تراجعت واردات مصر من القمح بنسبة 22.8% تقريبًا خلال العشرة أشهر الأولى من العام الحالي مدفوعة بانخفاض الواردات الحكومية بالمقام الأول، وسط حديث حول الأسباب التي تراوحت ما بين رغبة الحكومة في تقليل الاستيراد، أو وجود مخزون قوي من القمح، يمنح الحكومة مرونة في تقليص الاعتماد على الأسواق التقليدية، وتوسيع نطاق التعاون المستقبلي مع أسواق جديدة.

بحسب البيانات الصادرة عن وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية المصرية، وصلت قيمة الواردات إلى 2.967 مليار دولار خلال الفترة من (يناير ـ أكتوبر 2025)، مقارنة بـ 3.842 مليارات دولار خلال الفترة ذاتها من العام السابق.

تشير البيانات الجديدة إلى تحسن نسبي في الواردات خلال الفترة من يوليو- نوفمبر 2025، فإجمالي الواردات انخفض بأكثر من 27% على أساس سنوي في النصف الأول من عام 2025 ليصل إلى 5.2 ملايين طن، لكن النسبة زادت بحوالي 4.2% تقريبًا.

انخفضت حصة الحكومة من الواردات في النصف الأول بنسبة 57% لتصل إلى 1.5 مليون طن، ولا يشمل هذا المشتريات المحلية أو أي مشتريات تتم عبر وسطاء أو شركات خاصة والتي بلغت 3.7 ملايين طن.

لماذا انخفضت الواردات؟

الدكتور أشرف غراب الخبير الاقتصادي يقول إن تراجع الواردات يأتي ضمن خطة الدولة نحو تقليص فاتورة الواردات من الحبوب، واستمرار التوجه نحو تعزيز الإنتاج المحلي منها من أجل الوصول تدريجيا للاكتفاء الذاتي.

من المتوقع أن تبلغ واردات مصر من القمح للسنة التسويقية 2025/ 2026 نحو 12.7 مليون طن متري، بزيادة قدرها 1.6% عن العام الماضي، مدفوعةً بنمو الاستهلاك المطرد الناتج عن النمو السكاني، وفقًا لآخر تحديث لوزارة الزراعة الأمريكية للحبوب والأعلاف.

يقول غراب إن الحكومة تعمل على تحسين منظومة التخزين والتوريد، ودعم برامج التعاقدات المسبقة لتقليل تأثير تقلبات الأسعار العالمية على السوق المحلية، كما يعكس الانخفاض استراتيجية واضحة للتعامل مع احتياجات منظومة الخبز المدعوم، حيث اعتمدت الحكومة بشكل أكبر على مخزونها الاستراتيجي الضخم، بالإضافة إلى ما جمعته من المحصول المحلي.

قفزت واردات مصر من القمح لأعلى مستوى منذ 10 سنوات خلال عام 2024، لتصل إلى 14.2 مليون طن مقابل 10.8 مليون طن في 2023، بزيادة بلغت 31%، في ظل انخفاض أسعار القمح العالمية حينها إلى 240 دولاراً للطن، مقابل أسعاره في 2023 التي تجاوزت 350 دولاراً للطن.

قال غراب إن الحكومة تمكنت من تجميع 3.8 مليون طن من القمح من المزارعين المحليين، وهي كمية ساهمت في سد جزء كبير من الفجوة التي كانت تعتمد على الاستيراد لتغطيتها، مما يقلل من الضغط على العملة الصعبة، ويعزز من القدرة التفاوضية للبلاد فى الأسواق العالمية.

مضاعفة مناشئ القمح المستورد

تقدم الحكومة أسعارًا مضمونة لتسليم القمح من المزرعة تتراوح بين 277 و290 دولارًا أمريكيًا للطن، وهو إجراء ساهم بالفعل، في تأمين ما يقرب من 4 ملايين طن متري من القمح المنتج محليًا هذا العام، ولكن رغم ذلك لا يمثل الإنتاج المحلي سوى 50% إلى 55% من احتياجات القمح السنوية

من المتوقع، أن يصل الاستهلاك إلى 20.3 مليون طن متري، بزيادة عن 20 مليون طن متري بالسنة المالية 2024/ 2025، ويعزى ذلك إلى حد كبير إلى الطلب على الغذاء والبذور والطلب الصناعي، ويظهر ذلك تعزيز القطاع الخاص مشاركته في واردات القمح، مما يسهّل زيادة إنتاج الدقيق للتصدير إلى الأسواق الإقليمية، وتوريده إلى المخابز والأماكن الخاصة المتخصصة في المنتجات الفاخرة.

من المرجح، أن تسجل صادرات دقيق القمح مليون طن متري واحد خلال السنة المالية 2025/ 2026، بانخفاض قدره 23% عن 1.3 مليون طن متري المقدرة للسنة المالية 2024/ 2025، بسبب تشديد لوائح التصدير الحكومية، المُصممة لموازنة الاحتياجات المحلية مع كميات التصدير.

