يمرّ إقليم الساحل الإفريقي منذ مطلع عام 2025 بمنعطف أمني بالغ الخطورة، في ظل تصاعد ملحوظ في وتيرة الهجمات الإرهابية، بالتزامن مع متغيرات جيو سياسية مؤثرة، أبرزها انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر من الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وفشل تحالف هذه الدول في كبح أنشطة الجماعات الإرهابية في الإقليم.
ومع هذا الإخفاق، تمدد نشاط تلك الجماعات إلى دول الجوار، ولا سيما توجو وبنين، في سياق عابر للحدود يستغل هشاشة الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية، فضلًا عن انحسار الدعم الإقليمي والدولي لمواجهة الإرهاب، وانسحاب فرنسا من دول غرب إفريقيا، إلى جانب اتهامات بتسهيل عمل بعض هذه التنظيمات.
وفي ظل هذا المشهد المأزوم، تجد الأنظمة العسكرية الحاكمة في مالي وبوركينا فاسو نفسها مدفوعة نحو مسار التفاوض مع الجماعات الجهادية، بوصفه أحد الخيارات لخفض التصعيد.
غير أن هذا المسار يتجاوز كونه إجراءً أمنيا وعملية احتواء، ليمنح غطاء من الشرعية والاعتراف، ومشاركة هذه الجماعات في هياكل الحكم، في إطار تفاهمات أمنية معقدة ورعاية دولية محتملة، وربما بوساطات إقليمية، بما في ذلك أطراف خليجية، وهو ما يذكر بالنموذج السوري الماثل حاليا في الحكم الجديد في دمشق.
ويستعرض هذا التقرير ملامح التمدد الميداني للتنظيمات الإرهابية في إقليم الساحل، وسيطرتها على موارد اقتصادية حيوية، كما يحلل فرص وتحديات خيار التفاوض داخليا، وعلى مستوى إقليمي ودولي، يوظف حالة الفوضى الأمنية لفرض أنماط جديدة من التبعية السياسية والاقتصادية.
الإرهاب العابر للحدود: تصعيد ميداني وتحولات سياسية
شهد إقليم الساحل منذ مطلع العام الجاري تصاعدًا لافتًا في الهجمات الإرهابية على القواعد العسكرية والمدنيين، في ظل عجز الترتيبات الأمنية القائمة عن الحد من هذا التصعيد.
ورغم تشكيل “تحالف دول الساحل” كقوة دفاع مشتركة، تضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر لمواجهة الإرهاب، فإن الهجمات واصلت وتيرتها المرتفعة، بالتزامن مع تعاظم تمدد جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” المرتبطة بتنظيم القاعدة، إلى جانب تنظيم “الدولة الإسلامية في إقليم الساحل” وجماعات متفرعة عنهما، في مناطق تحولت إلى بؤر لانطلاق هجمات بالغة الخطورة.

ولم يستمر هذا التصعيد محصورًا داخل دول الساحل، بل امتد إلى دول الجوار، ففي توجو، سُجلت عشر هجمات إرهابية خلال عام 2024، أسفرت إحداها عن مقتل 52 شخصًا، بحسب تقارير أممية، بينما ارتفعت الحصيلة خلال الفترة من يناير إلى يوليو 2025 إلى 54 مدنيًا، وثمانية جنود في 15 هجومًا، وفق تصريحات رسمية.
كما نفذت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” هجومًا على تجمعات عسكرية في بنين في يناير 2025، أسفر عن مقتل 54 جنديًا في المناطق الحدودية مع بوركينا فاسو والنيجر.
وهكذا بات الإرهاب في إقليم الساحل ظاهرة عابرة للحدود، ما فرض تحديات مباشرة على ديناميات العلاقات الإقليمية في غرب إفريقيا.
