الديمقراطية الطبيعية صعبة علينا، وغريبة علينا، ديمقراطية قديمة، اهتدى إليها العقل الإغريقي في أثينا قبل 2500 عام، وأنتجت لأول مرة في التاريخ البشري شعار “حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب”، كانت ديمقراطية ناشئة مليئة بالعيوب، ثم تذكرتها أوروبا مع عصور النهضة في القرن الخامس عشر، ثم الإصلاح في القرن السادس عشر، ثم النهضة العلمية في القرن السابع عشر، ثم التنوير في القرن الثامن عشر، ثم القومية في القرن التاسع عشر، ثم في نضج مؤسسات الديمقراطية في القرن العشرين، مسيرة طويلة ترافقت فيها الديمقراطية مع النهضة، بما تعنيه من استعادة التفكير المتحرر من القوالب المصبوبة في مختبرات السلطة والكنيسة، وبما تعنيه من حريات التفكير العلمي المستقل التي أسست الحريات الأكاديمية، ومن ثم جعلت الجامعات في صدارة المجتمعات الأوروبية، ثم مع التنوير بما يعنيه من تمكين العقل الفردي والجمعي من ملكات التفكير النافع دون التزام بالتقليد أو ارتهان للجمود، ثم مع القومية التي تحللت بها الشعوب من إمبراطوريات العصور الوسيطة القائمة على الدين، ودخلت بها عصر الدولة الوطنية كدولة لكل مواطنيها على قدم المساواة والعدل بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم، ثم مع القرن العشرين الذن تقدمت فيه كافة سبل التواصل والاتصال والانتقال المادي والأدبي، بما جعل من الكوكب الأرضي قريةً واحدةً صغيرة لأول مرة في التاريخ.

رغم كل ما سبق، لا تزال الديمقراطية الطبيعية التي بدأت عند اليونان، وتطورت حتى بلغت ذروتها عند الأوروبيين والأمريكان، هذه الديمقراطية لا تزال محدودة الانتشار خارج أوروبا وأمريكا وتوابعهما في كندا وأستراليا، لم تستقر تجارب الديمقراطية الغربية في أمريكا اللاتينية رغم ثلاثة قرون من المحاولات الدؤوبة، ولم تجد لها موضع قدم في الصين، حيث أقل قليلاً من خُمس سكان العالم، وتعتز الصين بثقافتها ونظم حكمها المنبثقة من تاريخها وعقائدها وتقاليدها، مع اقتباس كل ما هو عملي وتطبيقي من منجزات الحضارة الغربية، والهند وهي تتفوق قليلاً على الصين من حيث عدد سكان، حافظت وتحافظ على الإطار الديمقراطي الذي ورثته عن المستعمر البريطاني، ممثلاً في النظام البرلماني،  الذي كانت مصر أيضاً مثلها مثل الهند، قد ورثته عن المستعمر البريطاني، ومثلهما كان السودان قد ورث النموذج البرلماني عن بريطانيا.

الديمقراطية القديمة، كانت وما زالت، تواجه في كل حقبة، الكثير من العقبات، ويعتريها الكثير من وجوه النقص، وقد شهدت أوروبا الديمقراطية مولد النازية والفاشية في قلبها، وشهدت أمريكا المكارثية التي هي أقرب إلى محاكم تفتيش، واليمين المتطرف يهدد الديمقراطية في أكثر من بلد أوروبي، كما يسيطر رأس المال على الديمقراطية الأمريكية التي تؤول إلى أوليجاركية، تتحكم فيها الأقلية في توجيه مصائر الأغلبية، لكن رغم كل ذلك فإن الديمقراطية القديمة في أوروبا وأمريكا ما زالت ضامنة وحافظةً لأهم غايات الديمقراطية وهي: 

1- التداول السلمي على السلطة في انتخابات لا تخلو من تأثير المال والإعلام والمصالح الخفية، لكنه تأثير لا ينال من نزاهة الانتخابات وتمثيلها للإرادة العامة واحترام حق التصويت دون تدخل من جهات الإدارة، التداول السلمي على السلطة يحفظ استمرارية الدولة، فلا تضطرب مع نهاية كل نظام حكم، كما يضمن استمرارية اهتمام الناس بالسياسة، ما دامت تمثلهم وتحترم إرادتهم.

2- البنية التحتية للمجتمع الحديث وهي: استقلال القضاء، باعتباره الحامي للحقوق والحريات سواء من عدوان الأفراد على الأفراد أو من تغول السلطات على الأفراد، ثم حرية الصحافة والإعلام وكافة حريات التعبير بكافة أشكاله ومضامينه، بما يضمن حيوية المجال العام، كما يكفل نضج الرأي العام، ثم احترام استقلال الجامعات والبحث العلمي والحريات الأكاديمية.

