، منذ نهاية القرن الحادي عشر مع بداية الحروب الصليبية، في وقت كانت حضارتنا العربية الإسلامية قد بلغت ذروتها، ثم أخذت في التراجع التدريجي، الفترة ذاتها التي خرجت فيها أوروبا من التخلف إلى الحضارة، هي ذاتها الفترة التي انتقلت فيها حضارتُنا من الصعود إلى الأفول، حتى انطفأت تماماً، فعندما جاء نابليون يغزو مصر والشام، كان هذا إعلاناً عن تتويج حضارة أوروبا فوق العالم، كما كان شهادةً على خروج الحضارة العربية الإسلامية من مسرح التاريخ الفعال، ومن دوائر التأثير الحقيقي. رحلة شاقة قطعها الإنسان الغربي، بلغت ذروتها مع ثورتين للإنجليز في النصف الثاني من القرن السابع عشر، انقطعت في الأولى رقبة الملك، وهرب الملك في الثانية، ومن يومها وملوك بريطانيا يحسبون لشعبها ألف حساب. ثم بعدها بمائة عام، كانت ثورة الأمريكان التي ولدت من رحمها أعتى أمة في تاريخ البشرية المعاصرة، أمة ولدت جاهزة في يدها الدستور والبرلمان والحريات والحقوق المدنية، الأمة الأمريكية كانت، وما زالت خير ما في نضال أوروبا القديمة من أجل الحريات العامة والكرامة الإنسانية واحترام العقل وإعلاء صوت الضمير، انتصرت ثورة الأمريكان، فكان صداها في فرنسا قوياً، اندلعت الثورة، وقطعت رقبة أعظم ملوك أوروبا، كان الدرس بليغاً مؤثراً، ارتعدت منه نفوس كافة ملوك القارة وأباطرتها العظماء، نظموا أكبر وأعتى ثورة مضادة في التاريخ ضد الثورة الفرنسية، تعثرت الثورة، وانحرفت للفوضى، ثم العنف، ثم الإرهاب، ثم الديكتاتورية، ثم انكسرت تماماً، وعادت الملوك من أسرة البوربون الذين قامت عليهم الثورة، لكن في نهاية المطاف انتصرت الثورة الفرنسية؛ لأنها كانت على الجانب الصواب من التاريخ، والأهم أنها انتصرت؛ لأنها كانت مسبوقة بكفاح مستمر، خمسة قرون متواصلة من مطلع القرن الرابع عشر حتى خواتيم القرن الثامن عشر، كانت خلالها فرنسا هي قاطرة الفكر والعلم والاستنارة والسياسة والإدارة والقوة والفنون والآداب في أوروبا والعالم، لم تنشأ الثورة من عدم، ولا من فراغ ولا من فقر ولا من بؤس ولا من ضعف، العكس صحيح اندلعت الثورة وفرنسا إمبراطورية قوية، لكن سوء الإدارة المالية، والتمييز الطبقي، ثم هزيمتها في حرب السبع سنوات 1756- 1763 أمام بريطانيا، ثم خسارتها لمستعمراتها في أمريكا، كل ذلك خلق حالة الغضب التي منها اندلعت الثورة، لكن الغضب لم يكن هو سر عظمة الثورة، سر عظمتها فيما سبقها من تطورات في العلم والفكر والأدب والإدارة والسياسة والعسكرية على مدار القرون الخمسة السابقة عليها والممهدة لها.

في هكذا تطور تاريخي حافل، لم تكن بريطانيا في حاجة إلى دستور ليبرالي ديمقراطي مكتوب على ورق، ولماذا يحتاجون طباعته على ورق، وهو محفور بالأرواح والدماء في الجهاز العصبي والعقلي والضميري للأمة البريطانية كلها على مدار ثمانية قرون أو أكثر، تاريخ بريطانيا منذ مطلع القرن الثالث عشر هو التسجيل اليومي على مدار الساعة، لحق شعبها في الحرية والكرامة سواء حرية سياسية أو عقلية أو عقائدية أو اقتصادية أو شخصية، كل هذه الحريات باتت عبر مئات السنين معطيات وبديهيات ومسلمات غير قابلة للنقاش، وليست محل خلاف، تبلورت بالقدر الكافي، تجذرت بالقدر الكافي، لا يستطيع حاكم ولا كنيسة ولا طبقة المساس بها، ناهيك عن اقتلاعها من جذورها. لقد دفعت شعوب أوروبا ثمن الحرية أولاً بأول، ثم ذاقت طعمها أولاً بأول، ثم حصدت ثمراتها أولاً بأول، فباتت من المعلوم من الحياة بالضرورة، مثلما الإنسان- بالطبيعة- يتنفس ويأكل ويشرب ويتناسل، لم تعد محل قبول ورفض وشد وجذب، صارت الحرية هي الحياة، وصارت الحياة هي الحرية، الحياة والحرية مترادفان لفظيان لمعنى واحد، لا يقبل القسمة ولا الانفصام.

