إن الأسس الأيديولوجية لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 متجذرة في الرفض الواضح لإجماع السياسة الخارجية في فترة ما بعد الحرب الباردة ١٩٩٠، والتركيز الواضح على المرونة الثقافية والاقتصادية المحلية كمتطلبات أساسية للتأثير الدولي. تتميز هذه الاستراتيجية بمبدأها المركزي “أمريكا أولاً”، وتستند إلى مبادئ أساسية، تشمل السيادة الصارمة للدولة القومية، والقومية الاقتصادية، ورؤية محددة للهوية الأمريكية، وإعطاء الأولوية الراسخة للكفاءة والجدارة على الأيديولوجيات اليسارية البديلة.
أمريكا أولاً وسيادة الدولة القومية
وتنص الاستراتيجية على أن الغرض من السياسة الخارجية الأمريكية هو حماية المصالح الوطنية الأساسية فقط. يُعرَّف الدافع الرئيسي للسياسة ببساطة، بأنه “ما يصلح لأمريكا- أو بكلمتين، “أمريكا أولاً””. يوصف هذا النهج، بأنه عملي وواقعي ومبدئي وقوي.
إن أحد العناصر الأساسية لهذه الأيديولوجية هو تأكيد “سيادة الأمم”، الذي ينص على أن الدولة القومية هي الوحدة السياسية الأساسية للعالم، وستظل كذلك. وفق هذه الرؤية، يُعتبر من الطبيعي والعادل، أن تُعطي جميع الدول الأولوية لمصالحها، وتحمي سيادتها بحماس، وبالتالي فإن الولايات المتحدة ستحمي سيادتها، دون أي اعتذار، وترفض أي محاولات من جانب المنظمات العابرة للحدود الوطنية والدولية لتآكلها.
يمثل هذا الموقف تحولًا كبيرًا عن السياسات السابقة، التي انتُقدت لربطها السياسة الأمريكية بالمؤسسات الدولية، والتي يُزعم وفق الوثيقة أن بعضها كان مدفوعًا بمعاداة أمريكا أو بنزعة عابرة للحدود الوطنية، تسعى صراحةً إلى حل سيادة الدول الفردية.
في علاقاتها مع الدول الأخرى، تشجع الولايات المتحدة هذه الدول على إعطاء الأولوية لمصالحها الخاصة، والوقوف ضد “التوغلات التي تقوض السيادة من قبل أكثر المنظمات العابرة للحدود الوطنية تدخلاً”، والسعي إلى إصلاح تلك المؤسسات بحيث تساعد، بدلاً من أن تعوق السيادة الفردية، وتعزز المصالح الأمريكية. تهدف الاستراتيجية صراحةً إلى منع القوى أو الكيانات الأجنبية من فرض الرقابة على الخطاب الأمريكي، أو تقييد حقوق حرية التعبير للمواطنين، أو التلاعب بنظام الهجرة، لبناء كتل تصويت أجنبية موالية داخل البلاد.
القومية الاقتصادية ومعاداة العولمة
يتركز النقد الأيديولوجي للماضي بشكل كبير على معاداة العولمة والسياسات الاقتصادية التي انتهجتها نخب السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب الباردة. اتُهمت الإدارات السابقة بوضع “رهانات مضللة ومدمرة للغاية على العولمة، وما يسمى بـ “التجارة الحرة”، مما أدى في النهاية إلى تفريغ الطبقة الوسطى الأمريكية والقاعدة الصناعية الضرورية للتفوق الاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة.
تُواجه استراتيجية الأمن القومي لعام ٢٠٢٥ هذا الأمر باعتماد إطار اقتصادي وطني بامتياز، فهي تُلزم السياسة الأمريكية بأن تكون “مُؤيدة للعمال الأمريكيين”، مُعطيةً الأولوية لهم على مجرد إجراءات مُؤيدة للنمو، بهدف إعادة بناء اقتصاد قائم على الرخاء ومُشترك على نطاق واسع.
يعتبر الأمن الاقتصادي أساسيا للأمن القومي، وتتضمن الاستراتيجية العديد من الأولويات ذات الصلة التي تهدف إلى عكس الضرر الملحوظ الناجم عن العولمة:
1. إعادة التوازن التجاري: ستعطي الولايات المتحدة الأولوية لإعادة التوازن في العلاقات التجارية، وخفض العجز التجاري بشكل كبير، ومعارضة الحواجز التصديرية، وإنهاء الممارسات المناهضة للمنافسة التي تضر بالصناعات الأمريكية.