3- الأهم من كل ما سبق، والضامن لكل ما سبق، هو أن الديمقراطية القديمة في أوروبا وأمريكا تفتح كافة الأبواب؛ لنقد ذاتها، فلا عصمة لها، ولا قداسة تحيط بها، فلها طابع عملي يسمح بالنظر إليها، بما تضيفه من نفع عام وتحققه من خير عام، فهي ليست عقيدة نظرية مقدسة مرغوبة لذاتها، هي فكرة أرضية وضعية بشرية دنيوية، تستمد قيمتها من جدواها العلمية ومن نفعها الواقعي، وما دامت بقيت أكثر مناهج الحكم نفعاً وخيراً، فهي جديرة بنقدها وبلورة عيوبها، كلما استجدت لها عيوب، ثم السعي في علاجها، ثم تظهر عيوب جديدة وهكذا، الديمقراطية هنا هي المرادف الموضوعي لحيوية العقل الغربي في استنارته أو حتى في عنصريته، تتسع فرصها كلما استضاءت بالجوانب المشرقة في العقل الغربي، وتضيق فرصها كلما استخرج الضمير الغربي الكامن فيه من عنف قديم واستعلاء كامن وعنصرية، لا تكاد تخبو حتى تظهر من جديد. 

عندنا في مصر، لنا تاريخ مع الديمقراطية، سواء قبل أن ننفتح على أوروبا مع الثورة الفرنسية أو قبلها، ففي النصف الأخير من القرن الثامن عشر ضعفت السلطة السيادية الأعلى في إسطنبول، وانعكس ذلك على سلطة الوالي العثماني في القلعة، ونتج عن ذاك الضعف حالة من ترهل السلطة المركزية استفاد منها طرفان: أمراء المماليك الذين استقلوا بالسلطة الفعلية في البلاد، ثم الطبقة الحضرية المصرية من قادة الأزهر الشريف وكبار التجار وقادة الصناع وأهل الحرف، هذه الطبقة الحضرية في 1209 هجرية- 1795 ميلادية بقيادة شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي ومعه كبار مشايخ الصوفية والتجار وأرباب الحرف، قادوا عصياناً مدنياً حقيقياً ضد حكام مصر الفعليين آنذاك، وهما مراد بك وإبراهيم بك، واضطر الحكام للتفاوض، واستجابوا للمطالب التي كانت: الحكم بالعدل، إيقاف المظالم، غل يد الفساد، الضرب على يد المفسدين، ضرورة توقف الحكام ومن حولهم عن نهب المال العام وسوء إدارته. وكانت تلك التجربة هي مصدر الإلهام الذي زود تلك الطبقة الحضرية الناشئة بالقدرة على الحركة سواء في مواجهة الغزو الفرنسي عند خاتمة القرن الثامن عشر أو في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، حيث تبلورت الفاعلية السياسية لتلكم الطبقة في عزل الوالي العثماني المعين من الآستانة واختيار والي جديد من اختيار الشعب 1805، ثم أخفقت هذه الطبقة الحضرية الصاعدة في الحفاظ على تماسكها كقوة فعل سياسي منظم، فأمكن ذلك الوالي الجديد- وهو ذو مكر ودهاء- من التفريق بين قياداتها وتقريب البعض واستبعاد البعض وضرب كل فريق بالآخر، حتى نجح في القضاء عليها تماماً، ولم تظهر طبعة جديدة من مثل هذه الطبقة الحضرية، إلا بعد ثلاثة أرباع قرن، بالتحديد مع عصر الخديوي إسماعيل، وهي طبقة جديدة مختلفة تماماً عن الطبقة القديمة، الطبقة الحضرية الجديدة كانت من ثمرات التحديث الذي بدأه محمد علي باشا، حين انفتح على أوروبا في التعليم والعسكرية والتصنيع والتجارة، بل وربط الزراعة المصرية باحتياجات الثورة الصناعية في أوروبا، الطبقة الحضرية التي ذهبت تنشد الديمقراطية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كانت طبقة مطعمة بمؤثرات أوروبية ظاهرة، لم تكن مثل الطبقة السابقة عليها بمائة عام تطلب العدل الذي فرضه الشرع الحنيف، بل كانت تطلب ما هو أحدث: تطلب دستوراً على النمط الأوروبي، يضع القيود على سلطة الحكام، ويرد الاعتبار للشعوب، ويجعل الأمة مصدر السيادة، بما أنها مصدر السلطة.

……………………………..

عند مطلع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كانت مصر واحدة من المناطق القليلة في العالم- خارج أوروبا وأمريكا- تبدو جاهزة للوعد الديمقراطي العظيم.

السؤال: لماذا لم يتحقق الوعد رغم مرور مائة وخمسين عاماً؟

الجواب: السبب هو الديمقراطية الجديدة. 

السؤال: ما هي الديمقراطية الجديدة؟

الجواب: هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.