في ختام أي عمل تنظيمي وإداري يُتصور أن تقوم الجهة المنظمة أو التي تقوم بإدارة الأمر الذي تقوم به، برفع تقرير مفصل عن تقييمها للوضع الذي قامت بتنظيمه أو إدارته.
الهيئة الوطنية للانتخابات ستقوم بناء على ذلك برفع تقرير مفصل في ختام عملها للجهات المعنية، والتي يُتصور أنها ستكون رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب ومجلس القضاء الأعلى. هنا يبقى السؤال، ما الذي يتوجب على الهيئة أن تقوله في هذا التقرير؟ والذي يتوقع أن يرتبط باختصاصاتها التي خولها لها قانونها، وكذلك القوانين ذات الصلة كقانون مجلس النواب والدوائر الانتخابية ومباشرة الحقوق السياسية والأحزاب السياسية.
عدم التدخل في عمل الهيئة
واحد من أبرز الأمور التي تعاني الهيئة منها، وساهمت إلى حد كبير في عديد الأخطاء التي وقعت فيها الهيئة هي، تدخل الآخرين في عملها. استقلال الهيئة هو أهم ما يساهم في نجاحها. ترك الهيئة لتتولى عملها بحرية، هو ما يجعل الناس تثق في الانتخابات، ومن ثم تزداد المشاركة. كثيرون يرون أن إطالة العملية الانتخابية لمجلس النواب، والكبوات التي حدثت لم تكن إلا حصاد للتدخل في عمل الهيئة، وهو ما استشعره رئيس الدولة واضطره للتدخل لإنقاذ الأوضاع.
أقصر الطرق لمحاربة المال الانتخابي
واحد من أبرز الملاحظات التي يجب تناولها في هذا التقرير هو استشراء المال الفاسد في الانتخابات، ومدى صلته الطردية بالنظام الانتخابي الأغلبي (50%+ 1)، وهو النظام الذي جرت على ضوئه انتخابات مجلس النواب. صحيح أن مصر منذ العام 1866 اعتادت على هذا النظام بأسلوبه الفردي، إلا أن تنظيم انتخابات بها بضعة آلاف من الناخبين وقتئذ يختلف بالتأكيد عن وجود 70مليون ناخب اليوم.
الانتخابات بالنظام الأغلبي، سواء من خلال أسلوب القائمة المطلقة المرفوضة دستوريا 3 مرات، مرة بخصوص مجلس الشورى في عقد التسعينيات القرن الماضي، ومرتين في العقد التالي بخصوص انتخابات المحليات، أو من خلال الأسلوب الفردي التقليدي، (هذه الانتخابات بهذا النظام) غير ملائمة للمجتمع المصري اليوم، لكون المال الانتخابي هو سيد الموقف في الدعاية الانتخابية، ويوم الاقتراع في هذا النظام، وقد بينت انتخابات مجلس النواب 2025 كافة تلك الأمور بشكل صارخ، ولم تفلح جهود الدولة الأمنية في محاربة تلك الظاهرة، كما لم تفلح الهيئة الوطنية للانتخابات بقدراتها في تلك المواجهة. فالإنفاق من الحسابات البنكية التي تضع الهيئة يدها عليها محدود للغاية، والمال المنفق بسخاء بحجة التبرع من الغير، أو من قبل المرشح مباشرة من خلال الملصقات والولائم والمؤتمرات الكبرى، كلها يستحيل عمليا الرقابة عليه، مهما كانت ما تملكه الهيئة من أجهزة وقدرات ورجال. بل وصل الأمر إلى حد أن بعض المرشحين في دائرة المطرية قد قام بإغداق الناخبين واستغلال عوزهم للسلع التموينية عبر أسلوب Q R كود. لا شك أن الخروج من هذا النظام الأغلبي البغيض يخرج البلاد من أمور أخرى كثيرة مثل، العصبيات والعنف الانتخابي، ناهيك عن أن هذا النظام يتعامل النائب المنتخب على أساسه داخل البرلمان كممثل للمحليات وليس ممثلا للأمة، أي أنه يتحدث عن قضايا الدائرة وليس القضايا الوطنية (خذ مثلا طلب نائب برلماني الأسبوع الماضي من وزيرة التنمية المحلية رفع كلمة “عيادة الكلاب بالتبين” من على باب مصحة الحيوانات بدائرة التبين).
