لم يعد تكفي كلمات الديمقراطية النظرية، ولا أبعادها السياسية، ولا تعبر عن الحالة التي وصلت إليها أهم انتخابات تعبر عن إرادة المواطنين في اختيار نوابهم، ليس فقط للتعبير عن طموحاتهم أو آمالهم في ظل ظروف اقتصادية، أتت على المواطنين لتعسف بطموحاتهم في الحياة الهنيئة، أو أن يكون لهم استقرار في ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية على حد السواء، فكيف إذن يكون حال مجلس النواب القادم، والذي تكمن مهمته الرئيسية الدستورية في حماية المواطنين من تعسف السلطة التنفيذية، وذلك عن طريق الرقابة على أعمالها في كافة مضاربها، أو في اتخاذ سياسات تشريعية، تفي باحتياجات المواطنين، وتدافع عن حقوقهم وحرياتهم، إذ لم تعد كلمات الديمقراطية ذات دلالة فعلية في الحياة الواقعية للمواطنين.

إذ أنه منذ أيام قليلة أصدرت المحكمة الإدارية العليا أحكامها ببطلان الانتخابات وإلغاء نتائجها في عدد 29 دائرة انتخابية على مستوى الجمهورية، وإذ ما أضفنا إلى ذلك العدد ما أبطلته اللجنة العليا للانتخابات بعد حديث رئيس الجمهورية، والمتمثل في عدد 19 دائرة، فإن مجموع الدوائر التي تم إلغاء الانتخابات بها 48 دائرة من إجمالي 70 دائرة، تمثل العدد الكلي للدوائر الانتخابية على مستوى الجمهورية.

وما يهم في المقام الأول هو أن ننوه إلى ما يمثله ذلك الرقم بالنسبة لما شاب العملية الانتخابية من عيوب ومخالفات، ارتقت إلى درجة الإلغاء، أول هذه المؤشرات أن العملية الانتخابية في قسطها الأعظم لم تكن متماشية بشكل أو بآخر مع المحددات القانونية، بمعنى أنها لم تحترم النصوص القانونية، ومعنى ذلك الأول أن المرشحين لم يكن يعنيهم سوى مجرد الفوز بالكرسي النيابي، سواء كان ذلك بطريقة شرعية أو غير شرعية، وهو الأمر الذي أسفر عن وجود كم من المخالفات القانونية؛ أدى إلى أن تصدر المحكمة الإدارية العليا أحكامها بإلغاء النتائج، وبطلان الانتخابات، ذلك هو أول مفرد تعبيري من الممكن الوصول إليه، أما الأخطر من ذلك، فإنه يكمن في كون هؤلاء المرشحين لم يحترموا القانون خلال مرحلة الانتخابات، فهل سيحترمونه إذا ما تم إعلان نتيجة فوزهم بمقاعد مجلس النواب؟ ومن زاوية نتائجها، فهل أولئك المرشحون سوف يعبرون عن آلام الشعب وآماله خلال فترة تواجدهم داخل المجلس التشريعي لمدة خمس سنوات، أم أن الأمر سيقف عند حد حماية مصالحهم وطموحهم الشخصي، وهذا أقرب تعبير تمثيلي عن الحالة التي وصل إليها المرشحون.

وإذا ما تطرقنا إلى أسباب فساد المرحلة الانتخابية، فلا أجد أفضل مما نشر عبر المواقع الإلكترونية والصفحات الشخصية لمدونتي “الفيس بوك– تويتر” من مقاطع للتزوير والرشاوى الانتخابية، وهو ما تم التعبير عنه باستخدام المال السياسي في اللعبة الانتخابية، بخلاف السبل والأساليب الأخرى المضادة لمصطلحات علمية من الممكن اختزالها في معاني الديمقراطية أو التداول السلمي للسلطة، ذلك جميعه ما يصب في خانة عدم احترام سيادة القانون.

وبمزيد من النقاش الموضوعي، فإن الأمر قد يزداد طينا بعد بلة، حال أن يطول مراحل الإعادة الطعون أمام المحكمة الإدارية العليا، ونعقد الأمر أكثر، إذا قلنا إن هذه الانتخابات لا تمثل سوى نصف عدد أعضاء المجلس، حيث تم حسم مقاعد النصف الأول من خلال القائمة المغلقة، والتي تم نجاحها بالتزكية، فهل لو افترضنا أن هناك قوائم مضادة لتلك القائمة قد كان ينال منها البطلان والإلغاء.