سياسة استيراد جديدة.. ما علاقتها بالتوريد؟

الدكتور ألكسندر بيلوزيرتسيف، رئيس شركة ألكسندرا الاستشارية، لديه تفسير آخر، موضحا أن تجارة الحبوب الدولية لها طبيعة خاصة نوعًا ما، حيث يحتاج الطرفان (البائع والمشتري) لمعرفة بعضهما البعض، وعندما ينضم أشخاص جدد إلى طاولة المفاوضات، عادةً ما يستغرق الأمر بعض الوقت للتعارف فيما بينهم من أجل بناء مستوى معين من الثقة، فاستيراد القمح جهد جماعي 100% قائم على فريق عمل ذي موثوقية، وسيستغرق الأمر بعض الوقت، حتى تتمكن شركة مستقبل مصر التي تتولى مسئولية استيراد القمح، بدلا من هيئة السلع التموينية تحقيق ذلك.

لكن الشركات العالمية اكتسبت الثقة في التعامل مع شركة “مستقبل مصر” مع وجود يسرية يسري محمد، المسئولة السابقة بالهيئة العامة للسلع التموينية للإشراف على المشتريات الدولية من قبل شركة “مستقبل مصر”، وصرح بعض التجار لوسائل الإعلام، بأنها مسئولة محترمة تضفي مستوى من التقارب والاحترافية على أجواء التعامل.

بحسب بيلوزيرتسيف، هناك حاجة إلى توحيد جميع التدفقات المالية لضمان كفاءة عمليات استيراد القمح في شركة “مستقبل مصر” وتحقيق ربحية كافية، وهي عملية تستغرق وقتًا طويلاً، كما أن مصر بحاجة إلى زيادة إنتاجها المحلي من الحبوب بشكل كبير؛ لتقليل وارداتها من القمح، ومواجهة تحديات محدودية الأراضي الزراعية المزروعة، ونقص المياه.

مصر تنفتح على أسواق تصدير أكبر

غيرّت شركة “مستقبل مصر” الأسلوب المعتاد في استيراد القمح، وتعمل على تنويع المقاصد، بدلاً من فرنسا وروسيا وأوكرانيا، ما يعطي أسعارا أكثر تنافسية.

تمت مضاعفة عدد مناشئ استيراد القمح لتبلغ 22 منشأ عام 2024، مقارنة بـ15 منشأ عام 2021، و11 منشأ فقط عام 2014، هذا التوسع في المناشئ يوفر مرونة أكبر لمصر في التعامل مع أي اضطرابات محتملة في سلاسل الإمداد، ويضمن استمرار تدفق القمح بأسعار تنافسية، بحسب بيانات سابقة لوزارة الزراعة المصرية.

واستحوذت روسيا على حصة 74% من إجمالي واردات مصر من القمح في 2024، بكميات تقترب من 10.5 ملايين طن، بما يزيد بنحو 3 ملايين طن عن 2023، تلتها أوكرانيا بحجم واردات بلغ 1.9 مليون طن بنسبة 13% من الإجمالي، وبزيادة 600 ألف طن، وبعدها رومانيا بنحو 900 ألف طن وبنسبة 6%، بينما تم الاعتماد على المناشئ الجديدة بكميات أقل، غير أن بعضها ظهر للمرة الأولى ما يتيح التعاون المستقبلي.

لكن الكميات المستهدف استيرادها في 2025 تتضمن تنوعًا أكبر بالأسواق، فمصر تعتزم شراء نحو 500 ألف طن من القمح خلال شهري ديسمبر ويناير المقبلين، تتوزع الكميات الجديدة بواقع 200 ألف طن من روسيا، و150 ألف طن من بلغاريا، وأكثر من 130 ألف طن من أوكرانيا.

يقول شريف فاروق وزير التموين إن “انخفاض حجم الواردات خلال العام الجاري يعد مؤشرا إيجابيا على تزايد الاعتماد على القمح المحلي”، مشددًا على أن الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الأساسية لدى مصر آمن ومطمئن واحتياطيات السلع الأساسية “تفوق معدلات الفترة نفسها من العام الماضي”.

استراتيجية تقليل الاعتماد على الاستيراد

يقول متى بشاي رئيس لجنة التجارة الداخلية بالشعبة العامة للمستوردين بالاتحاد العام للغرف التجارية، إن الحكومة تعتزم تطبيق استراتيجية تقليل الاعتماد على الاستيراد وتعزيز قدرات الإنتاج المحلي؛ لتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه السلعة الاستراتيجية، والحد من تأثر السوق المحلي بتقلبات الأسواق العالمية.

تتوقع وزارة الزراعة الأمريكية زيادة طفيفة في محصول القمح المحلي ليصل إلى 9.2 ملايين طن متري للسنة التسويقية 2025/ 2026، مقارنةً بـ 9 ملايين طن متري في الموسم السابق، ويعكس هذا التوقع تأثير ارتفاع أسعار المشتريات الحكومية، التي شجعت المزارعين على زيادة زراعة القمح وبيعه مباشرةً للجهات الحكومية.

كان مجلس الوزراء المصري قد أقر زيادة بأسعار توريد محصول القمح لموسم 2025- 2026، وفقًا لدرجات النظافة كالتالي: “2250- 2300 – 2350” جنيها للأردب على التوالي لدرجات النظافة “22.5 – 23 – 23.5″، حيث يزن الأردب 150 كيلو جرامًا.

وأكد بشاي، أن الدولة تستهدف الوصول إلى 5 ملايين طن من القمح المحلي خلال الموسم المقبل، وذلك تنفيذًا لتوجيهات القيادة السياسية بتعزيز الأمن الغذائي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح التمويني المستخدم في إنتاج الخبز المدعم.