القائمة النسبية الحزبية حل لكل المشكلات
يرتبط بما سبق، ولكون الهيئة لها دور في تحديد النظام الانتخابي، فإنها توصي بأن النظام النسبي هو النظام الذي يحقق العدالة والشفافية، وأنه الأسهل لها في التنظيم والإدارة، لأن الهيئة سيسهُل عليها متابعة 10 أو 20 أو 30 أو 40 حزبا مشاركا في الانتخابات، أكثر مئات المرات من متابعة انتخابات بها مئات المرشحين الفرديين. وجود قائمة نسبية حزبية يراقب بحسم سقف الدعاية الانتخابية، وينعش الأحزاب السياسية؛ لأنه يقلل حالة عزوف الناس عن المشاركة في العمل الحزبي، حيث يعزف حوالي 95% من المواطنين عن المشاركة في عضوية الأحزاب. من ناحية أخرى، فإن النظام النسبي الحزبي يجعل أداء البرلمانات ونقاشاتها تتسم بالتمدين تمدينا حقيقيا.
الهيئة ستشرف وتدير لاحقا انتخابات لا استفتاءات
لا شك أن الانتخابات تعني الاختيار، ومن ثم فهي تتنافى بالكلية مع أسلوب الاستفتاء، الذي هو عمل، يعني التزكية أو ما يشبه التعيين المقنع. من هنا، فإن ما جرى في انتخابات مجلس النواب 2025، وما سبقها من انتخابات أخرى، نظمتها الهيئة الوطنية بمجلسي الشيوخ أو النواب، كان عبارة عن وجود قائمة واحدة جرى الاستفتاء عليها. هذا الأسلوب يصِم مصر دوليا بسمة غير سوية، باعتبار أن ما حدث عمليا هو انتخاب لـ45% من أعضاء مجلس النواب ونحو 33% من أعضاء مجلس الشيوخ، لكون 55% و67% من عضوية المجلسين على الترتيب قد تم حسمها عمليا بالتعيين. هذا الأمر بالتأكيد لا يرضي كل من يرغب في نزاهة الانتخابات، باعتبارها حلقة من حلقات المنافسة الشريفة بين مترشحين أضداد وأنداد، يتنافسون على كل المقاعد المنتخبة وليس على جزء منها. لذلك فإن أسلوب القائمة المطلقة المعيب أصلا دستوريا- كما ذُكر آنفا- والمعيب أخلاقيا لكونه يضم 49% من أصوات الناخبين إلى القائمة التي حصلت على 51%، هذا الأسلوب يزيد المشهد كآبة على كآبته بكون المتنافس هو قائمة واحدة!!! لذلك فإنه إذا ما كان مقدرا بقاء العمل بهذا النظام السيئ دون تغيير، فإنه من المهم أن يكون هناك قوائم متنافسة، وهذا الأمر مرتبط بضرورة تشجيع القوى السياسية على تشكيل قوائم، وليس إحباطها. على هذا الأساس، فإنه من المهم الإشارة إلى توصية مهمة يتحتم أن تُلزم بها الهيئة ذاتها قبل غيرها، وهذا الأمر هو أحد وسائل النقد الذاتي من الهيئة إلى الهيئة، التي يهمها دعم المشاركة. هذه التوصية هي ضرورة أن تتسامح الهيئة في طلبات الترشيح، بمنح مهلة إضافية لتقديم الأوراق، إذ أنه من غير العملي أن تلغي الهيئة مشاركة قائمة بأكملها لنقص شهادة مؤهل مترشح ما، أو لأن مترشح منها فقد صورة كشف طبي، أو تخلف عن تقديم مستند، يثبت وضعه التجنيدي. الأمر في الأخير يحتاج لمهلة إضافية أو إنذار موثق للمسئول على القائمة لتقديم مترشحين بدلاء أو تقديم المستندات المفتقدة في موعد آخر قريب، حتى تجرى انتخابات تنافسية حقيقية وليست شكلية.
الرقابة على انتماءات المرشحين الجهوية
واحد من أبرز الأمور التي يجب أن تشرف الهيئة عليها، ويكون لها كلمة معتبرة فيها هي الدوائر الانتخابية، وهذا الأمر من صميم عملها وفقا للقانون. من هنا، فإن الهيئة ستكون مُلزمة في المرات القادمة- قانونا أو عمليا- بعدم قبول قائمة لمترشحين لا ينتمون إلى الدائرة أو القطاع الانتخابي، إذ أن وجود مترشحين من الوجه البحري في قائمة الوجه القبلي أو العكس هو أحد الأمور المدمرة للمشاركة في الاقتراع، إذ أن الناخب يتحمس للخروج والتصويت في حالة معرفته بالمرشح ولو بشكل غير مباشر.
