منذ اندلاع الحرب في السودان في إبريل 2023، تعاملت القاهرة مع الأزمة، باعتبارها واحدة من أخطر التحديات التي واجهت منظومة الأمن القومي المصري في العقد الأخير، ليس فقط بسبب الجوار الجغرافي أو تشابك المصالح التاريخية، وإنما لأن مسار الصراع نفسه أخذ يتجاوز حدود النزاع الداخلي؛ ليقترب من سيناريوهات تفكك الدولة، وتآكل مؤسساتها، وصعود فاعلين مسلحين غير رسميين قادرين على إعادة إنتاج نموذج الفوضى الممتدة عبر الحدود.
في هذا السياق، جاء البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية المصرية، الذي أكد أن وحدة السودان “خط أحمر”، ليعكس تحولا ملحوظًا في لهجة الخطاب السياسي المصري، وانتقاله من موقع التحذير الدبلوماسي التقليدي إلى صيغة أكثر حسمًا، تقوم على ترسيم حدود المصالح الحيوية التي لا يمكن السماح بتجاوزها.
دبلوماسية “الخطوط الحمراء” ليست جديدة على الأدبيات السياسية المصرية، لكنها تظهر عادة في لحظات إدراك استراتيجي، بأن مسار الأزمة يقترب من تهديد مباشر، أو حين تتراجع فاعلية أدوات الوساطة والضغط الناعم. هذه الدبلوماسية لا تعني بالضرورة التهديد باستخدام القوة، لكنها تستخدم كآلية لإعادة ضبط سلوك الفاعلين الآخرين، سواء كانوا أطرافا محلية أو قوى إقليمية أو حتى شركاء دوليين، من خلال توضيح كلفة الاستمرار في مسار معين. في الحالة السودانية، فإن الخط الأحمر المتعلق بوحدة الدولة لا ينفصل عن تجربة مصر التاريخية مع تداعيات انهيار الدول الوطنية في الإقليم، ولا عن إدراكها بأن تفكك السودان لن يبقى حبيس حدوده، بل سيعيد تشكيل خرائط النفوذ، ومسارات الهجرة، وتهديدات الجماعات المسلحة في محيطها الجنوبي.
البيان المصري لم يكتفِ بتأكيد وحدة السودان كقيمة سياسية مجردة، بل ربطها صراحة بالأمن القومي المصري، وهو ربط يحمل دلالات استراتيجية عميقة. فمصر هنا لا تتحدث عن السودان من منطلق أخلاقي أو تضامني فقط، وإنما من زاوية المصالح الصلبة: أمن الحدود الجنوبية، استقرار حوض النيل، منع نشوء فراغات أمنية يمكن أن تتحول إلى منصات تهديد. هذا الربط يعيد السودان إلى موقعه التقليدي في العقل الاستراتيجي المصري، باعتباره أمنا قوميا مصريا، وليس مجرد جار سياسي.
في هذا الإطار، برز في البيان رفض واضح لأي محاولات لتشكيل كيانات موازية أو مسارات انفصالية داخل السودان سواء في غرب السودان أو في شرقه. هذه النقطة تحديدا تعكس قلقا مصريًا متزايدا من السيناريو الذي قد تتحول فيه الحرب إلى مدخل لإعادة هندسة الدولة السودانية على أسس جهوية أو قبلية، سواء بدعم خارجي مباشر أو عبر ديناميات داخلية منفلتة. فالقاهرة تدرك أن الاعتراف الضمني أو الصريح بسلطات أمر واقع مسلحة من شأنه أن يشرعن التفكك، ويضعف أي إمكانية لاحقة لإعادة بناء الدولة، وهو سيناريو ترى فيه مصر تهديدا يتجاوز السودان ليطال النظام الإقليمي نفسه.
التركيز على مؤسسات الدولة السودانية في البيان، لا يمكن قراءته بمعزل عن هذا السياق. فالدولة من منظور مصري ليست مجرد حكومة قائمة، وإنما إطار مؤسسي يحفظ الحد الأدنى من الاستمرارية والقدرة على التفاوض والتسوية. انهيار هذا الإطار يعني الدخول في فراغ، لا يمكن ملؤه بسهولة عبر مسارات سياسية تقليدية. لذلك، فإن الدفاع عن المؤسسات لا يعبر فقط عن موقف سياسي داعم لطرف بعينه، بل عن رؤية تعتبر أن أي تسوية قابلة للحياة، يجب أن تنطلق من بقاء الدولة، لا من تفكيكها وإعادة تركيبها وفق موازين القوة العسكرية.
الجدل الأكبر الذي أثاره البيان، تمثل في الإشارة إلى اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان. هذا التلميح فتح باب التأويلات، خاصة في الإعلام الإقليمي والدولي، حول ما إذا كانت القاهرة تلوّح بخيار عسكري، أو تسعى إلى فرض وصاية أمنية على السودان. غير أن القراءة المتأنية تشير، إلى أن الاتفاقية تستخدم هنا أساسا كأداة ردع دبلوماسي، لا كإعلان نية للتدخل. في القانون الدولي، فإن تفعيل مثل هذه الاتفاقيات يظل مشروطا بطلب صريح من السلطة الشرعية في الدولة المعنية، وبالتزام واضح بقواعد السيادة وعدم التدخل.