ويأتي هذا المشهد في سياق اضطرابات سياسية متصاعدة تشهدها المنطقة، كان آخرها الانقلاب في غينيا بيساو، ومحاولة الانقلاب في بنين، فضلًا عن تعقيدات أمنية وسياسية واقتصادية في نيجيريا، من شأنها، في حال غياب مقاربات فعالة لدى نظام الرئيس بولا أحمد تينوبو، أن تفضي إلى موجات من الفوضى.
وفي ظل هذه الأزمة المستحكمة، وفي إطار نظام دولي، يميل إلى استغلال تناقضات السياسة الإفريقية وتعظيم وتعميق شبكات التبعية، مع التلويح الدائم بإطلاق عنان الفوضى، جنحت حكومات دول الساحل إلى تبني مقاربة الحوار مع الجماعات الجهادية بوصفها أحد مسارات خفض المواجهة.
ويتزامن هذا التوجه مع الترويج، لنجاح ما يُعرف بـ “النموذج السوري” برعاية أمريكية وغربية لافتة، مع ما ينطوي عليه من تناقضات بنيوية، وديناميات تقوم على التفكيك والإخضاع السياسي والاقتصادي، بديلًا عن خيار المواجهة العسكرية المباشرة.
تقدم جماعة “نصرة الإسلام”: ما الجديد؟
بعد شهور من الكر والفر بين السلطات العسكرية التي تولت مقاليد الحكم في دول الساحل (بوركينا فاسو ومالي والنيجر) والجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» التي تُعد الأكثر فاعلية خلال السنوات الأخيرة، صدرت تقارير في نوفمبر 2025، أثارت مخاوف جدية بشأن احتمالات نجاح الجماعة في بسط سيطرتها على بوركينا فاسو بشكل كامل، أو تكرار نموذج “إفريقي” للسيناريو السوري، في ظل غياب ضمانات إقليمية أو دولية كفيلة؛ لمنع هذا المسار أو الحد من تداعياته الخطيرة.
وتذهب بعض التقديرات، إلى أن هذا السيناريو قد يحظى بتعزيز غير مباشر، بوصفه خطوة عقابية في سياق تداعيات خروج دول الساحل عن المظلة الفرنسية والغربية، دون إغفال الاتهامات التي تواجه فرنسا بدعم نشاط شبكات إرهابية في الإقليم عقب سلسلة الانقلابات العسكرية خلال الأعوام الأخيرة.
وأشارت الوقائع على الأرض لقرب تحقق السيناريو السوري في بوركينا فاسو، ومن هذه المؤشرات ما رصده محللون من سيطرة جماعة النصرة و”الدولة الإسلامية في إقليم الساحل” على نحو 60% من مساحة بوركينا فاسو بالفعل، مع غياب الدعم الفرنسي وعدم نجاح مجموعة فاجنر الروسية في سد الفراغ منذ العام 2022. كما استطاعت “جماعة النصرة” في الأسابيع الأخيرة من الضغط على مالي المجاورة بمنع إمدادات الوقود عن مناطق منها.
الجديد في المشهد، أن تمدد أنشطة “النصرة” فرض ضغطًا مباشرًا وغير مسبوق على نظامي الحكم في بوركينا فاسو ومالي، وهما دولتا جوار، يعانيان الخطر في وقت واحد، ومع تمدد الجماعة، فأنها تسد الفجوات الجغرافية، وتجعل البلدين ساحة نشاط متصل، ما يفرض ضغوطًا لا يستهان بها على نظام عاصمي غويتا في باماكو.
وتوقع تقرير تحليلي عدة سيناريوات منها: استعادة القوات الحكومية في مالي زمام المبادرة تجاه “النصرة” والقيام بهجمات مضادة بالتعاون مع “الفيلق الروسي”، وتفكك جماعة النصرة بفضل طبيعتها ووجود جماعات فرعية، تتمتع باستقلال ذاتي داخلها، وسيناريو ثاني يرجح بقاء الوضع الراهن لأيام تالية.