الخروج من قصر الدوبارة والعمل بما يشبه الضبطية القضائية
يرتبط بما سبق حتمية خروج الهيئة مستقبلا من مقرها في قصر الدوبارة، ومن ثم يكون لها الحق من الآن فصاعدا في التحدث مع الأحزاب السياسية أو التحدث مع جهات الرقابة للتعامل مع تلك الأحزاب. هنا من المهم الإشارة إلى أن ما ورد (على لسان مواقع إلكترونية، ولم تنفه الأحزاب، بل أن رئيس حزب الوفد جاهر به) من وجود مال مدفوع لبيع المقاعد المخصصة للأحزاب المنضمة، لما يسمى بقائمة الدولة (مستقبل وطن/ حماة الوطن/ الجبهة الوطنية/ الإصلاح والتنمية/ الوفد) لن يمر من الآن وصاعدا مرور الكرام، وستحقق فيه الهيئة فيه، وستبلغ الجهات الرقابية بشأنه.
الهيئة والصفات الاجتماعية للمترشحين
وما دام أن الهيئة لها كلمة مسموعة قانونا في النظام الانتخابي، فعليها أن تطالب بإلغاء الكوتات الاجتماعية (المرأة والشباب وغيرهم) غير المعمول بها في أي نظام انتخابي في العالم، حيث يكتفي بكوتة واحدة أو اثنين. أما وأن الشارع الدستوري قد وضع 6 كوتات جملة واحدة، فإن الغرض يبدو هنا ملتبسا لديه، لكونه يؤسس لتشكيل مؤسسة اجتماعية لا سياسية. أما في حالة بقاء هذه الكوتات، فإن الهيئة توصي بألا تكون “محولجي مرشحين” في تنظيم العملية الانتخابية، لأنها تديرها من الألف إلى الياء قانونا. من هنا لا يمكن للهيئة في ظل إعلام وموقف رسمي مشجع لمشاركة المرأة والشباب وذوي الإعاقة والمسيحيين وغيرهم، أن تقبل من الأحزاب المرشحة قوائم تجميع تلك الصفات أو بعضها في شخص واحد، حال بقاء نظام القوائم المطلقة المعيب.
هل تمنع الهيئة توريث العضوية؟
بنفس القدر فإن الهيئة (ما دام بقي نظام الكوتات قائما) عليها ألا تسكت من الآن على توريث الصفات بأن يكون للمرشح الأساسي ابن أو أخ أو ابن عم في القوائم الاحتياطية، لأن ذلك يفضي لشخصنة الحياة النيابية، التي يقول رئيس الهيئة في كل بيان لنتيجة انتخابات إنه يذود عنها. الجدير بالذكر، أن ظاهرة توريث مقعد البرلمان تختلف كلية عن ظاهرة مقعد العائلة أو القبيلة المعروف في مصر وعديد الدول النامية وغير النامية، لأن الأخير ارتبط بتوافق عائلي أو قبلي على مرشح ذي خبرة، أما ما يحدث في القائمة الموحدة اليوم فهو يتعلق بمرشحين محتملين وليسوا حقيقيين، وهو أمر معبر عن الإمعان في التوريث، ناهيك عن أن غالبية هؤلاء عديمو الخبرة.
انتخابات في يوم واحد وبموظف عمومي على كل صندوق
من المهم أن توصي الهيئة لمنع اللغط والارتباك وكثرة الذهاب للصناديق أن تجرى الانتخابات في يوم واحد، وحتى لا يقال أن عدد قضاة الهيئات القضايا لا يكفي، يوصى بجعل الموظفين العموميين مشرفين على الصناديق. فما دام تم اختيار هؤلاء بعناية، وبحيث لا يرتبط أحدهم بمرشح الدائرة، فإن هؤلاء لن يعدموا النزاهة والشفافية، ناهيك عن أن هذا الأمر الدستوري سيجعل القضاة متفرغين لعملهم الأصلي، لأنهم عمليا غير متخصصين في الشأن الانتخابي على حد تعبير القاضي أحمد الزند وزير العدل الأسبق.
هكذا يجب أن يكون تقرير الهيئة الوطنية للانتخابات الذي سيرفع للجهات المعنية، أملا في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة مستقبلا.






