يرتبط تقسيم الدوائر الانتخابية بحسبه أمرا أو إجراء جوهريا وهاما في سير العمليّة الانتخابية بمعناها الواسع، بمبدأ مهمّ ألا وهو مبدأ التوازن النسبي في الصّوت الانتخابي، حيث يفترض هذا المبدأ، أن يكون عدد الناخبين الذين تتشكّل منهم دائرة انتخابية معينة مساويا مساواة تقريبية لعدد الناخبين في دائرة انتخابية أخرى، بما ينعكس أثره في النهاية على التوازن في التمثيل داخل المجلس المنتخب بين جميع الدوائر، وهو الأمر الذي يعني أن تقسيم الدوائر الانتخابية، لا بد وأن يتم على أساس عدالة التوزيع وسيادة القانون، ومدى ملاءة القوة التمثيلية للأصوات. كما أنه من الواجب أن ننوه على أن تحقيق ذلك الهدف، إنما يتطلب تفعيل مبدأ العدالة والحياد أثناء تحديد الدوائر الانتخابية، وذلك من خلال التدقيق في الطرق والمعايير المتبعة في عملية تقسيم الدوائر الانتخابية والآثار المترتبة عنها، وكذا بالنسبة إلى الجهة الموكل لها إجراء عملية التقسيم، فضلا على ضرورة إخضاع عملية تقسيم الدوائر الانتخابية نفسها إلى رقابة جهة محايدة، مثلما هو متبع في بعض الأنظمة المقارنة، حتى تضمن عدم انتهاك المبادئ الدستورية المقرّرة في هذا الإطار، كما أنه لا يغيب أن نشير إلى كيفية إقرار قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، ومن الذي قام بصياغته وما القدرة الحقيقية للبرلمان حال إقراره، ومدى تحكمية السلطة التنفيذية في إقرار التشريعات حال إقراره.
وفي مصر قد صدر القانون رقم 174 لسنة 2020 في شأن تقسيم الدوائر الانتخابية، والذي جاء في مادته الثانية على أن: تقسم جمهورية مصر العربية إلى مائة وثلاثة وأربعين دائرة انتخابية تخصص للانتخاب بنظام الانتخاب الفردي، كما تقسم إلى أربع دوائر انتخابية تخصص للانتخاب بنظام القوائم. وقد تم تعديل ذلك القانون بمقتضى أحكام القانون رقم 85 لسنة 2025، والذي أضاف تفصيلاً لهذا القانون المعني بتقسيم الدوائر الانتخابية، فلم يضع حدا رقميا لعدد الدوائر المخصصة لنظام الانتخاب الفردي، كما فصل فيما يخص دوائر القائمة، فجعل منها دائرتين لكل دائرة عدد أربعين مقعداً، ويخصص للدائرتين الأخريين عدد مائة واثنين مقعداً. وهو الأمر الذي يجعل نصيب دوائر القائمة إجمالاً عدد مائة واثنين وثمانين مقعداً، وذلك على النحو التفصيلي الذي جاء به القانون الأخير، سواء من حيث كيفية تمثيل المحافظات، أو كيفية التمثيل بداخل كل قائمة من نسب أو أعداد مخصصة لفئات بعينها.
وهذا القانون هو الذي حكم أمر إجراء الانتخابات البرلمانية الحالية، وهو الأمر الذي أسفر عن نجاح كل هذا العدد، دونما خوض انتخابات تنافسية، وذلك لوجود ما تم تسميته بالقائمة الوطنية الموحدة، والتي تم تشكيلها بطريقة حسمت أغلب مقاعد القائمة للأحزاب الموالية للحكومة ممثلة في أحزاب مستقبل وطن والجبهة الوطنية، وحزب حماة وطن. فهل تم صياغته لحماية مكتسبات الأحزاب الموالية للسلطة، أم لضمان هيمنتها على أغلبية مجلس النواب، الأمر الذي يضمن عدم وجود معارضة ذات أثر فاعل داخل المجلس، وهو الأمر الذي عايشناه خلال المجلسين السابقين، ولمدة عشر سنوات.