الهدف هو صفقات تجارية عادلة ومتبادلة، ولكن مع بقاء الأولوية الصريحة لعمال الدولة وصناعاتها وأمنها القومي.
2. إعادة التصنيع إلى الداخل: تلتزم الاستراتيجية بإعادة التصنيع في الاقتصاد، وإعادة التصنيع إلى الداخل، وجذب الاستثمار مع التركيز على قطاعات التكنولوجيا الحيوية والناشئة. سيتم تحقيق ذلك من خلال الاستخدام الاستراتيجي للتعريفات الجمركية والتقنيات الجديدة، مما يضمن عدم اعتماد الدولة مرة أخرى على خصم في المكونات الأساسية، وتستند هذه الاستراتيجية إلى حجة ألكسندر هاملتون- أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة- القائلة بأن الولايات المتحدة لا ينبغي لها أبدًا، أن تعتمد على أي قوة خارجية في توفير المكونات الأساسية الضرورية للدفاع أو الاقتصاد.
3. إنهاء الهجرة الجماعية: ترتبط الاستراتيجية أيديولوجيًا بالقومية الاقتصادية والحماية الثقافية، وتعلن أن “عصر الهجرة الجماعية قد انتهى”. تجادل بأن الهجرة الجماعية أثبتت أنها مدمرة عالميًا، حيث تُرهق الموارد، وتزيد من الجريمة، وتُضعف التماسك الاجتماعي، وتُشوه أسواق العمل، وتُقوض الأمن القومي. يُعرَّف أمن الحدود، بأنه العنصر الأساسي للأمن الوطني، ويهدف إلى السيطرة الكاملة على الحدود والهجرة، ومنع تدفق التهديدات عبر الحدود، وإنهاء تدفقات السكان المزعزعة للاستقرار.
الهدف هو عالم تتعاون فيه الدول لوقف الهجرة بدلاً من تسهيلها.
أسس الثقافة والهوية: الجدارة والكفاءة
من أهمّ عناصر استراتيجية الأمن القومي 2025 دمجُ الاهتمامات الثقافية والاجتماعية مباشرةً في إطار الأمن القومي. ويُعتبر الأمنُ على المدى الطويل مستحيلاً، دون “استعادةِ وتنشيطِ الصحةِ الروحيةِ والثقافيةِ الأمريكية”.
تؤكد الاستراتيجية على الحفاظ على المزايا الأمريكية الأساسية: الكفاءة والجدارة. تُعتبر الكفاءة والجدارة من بين أعظم المزايا الحضارية لأمريكا، مما يضمن الابتكار والازدهار. تستهدف الاستراتيجية صراحةً الحركات الأيديولوجية التي تُعتبر تهديدًا لهذا الهيكل، مشيرةً إلى أن الإدارة” تعمل على إعادة غرس ثقافة الكفاءة، واجتثاث ما يُسمى بـ “التنوع والإنصاف والشمول” (DEI) وغيرها من الممارسات التمييزية والمعادية للمنافسة التي تُضعف مؤسساتنا وتعوق تقدمنا”.
تحذر الاستراتيجية من أنه في حالة خنق الجدارة والكفاءة، فإن المزايا التاريخية لأمريكا في العلوم والتكنولوجيا والصناعة والدفاع والابتكار ستتبخر، علاوة على ذلك فإن نجاح “الأيديولوجيات المتطرفة التي تسعى إلى استبدال الكفاءة والجدارة بمكانة الجماعة المفضلة من شأنه، أن يجعل أمريكا غير قابلة للتعرف عليها وغير قادرة على الدفاع عن نفسها”.
تُحدد الاستراتيجية حماية البلاد من “التخريب الثقافي” والدعاية الهدامة وعمليات التأثير كمصلحة وطنية رئيسية. ستعارض الولايات المتحدة أيضًا القيود المناهضة للديمقراطية على الحريات الأساسية مثل حرية التعبير، وحرية الدين والضمير، والحق في توجيه الحكومة المشتركة، وخاصة بين الحلفاء.