الأمر في مجمله العام سيئ، بل أكثر من ذلك المعنى، فلا يستحق المصريون هذه الصورة القميئة للتعبير عن إرادتهم، ولا تستحق مصر ذاتها، أن تكون بهذا الهوان على ممثليها، إنها حقبة لا يمكن بحال من الأحوال، أن تمر مرور الكرام، ولا يمكن اعتبارها مرحلة قد تصل إلى التدقيق بعد هذه الأحكام، فقد سبق ذلك حديث لرئيس الجمهورية، أعقبه بطلان، وقد لحق بعد ذلك انتخابات في دوائر ثانية، لم تصل بعد طعونها إلى المحكمة الإدارية العليا. فهل يستحق المصريون كل هذا المرار؟

الأمر في مجملة، وهذه اللوحة بشكلها الحالي لا تحتاج إلى مجرد تمرير سياسي لإنهاء الأمر في صورته الحالية؛ لأن المشهد لم يكن محتملاً، وسوف يٌبقي صورة سيئة، لما تعانيه الحياة السياسية في مصر بشكل كامل، لكون الانتخابات لم تنتهِ بعد، وأن هناك مرحلة إعادة، ستفرز العديد من المخالفات، بما يزيد الصورة عتمة فوق سوء.

إذن يجب على القائمين على المجتمع المصري والمعنيين بحماية طموحه وآماله، أن يعكفوا على هذه الصورة بالمزيد من النقاش والبحث، حتى نصل إلى مرحلة علاجية، تتناسب مع يحتاجه الشعب المصري حال وجود هذه الانتخابات كأهم أداة للتعبير عن الشكل الديمقراطي أو المسار العام للتداول السلمي للسلطات.

وأعتقد أن أول ما يجب أن تتناوله موائد النقاش والبحث، هو النظم القانوني للانتخابات، وبشكل أخص نموذج نظام القائمة المغلقة، والذي اختزل نصف أعداد المجلس النيابي، في ظل ما تم تسميته بالقائمة الوطنية الموحدة، والتي أخذت نصف أعداد المجلس، دونما أي تعبير عن حقيقة إرادة الناخبين، والذين يجب أن تكون هي محل اعتبار السلطة، والتي يجب أن تكون هي المعبر الأوحد عن مسار الانتخابات بصدق، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يجب أيضًا مراجعة أوجه المخالفات التي رصدتها الهيئة الوطنية للانتخابات، والتي على إثرها أبطلت نتيجة 19 دائرة انتخابية، وكذلك ما جاء في تسبيب أحكام المحكمة الإدارية العليا، مما كان سببًا في إصدارها أحكام بإلغاء الانتخابات في 29 دائرة انتخابية.

كما وأن ما دار وأسفرت عنه هذه الأحداث الجسام، فإنه يعقد الحسابات الشخصية للمواطنين، في أن يكون لتصويتهم في مثل هذه الانتخابات أية قيمة حقيقية، وهو ما يعبر عن أهمية المشاركة الانتخابية، والتي تكمن في شعور الناخب بمدى تأثير صوته الانتخابي في العملية الانتخابية، وكلما كان لصوت الناخب في العملية الانتخابية تأثيراً قوياً، أكد هذا التأثير أن المسيرة الديمقراطية تسير على نهج سليم في البلد الذي يعقد فيه الانتخابات، وكما أن للمشاركة الانتخابية أهمية كبرى في تعزيز الديمقراطية، والنهوض بالأوطان، فإن وجود نهج ديمقراطي وسعي والتزام بالنهوض بالأوطان في كافة الميادين، يعمل أيضا على رفع نسبة المشاركة الانتخابية لإدراك الناخب بأهمية صوته في تغيير مصير الشعب، ووضع الوطن في الاتجاه الصحيح، كما أن المشاركة السياسية لا تنبع من مجرد رغبة الناخب في ممارسة حقه الانتخابي، وإنما تنبع من الممارسات السليمة لفاعليات الانتخابات، حتى يتأكد كل مواطن من كونه يمارس حقه في إدارة شؤون البلاد، دونما أية مؤثرات أو تدخلات تعوق أمر المشاركة أو تقوضه أو تفرغه من مضمونه الحقيقي.