اما السيناريو الأخير، فهو دخول باماكو (وكذلك واجادوجو ونيامي) في مفاوضات مباشرة مع جماعة النصرة، وهو ما يبدو مطروحًا راهنًا بقوة كمخرج “آمن” للحكومة المالية من تعقيد المشهد الإقليمي والدولي على نحو غير مسبوق واستبدال السياسات الرسمية المعهودة بين الدول بسياسات أمنية، لا تضع بأي حال من الأحوال اعتبارات مسئولة لتداعيات الفوضى العارمة، التي تهدف إليها في نهاية الأمر.
التفاوض مع الجماعات الإرهابية: الفرص والتهديدات
تمثل عودة حكومة باماكو لمقاربة التفاوض مع الجماعات الإرهابية، وأبرزها “جماعة النصرة” بأذرعها المختلفة في الإقليم، مقاربة برجماتية، وإعادة محاولات للرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا الذي دخل في مفاوضات مع الجماعات الإرهابية خلال 2020 وقبل عزله.

لكن الفارق في الحالة الراهنة هو تقوية النصرة لموقفها، بشكل لا يمكن مقارنته بوضعها سابقا، مع ملاحظة وجود معارضة للتنظيم في المدن المالية الرئيسة (لا سيما بعد تجربة سقوط مدينة تمبكوتو التاريخية في يد الجماعات الإرهابية والتخريب الذي لحق بها قبل سنوات).
وما يعزز هذا السيناريو رغبة النصرة بالفعل في الدخول في مفاوضات (على الأقل لتحصين مكاسبها على الأرض وانتزاع مشروعية سياسية، وحجز دور في صياغة مستقبل البلاد، ومع وجود قنوات للتواصل بين نظام غويتا وجماعة النصرة، فإن عقبة المقبولية الشعبية وسط مناطق تركز السكان في مالي (في الجنوب) تظل قائمة، وتمثل ورقة هامة في يد الحكومة حال الانخراط في المفاوضات.
وتمثل تلك الرغبة من جانب الجماعات الإرهابية في تطبيع وجودها أو شرعنته، بغض النظر عن خطابها السياسي والاجتماعي وتناقضاتها، قوة دافعة لبدء حوار أو تفاوض مع السلطات.
كما تمثل استعدادات أطراف خارجية (غربية وإقليمية وربما شرق أوسطية)؛ لتيسير عملية التفاوض (لأغراض متباينة)، قوة دافعة أخرى لفرص نجاح إطلاق التفاوض، الذي سيمثل بداية هزيمة “سياسية” كبيرة للنظم العسكرية في الإقليم، أو علامة على موجة مضادة لن تقف عند حدود هذا التفاوض ونتائجه.
عوائق التفاوض: قوى الرفض المجتمعي وعدوانية التنظيمات
أما أهم تهديدات “الحوار” فتتمثل في معارضة مجتمعية، منها الدوائر الدينية (لا سيما الصوفية) في مالي، والتي تعارض الخطاب السلفي الجهادي الذي تتبناه “النصرة”، وأيضا قطاعات من القادة التقليديين والمحليين والفاعلين في المجتمع المدني التي تنظر جميعًا للنصرة كتهديد وجودي وحقيقي لبنية المجتمع والدولة، وهو ما عبرت عنه شخصيات مثل الشريف عثمان مدني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في مالي.
ومن جهة “النصرة”، يُلحظ استمرار نهجها العقابي لحكومة مالي وشعبها بشن هجمات متكررة ومستمرة (في منتصف ديسمبر أيضًا) على إمدادات الوقود في الخط الرابط بين كوت ديفوار ومالي، وهو ممر بوجوني Bougouni Corridor (يمثل واحدًا من الممرات الاقتصادية الحيوية الرئيسة).
ويمثل هذا تهديدًا جديًا لحكومة مالي وقرارها الانخراط في محادثات (سواء غير مباشرة أم مباشرة) مع جماعة النصرة، والتي أصدرت (على نحو يتسق مع نهجها العدواني العنيف) تحذيرات بتشديد قبضتها على ممر بوجوني الذي يمر عبره نحو 57% من واردات مالي من البترول من كوت ديفوار. وجاء تجدد الهجمات مع انهيار هدنة قصيرة بين النصرة، وباماكو كانت تقضي بالسماح باستئناف مرور ناقلات النفط إلى باماكو.