تعريف الأسرة والأمن القومي الأمريكي
تُعد النظرة المحددة لوحدة الأسرة الأمريكية محور رؤية الصحة الثقافية والروحية. تؤكد الاستراتيجية على الرغبة في أمريكا التي تعتز بماضيها، وتتطلع إلى عصر ذهبي جديد، ولديها مواطنون فخورون وسعداء ومتفائلون. والأهم من ذلك، أن هذا المستقبل المنشود “لا يمكن تحقيقه دون تزايد أعداد العائلات القوية والتقليدية التي تربي أطفالًا أصحاء”. هذا الرابط الأيديولوجي يؤسس لوحدة الأسرة التقليدية كمكون أساسي ضروري للأمن الوطني على المدى الطويل والمرونة المجتمعية، مما ينقل البنية الاجتماعية المحلية من مجال اجتماعي/ ثقافي بحت إلى مجال التخطيط الاستراتيجي.
مفاهيم ومبادئ أخرى
وبعيداً عن الأيديولوجية الأساسية المتمثلة في “أمريكا أولاً”، فإن الاستراتيجية تسترشد بمفاهيم واقعية محددة، ترسم نهجها في التعامل العالمي:
السلام من خلال القوة: ينص هذا المبدأ على أن القوة هي أفضل رادع. تفترض أن الدول التي تحترم القوة الأمريكية ستتقبل الجهود الأمريكية لحل النزاعات، والحفاظ على السلام، ويتطلب تحقيق ذلك الحفاظ على أقوى اقتصاد في العالم، وتطوير أحدث التقنيات، وتعزيز الصحة الثقافية، ونشر الجيوش الأكثر كفاءة.
الاستعداد لعدم التدخل: استنادًا إلى إعلان الاستقلال، تدعم استراتيجية الأمن القومي، تفضيل المؤسسين الواضح لعدم التدخل، مع الاعتراف بحق جميع الدول في “موقف منفصل ومتساوي”. في حين أن الالتزام الصارم يُعتبر مستحيلاً بالنسبة لدولة ذات مصالح عديدة ومتنوعة، فإن هذا الاستعداد يهدف إلى وضع معيار مرتفع، لِما يشكل تدخلاً مبررًا.
الواقعية المرنة: يعزز هذا المفهوم التقييم الواقعي لما يمكن تحقيقه، وما هو مرغوب فيه في التعاملات الدولية. تسعي الولايات المتحدة إلى إقامة علاقات جيدة وروابط تجارية سلمية، ولكن دون فرض أي تغيير ديمقراطي أو اجتماعي آخر، يختلف اختلافًا كبيرًا عن تقاليد وتاريخ الدول الأخرى.
توازن القوى: لا يمكن للولايات المتحدة أن تسمح لأي دولة ،بأن تصبح مهيمنة إلى درجة تهدد المصالح الأمريكية. بينما ترفض الولايات المتحدة مفهوم الهيمنة العالمية المشؤوم لنفسها، يجب عليها أن تمنع الهيمنة العالمية، وأحيانًا الإقليمية للآخرين، ويتطلب هذا النهج في بعض الأحيان العمل مع الشركاء لإحباط الطموحات التي تهدد المصالح المشتركة.
مبدأ مونرو الجديد: تُلزم هذه السياسة بإعادة تأكيد مبدأ مونرو وتطبيقه؛ لاستعادة التفوق الأمريكي في نصف الكرة الغربي. تهدف “نتيجة ترامب” لهذا المبدأ التاريخي إلى حرمان المنافسين من خارج نصف الكرة الأرضية الغربي من القدرة على وضع قوى تهديدية، أو امتلاك أو السيطرة على أصول حيوية استراتيجيًا داخل هذه البقعة الأرضية، وبالتالي حماية الوطن وسلاسل التوريد الحيوية.
باختصار، تمثل استراتيجية الأمن القومي لعام 2025 تحولًا أيديولوجيًا شاملاً، يعتمد بشكل كبير على فلسفة “أمريكا أولاً” التي تعطي الأولوية للاكتفاء الذاتي الاقتصادي والقومية الاقتصادية، والتماسك الثقافي المتجذر في الجدارة والهياكل الأسرية التقليدية، والسيادة الوطنية الثابتة، كل ذلك مع تطبيق القوة الأمريكية بشكل انتقائي لتحقيق الاستقرار في البيئة العالمية بطرق تخدم المصالح الوطنية الأساسية بشكل مباشر.