من هذا المنظور، لا يمكن اعتبار الإشارة إلى الاتفاقية اعتداء على السيادة السودانية بقدر ما هي محاولة لوضع سقف أمام سيناريوهات الانزلاق الشامل. القاهرة التي حرصت طوال الأزمة على التأكيد أن الحل يجب أن يكون سودانيا في المقام الأول، تدرك في الوقت ذاته أن ترك الأمور دون حدود واضحة قد يفتح الباب أمام تدخلات أخرى أقل التزاما بحسابات الاستقرار السوداني طويل الأمد. هنا تتحول الاتفاقية إلى ورقة ضغط سياسية، ورسالة موجهة أكثر إلى القوى الإقليمية المنخرطة في الصراع، وليس إلى الداخل السوداني فقط.
آليات استخدام هذه الاتفاقية، كما تفهمها القاهرة، لا تقتصر على الخيار العسكري المباشر. بل تشمل طيفا واسعا من الأدوات، بدءًا من التنسيق الأمني وتبادل المعلومات، مرورا بالدعم اللوجستي والتدريب، وصولا إلى المشاركة في ترتيبات إقليمية أو دولية لحماية الحدود أو تأمين الممرات الإنسانية. هذا التدرج يعكس حرصا مصريا على عدم القفز إلى خيارات مكلفة سياسيا، وفي الوقت نفسه عدم ترك الخطوط الحمراء بلا أدوات تنفيذ محتملة.
في موازاة ذلك، يلفت البيان الانتباه إلى استمرار التنسيق، ضمن ما يعرف باللجنة الرباعية المعنية بالسودان. هذا الإطار، الذي يضم مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة، يفرض بطبيعته معادلة دقيقة بين الاستقلالية في القرار الوطني والتوافق مع الشركاء. إعلان الخطوط الحمراء المصرية لا يبدو في هذا السياق، فعلا أحاديا منفصلا عن هذا التنسيق، بل أقرب إلى كونه جزءا من توزيع أدوار ضمن رؤية أوسع؛ تهدف إلى منع انهيار السودان الكامل، دون الانخراط في مغامرات عسكرية مفتوحة.
التفاهم مع المملكة العربية السعودية يبدو عنصرا محوريا في هذا السياق، خاصة في ظل الدور الذي لعبته الرياض في مسارات التفاوض السابقة، وحرصها على منع امتداد الفوضى إلى البحر الأحمر. كما أن التفاهم مع واشنطن يوفر غطاء دوليا لأي تحركات دبلوماسية مصرية أكثر صرامة، ويحد في الوقت ذاته من احتمالات سوء الفهم أو التصعيد غير المحسوب. من هنا، يمكن القول إن الخطوط الحمراء المصرية ليست بالضرورة قيدًا فرضته الترتيبات الدولية، بقدر ما هي نتاج تفاعل بينها وبين إدراك مصري متزايد بأن الصمت أو الغموض لم يعدا خيارين قابلين للاستمرار.
أما على مستوى تقييم الجهد الدبلوماسي المصري منذ اندلاع الحرب، فيمكن القول إن القاهرة انتقلت عبر مراحل متدرجة. في البداية، غلبت مقاربة الاحتواء والوساطة الهادئة، مع التركيز على جمع الأطراف السودانية والحفاظ على قنوات التواصل. ومع تعقد المشهد وتصاعد العنف، خاصة ضد المدنيين، تحول الخطاب المصري تدريجيا نحو لهجة أكثر وضوحًا في تحديد المسئوليات والمخاطر. البيان الأخير يمثل ذروة هذا التحول، حيث انتقلت الدبلوماسية المصرية من توصيف الأزمة إلى محاولة التأثير المباشر في مساراتها المحتملة.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل التحديات التي واجهت هذا الدور، سواء بسبب تعدد الفاعلين المسلحين داخل السودان، أو بسبب تضارب الأجندات الإقليمية، أو حتى بسبب محدودية الأدوات المتاحة للدبلوماسية وحدها في نزاع بهذا التعقيد. الفجوة بين الخطاب السياسي والواقع الميداني ما زالت قائمة، لكن إعلان الخطوط الحمراء قد يكون محاولة لتقليص هذه الفجوة، عبر إدخال عنصر الردع إلى معادلة التفاوض.
إجمالا: تعكس دبلوماسية الخطوط الحمراء المصرية في أزمة السودان إدراكا متقدما، بأن إدارة الأزمات الإقليمية لم تعد تقتصر على الوساطة والبيانات، بل تتطلب أحيانا رسم حدود واضحة للمصالح الحيوية. نجاح هذه الدبلوماسية سيظل مرهونا بقدرة القاهرة على تحقيق توازن دقيق بين الحزم والمرونة، وبين حماية أمنها القومي واحترام السيادة السودانية، وبين العمل ضمن الأطر الدولية والحفاظ على هامش قرار وطني مستقل. السودان، في هذا المعنى، ليس فقط ساحة اختبار للسياسة الخارجية المصرية، بل مرآة لتحولات أوسع في كيفية تعامل الدولة المصرية مع أزمات الإقليم، في مرحلة تتسم بقدر غير مسبوق من السيولة وعدم اليقين.