وبصورة علمية أكثر، فإن أمر تقسيم الدوائر الانتخابية بحسبه أحد الأمور القانونية، والمسائل ذات المنحى القانوني والسياسي، فإنه لا بد وأن تتم صياغته بطريقة تضمن وجود تمثيل متوازن وعادل لجميع الفئات، وهو الأمر الذي يجب أن يوضع ضمن اعتبارات واضعيه، التركيبة السكانية للدوائر، والموقع الجغرافي، والمحددات الاجتماعية والاقتصادية لكل الدوائر، وهو الأمر الذي يضمن في نهايته تحقيق توازن دقيق ومتوازن لجميع القطاعات السكنية، وهو ما يضمن بشكل فاعل وجود مشاركة سياسية حقيقية لجميع الفئات. ذلك لكون عكس تلك الأسس يخل بعدالة التمثيل السياسي بين الفئات المتنافسة من ناحية، كما أنه لا يؤدي إلى إقبال حقيقي من الناخبين، حيث تكون الغلبة لأصحاب النفوذ والقوة، أو للأحزاب الكبيرة.
فهل فعليا قد تجاوب القانون الحالي في تقسيمه للدوائر الانتخابية، بما يتناسب مع احتياجات الناخب المصري، أو بما يتناسب مع متطلبات المجتمع المصري، ويتناسب ولو بنسبة ما مع المشاركة السياسية بحسبها الأصل الدستوري الضامن لشفافية الحركة السياسية؟ أم أن هذا القانون بحسب صنًاعه قد صيغ على الطريقة التي تتناسب مع تطلعات الأحزاب الغالبة والمستندة إلى السلطة الحاكمة، والساعية في ركابها، بما يضمن لها الأغلبية النيابية، وهو الأمر الذي يروق لتلك الأحزاب وللحكومة معا، ولكنه بشكل رئيسي يضعف البينة السياسية المصرية بشكل كلي، بل ويجرف بالحراك السياسي، بحسبه المعول عليه، في تفعيل الحق في المشاركة السياسية ومخاطبة السلطات، إلى خارج دوائر التمثيل أو حتى التنافس.
وإزاء ما يحدث في هذه الانتخابات البرلمانية، وما أسفرت عنه المرحلة الأولى، ما يؤكد على هشاشة البنية التشريعية، وكانت المحصلة في مقامها الأساسي تدور في فلك عدم الإقبال الجماهيري على الذهاب إلى المقار الانتخابية؛ عزوفاً منهم عن المشاركة، سواء كان ذلك تعبيراً عن غضب جماهيري، أو عدم رضا عن هذه العملية برمتها، بما يعنيه من عدم الرضا وعدم قبول المنظومة التشريعية المنظمة لها، وأهمها في هذا المقام، هو قانون تقسيم الدوائر الانتخابية بصورته الحالية، والتي تتضافر مع قانون مجلس النواب، في تفعيله لنظام القائمة المغلقة، وهو ما أسفر عن حسم مقاعدها المخصصة، دونما خوض انتخابات لعدم وجود قائمة منافسة. حتى في النظام الفردي لما تبقى من مقاعد فقد شاب المرحلة الأولى من هذه الانتخابات، ما أدى إلى بطلان 49 دائرة انتخابية من أصل 70 دائرة، بما يؤكد على عدم وجود صدى لمعنى الانتخابات، وأن غالبها لم يكن متماشيا مع الأصول القانونية، حتى في ظل ضعف وجود المعارضة، أو المستقلين بحسب التعبيرات المتداولة، وما يؤكد ذلك المنحى هو التغيير العكسي في نتائج الدوائر التي أعيدت فيها الانتخابات، حيث تجد مرشحين، كانوا ضمن الفائزين، أو الضامنين للإعادة بنسب تصويتية عالية نسبياً، لم يعد لهم وجود في جولات الإعادة وبنسب تصويتية تختلف، أو تكاد تتناقض مع النسب المنسوبة لهم خلال المرحلة الأولى.
وأرى أنه يجب على المعنيين بالحياة السياسية طرح رؤى مغايرة للنظام القانوني الراسم والحاكم للنظام الانتخابي، وفي أولها قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، بما يتماشى مع مبادئ العدالة والمساواة وسيادة القانون، وهو في نهايته ما يدفع إلى تطوير الحراك السياسي وتعميق مفهوم المشاركة السياسية والديمقراطية، وهو ما يصب في خانة وجود مجلس نواب، يعبر بنسبة عالية عن احتياجات المجتمع المصري.






