بعد سقوط مدينة بابنوسة غرب كردفان بيد قوات الدعم السريع، بدأت المليشيا بالتعاون مع حليفتها الحركة الشعبية– الحلو، تنفيذ استراتيجية انتقالية نحو جنوب كردفان، وهي استراتيجية لم تكن مفاجئة، بل امتدادا لخطة بدأت قبل نحو عام، تقوم على محاصرة القوات النظامية وقطع خطوط إمدادها وعزل فرقها ومقارها في مناطق الأُبيض والدلنج وكادوقلي وأبو جبيهة، وذلك بهدف إسقاط الحاميات العسكرية وإنهاء الوجود النظامي في هذه الجغرافيا الحيوية. سقوط بابنوسة كان سريعًا نسبيًا؛ نظرًا لموقعها الجغرافي في قلب نفوذ الدعم السريع وإحاطتها بعدد من المدن الداعمة في المجلد وأبو زبد والفولة وعديلة في جنوب دارفور، إذ تعرضت المدينة إلى قصف متواصل وحصار طويل، أدى إلى استنزاف القوات النظامية فيها، ولم يكن بالإمكان إيصال الإمدادات إلا عبر الإسقاط الجوي الذي لم يكن قادرًا على مواجهة النفوذ القبلي والسيطرة الميدانية للدعم السريع.

في الوقت الحالي، يواجه الجيش السوداني تحديات كبيرة في تحصين مقارّه ونفوذه في جنوب كردفان وشمالها، إذ تعتمد قوات الدعم السريع على عنصر المفاجأة والهجمات المباغتة، وهو ما ظهر بوضوح في أكتوبر الماضي، عندما حولت تركيز الجيش إلى تحصين الأُبيض عاصمة شمال كردفان، لتنقض قوات الدعم السريع على بابنوسة، مؤدية إلى سقوط المدينة رغم استعداد الجيش. السيناريوهات الحالية تشير، إلى أن المدن الرئيسية في جنوب كردفان وتحديدا الدلنج وكادوقلي وأبو جبيهة، إضافة إلى مدينة الأبيض في شمال كردفان، تشكل محاور احتمالية للهجمات المباغتة، خاصة بعد متابعة تحركات الدعم السريع خلال شهري نوفمبر وديسمبر التي شملت هجمات على الرهد وأم روابة في شمال كردفان، وهو ما أظهر قدرة قوات الدعم السريع على التحرك بالقرب من هذه المدن؛ لإتاحة الفرصة لمباغتة الجيش في مراكز ثقلته، وهو ما يرفع من احتمالية سيناريو أشد خطورة من سقوط الفاشر أو إعادة التغلغل في وسط السودان، كما حدث في بداية الحرب، إذ إن الهدف الاستراتيجي للدعم السريع ليس بالضرورة القضاء على الجيش بالكامل، وإنما شغله وإحداث انهيارات موضعية في المدن الحيوية.

في جنوب كردفان، استمرت الهجمات على مناطق كالوقي وبرنو في غرب كادوقلي، إضافة إلى السيطرة على منطقة كيقا الواقعة بين الدلنج وكادوقلي؛ بهدف عزل الفرقتين العسكريتين، فضلاً عن تحركات الدعم السريع في مناطق لتجملا، في الوقت الذي نجح فيه الجيش في الحفاظ على وجوده في مناطق أخرى في الدامرة وتبسة والشاواية والجبيلات والسنادرة وجوليا والقردود، الأمر الذي أتاح السيطرة على محيط مدينة العباسية. هذه التحركات العسكرية في الجغرافيا المعقدة، أدت إلى انتقال جزئي للصراع إلى ولاية النيل الأزرق، حيث نفذت قوات الدعم السريع هجمات بطائرات مسيرة على محطة الروصيرص الكهربائية، ما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن مدينة الدمازين بالكامل، وهو ما يعكس قدرة الدعم السريع على التمدد إلى خارج حدود كردفان، واستهداف البنية التحتية الحيوية بغرضين هما التشتيت وتهجير المواطنين و بدء إفراغ المدينة.

تترافق هذه التحركات مع خطوط إمداد استراتيجية، تمر عبر إثيوبيا، حيث أشارت تقارير موثوقة إلى وجود معسكرات للدعم السريع في منطقتي منقي والأحمر في محلية أوندلو ضمن إقليم بني شنقول- قمز شمال غرب إثيوبيا، ويصل الإمداد من خلالها إلى الأراضي السودانية عبر مدينة أسوسا، وتستخدم هذه المعسكرات لتجميع وتدريب عناصر الدعم السريع، إضافة إلى مرتزقة أجانب من جنوب السودان ومن أمريكا اللاتينية، خصوصًا كولومبيين، كما شملت الشبكات تجنيد مقاتلين صغار السن، وهو ما دفع الولايات المتحدة لفرض عقوبات على أربعة أفراد وأربعة كيانات مرتبطة بهذه الشبكات، شاركوا في سقوط مدينة الفاشر، إلا أن هذه العقوبات بقيت شكلية، لأنها استهدفت واجهات دون معالجة الجهات الفعلية المسئولة عن تجنيد وتدريب المرتزقة وإدارتهم في مناطق النزاع.

استقرار الدولة السودانية

يمثل هذا الانتقال في خطوط الصراع وفتح مسارات جديدة على الحدود الجنوبية للسودان مع إثيوبيا وجنوب السودان، إضافة إلى السيطرة على منطقة هجليج النفطية عامل خطر إضافي، يهدد استقرار الدولة السودانية واقتصادها، ويعمق المخاطر على المدنيين الذين يعانون من التهجير القسري والتجويع واستهداف الأسواق والمدارس والمرافق الصحية، مع انهيار الخدمات الأساسية بما في ذلك الكهرباء والمياه، ما يؤدي إلى تدهور الوضع الإنساني بشكل متسارع. وعلى الرغم من هذه الضغوط والتحركات، فإن القدرة العسكرية للدعم السريع في المبادرة والمباغتة، تفرض على الجيش السوداني إعادة النظر في استراتيجيات الدفاع والتحصين مع ضرورة تطوير خطط إسناد فعّالة للمدن والمناطق الحيوية؛ لمنع إعادة تكرار سيناريو الانهيار الجزئي أو الكامل، كما حدث في بدايات الحرب.