وهكذا يمكن القول، أن فرص وتهديدات التفاوض بين حكومة باماكو وجماعة النصرة، وفي ظل فشل أولي لاستمرار هدنة قصيرة، تظل محكومة في المقام الأول بتأثير التدخل الخارجي: مثل قيام حكومة كوت ديفوار بمهامها في حماية ممر بوجوني، وقدرة باماكو على استعادة مرونة العلاقات مع “إيكواس”، وبذل دول شرق أوسطية وغربية جهودًا وساطية (لا يتوقع تحيزها في واقع الأمر لنظام غويتا، إن لم تتخللها خطوات عقابية لهذا النظام)؛ لوقف تصعيد النصرة في ملف وقف إمدادات الوقود مع إطلاق مسار تفاوضي محدد الأسس والغايات بشكل واضح.
الساحل الإفريقي والسيناريو السوري: ملهاة وانتهازية “النظام الدولي”
لا يمكن القول، بأن ضوابط عمل النظام الدولي التقليدية، مثل توازن مصالح الدول الكبرى: الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وغيرها، سارية في إفريقيا وإقليم الساحل على وجه الخصوص.
ورغم الحماسة الأولية التي أبدتها روسيا عمليًا، والصين بتحفظ واضح في مواقفها، فإن دول الساحل وجدت نفسها وجهًا لوجه في تحمل تبعات محاولات استقلال قرارها السياسي (حسب خطاب السلطات العسكرية المستجدة) على الصعيدين الإقليمي والدولي.
بينما لم تستطع مواقف الصين وروسيا، الانتهازية في واقع الأمر، من إسناد هذه الدول بغطاء أمني وسياسي كاف؛ لمواجهة تفاقم تمدد الأنشطة الإرهابية منذ العام 2022-2023.
ومن ثم، تواجه مالي وبوركينا فاسو (كأبرز مثالين للحالة الراهنة) سيناريو بالغ الخطوة بتكرار التجربة السورية، ودعم أطراف دولية وشرق أوسطية (خليجية ربما) لصعود جماعات جهادية قدمت بالفعل أوراق اعتمادها لدى “النظام الدولي” لصعود سدة الحكم في الدولتين، وإعادة إنتاج التبعية السياسية والاقتصادية لهذا النظام (بقيادة واشنطن وسياسة صينية وروسية تمررها مقابل مكاسب في مناطق الاهتمام المباشر لهما).
كما يبدو توجه باماكو وواجادوجو للحوار مع الجماعات الجهادية مسارًا إجباريًا، وإن كان غير مأمون في واقع الأمر. وحتى في حال انطلاق هذا المسار، فإن الجماعات الجهادية ستواصل ضغوطها على الأرض، واستكمال تكتيكات تفكيك النظام القائم (في مالي وبوركينا فاسو) بشكل لا رجعة فيه.
ومن ثم، يبدو السيناريو السوري، الذي يجسد ملهاة النظام الدولي وانتهازيته في واقع الأمر، أقرب مما يتصور في إقليم الساحل، لا سيما أنه يحظى بمباركة أمريكية مكشوفة، ويتسق تمامًا مع سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمبادلة “الاستقرار” والتسويات السياسية والعلاقات الجيدة (كما في حالات شرقي الكونغو والسودان وحتى في جنوب إفريقيا) بتنازلات سيادية واقتصادية غير مسبوقة (من جهة مأسستها في ظل ما تعرف بدولة ما بعد الاستقلال)، وفرض تبعية مطلقة ومكشوفة، وهو الأمر الذي يبدو أن دول الساحل تواجهه في اللحظة الحالية بمفردها، ودون غطاء إقليمي أو دولي؛ للتخفيف من وطأة حدة هذه اللحظة.