خلاصة التجربة الأوروبية: البرلمانات سبقها وتزامن معها وبعدها كفاح متواصل لعدة قرون من أجل الحريات العامة والحقوق المدنية، التمثيل النيابي كان مسبوقاً ومرفوقاً وملحوقاً ومتبوعاً بكفاح لا ينقطع لأجل: فكرة أن الشعب هو صاحب السيادة، ومن ثم فهو مصدر السلطة، ومن ثم، فإن الحكومة تعمل بأمر الشعب، وليس الشعب يخضع لأمر الحكومة، إلا بقبول منه وتفويض منه لها، ومن ثم، فإن الشعب له الحق في مراقبة الحكومة ومساءلتها ومراجعتها ومحاسبتها، بل وعزلها عندما تقتضي المصلحة عزلها، ومن ثم، فإن الشعب له الحق في التشريع، على أساس أن مصلحته هي مدار عمل السلطات العامة، حتى يكون الشعب مراقباً ومشرعاً وصاحب سيادة ومصدر سلطة، فيلزمه أن يتمتع بكافة الحريات العامة: حريات الصحافة والإعلام والتفكير والتعبير، حريات الاعتقاد والدين والمذهب والضمير، الحريات الأكاديمية والبحث العلمي والاكتشاف والمبادرة، حريات الاقتصاد والإنتاج والسعي للأرزاق، حريات الإقامة والانتقال مع حرمة الحياة الخاصة إلى آخره.

عندنا في الفترة ذاتها، كانت بلادنا تعيش لحظة مواجهة وجودية سواء مع الخطر الصليبي، ثم مع الخطر المغولي، وانتقلت دفة القيادة من آخر حكم عربي، وهو الخلافة الفاطمية في القاهرة، والخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الأموية في شبه الجزيرة الإسبانية، تساقط الحكم العربي بعد صراعات طويلة فيما بينهم، ثم آل حكم بلادنا للأكراد، ثم المماليك ثم العثمانيين، غلبت الطبيعة العسكرية على المدنية، وغلب الطابع الإقطاعي الطبقي على المجتمع والاقتصاد، وغلب التقليد على الاجتهاد، وتضافرت المذاهب الفقهية الأربعة في بنية السلطة، ودخل العلم في طور الاجترار والتكرار، واللاحق يستنسخ من السابق، وبات التفكير لا يزيد عن حفظ المتون، حتى انطفأت أنوار الحضارة بالكلية، ويوم ضربت مدافع نابليون قلاع الإسكندرية، كانت بمثابة أجراس تدق ليصحو الشرق العربي الإسلامي من نوم طويل وغفلة عميقة.

فكرة المشورة لم تكن غائبة عندنا بالكلية، كان الحكام من المماليك- عند الاضطرار وفي لحظة الضرورة العصيبة مثل الحرب وغيرها- يلجأون لمشورة قادة الجند وكبار الفقهاء وأعيان التجار. ثم في عهد محمد علي باشا، صارت مشورة منظمة في مجلس، منتقاة من بيروقراطية الدولة ووجهاء الريف وتجار المدن. ثم أسس الخديوي إسماعيل 1866 مجلس شورى النواب؛ بهدف دفع الشعب على طريق التحضر. ثم بلورت الثورة العرابية 1881 مطالب واضحة في الحكم الدستوري والتمثيل النيابي وتقييد سلطة الحاكم. ثم أنجزت ثورة 1919 أول دستور وأول عهد برلماني. ثم ثورة 23 يوليو 1952، وعدت بإقامة حياة ديمقراطية سليمة، لكنها على أرض الواقع أسست حياة ديكتاتورية سليمة، وما زال الحال على ما هو عليه  حتى اليوم والغد.

…………………………………….

……………………………………

السؤال: لماذا أخفقت كافة تجاربنا البرلمانية؟ 

الجواب: لأنها نشأت في تربة فقيرة في مادة الحريات المدنية.

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.