– تصدق بالله؟ أنا مأمور مركز بالشرف، أنا مش مأمور من المآمير اللي أنت عارفهم، أنا لا عُمري أتدخل في انتخابات، ولا عُمري أضغط على حرية الأهالي في الانتخابات، ولا عُمري قلت انتخبوا هذا أو أسقطوا هذا، أبداً، أبداً، أبداَ. أنا مبدئي ترك الناس أحراًراً تنتخب كما تشاء …

– فقاطعت المأمور وأنا لا أملك نفسي من الإعجاب: 

– شيء عظيم يا حضرة المأمور بس الكلام ده مش خطر على منصبك؟ أنت على كده.. أنت رجل عظيم.

– فمضى المأمور يقول: 

– دي دايما طريقتي في الانتخابات: الحرية المطلقة، أترُك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات، وأرميه في الترعة، وأروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.

– شيء جميل، قلتُها في شيء من الاستغراب ممزوج بخيبة الأمل.

…………………………………

النص أعلاه مكتوب 1938 أي في منتصف العهد الذي يوصف بأنه ليبرالي ديمقراطي بين ثورة 1919 وثورة 1952، تقرأ هذا النص في ص 108 من رواية توفيق الحكيم “يوميات نائب في الأرياف”، وهذا النص يكشف عن حقيقتين:

 1- الأولى تراث الدولة العميقة في هندسة الانتخابات، فيكون ظاهرُها ينتسب للديمقراطية، وتجري كما لو كانت منافسة حرة، لا يعلم الناس نتائجها مسبقاً، لكن في الباطن تجري الانتخابات تحت سيطرة الإدارة التنفيذية، التي تملك القدرة على تغيير نتائج الانتخابات، حسب تخطيطها المسبق بغض النظر عن التصويت الفعلي في الصناديق، في عام 1938 كانت خبرة مصر في الانتخابات البرلمانية لا تزيد عن أربعة عشر عاماً، فهي بدأت في خواتيم 1923 ومطلع 1924، ورغم ذلك كانت في مصر مدرسة مُعتبرة في التزوير، ثم تطورت هذه المدرسة عبر الزمن، وقد بلغت الآن ما يزيد قليلاً عن مائة عام من عمرها الحافل في خدمة التزوير بكافة أشكاله الظاهرة والباطنة، ورغم احتلاف العهود من ملكي وجمهوري، ورغم اختلاف الحقب من الملك فؤاد إلى الملك فاروق إلى الرئيس عبد الناصر إلى الرئيس السادات إلى الرئيس مبارك إلى الرئيس السيسي، إلا أن هذه المدرسة المصرية الأصيلة حافظت على وجودها، ثم بقائها ثم تطورها، فهي المؤسسة السياسية الثابتة الصلبة التي لا تنال منها الأيام، ولا يأتي عليها الزمن، بل هي صامدة في موقعها تتحدى الزمن وتسابقه، هو يغرب وهي تشرق، وهو يأفل وهي تصعد، هو يطوي بعضه بعضاً، وهي يتطور بعضها عن بعض في تقدم مضطرد وازدهار يتواصل عبر كل العهود السياسية دون انقطاع. 

نظرة الدولة المصرية إلى الديمقراطية هي نظرة واحدة، تختلف مسميات الدولة وألقابها وشعاراتها، لكن موقفها من الديمقراطية واحد: الدولة في عُمقها تفضل الانفراد بالحكم، والدولة هنا تعني السلطة التنفيذية، أي الحاكم الفرد، مهما كان لقبه أو اسمه مع أجهزة الإدارة البيروقراطية والأمنية والسيادية، هذا هو صُلب الدولة وعمقُها الحديدي منذ تأسست على يد محمد علي باشا، باقي المؤسسات وبالذات الوزراء هم طبقة محمولة على الهواء مباشرةً بين شقي رحى: شق الحاكم الفرد ذو الكلمة العليا من فوق، ثم شق الأجهزة البيروقراطية التي تقبض على كل التفاصيل من تحت، هذه حقيقة يعرفها أذكى الوزراء وأغباهم من أول وزارة على النمط الأوروبي برئاسة نوبار باشا 1878، وإلى أمد لا يعلم مداه إلا علام الغيوب، جاء نوبار باشا في منصبه بضغوط أجنبية، فكان الخديوي إسماعيل يحرض عليه بيروقراطية الدولة، بما في ذلك الجيش نفسه، ربما لم يعرف التاريخ المعاصرة حالة مشابهة، لما حدث من الخديوي عندما حرض الجيش على التظاهر ضد رئيس وزرائه، ثم في اللحظة الحرجة يتدخل الخديوي ليفض الاشتباك، وكأنه ليس هو المدبر له. تكرر الأمر مع نجله توفيق الذي- على خلاف الشائع- كان على تنسيق مع العرابيين في مظاهرتهم أو ثورتهم أمام قصر عابدين في التاسع من سبتمبر 1881، كان التنسيق بين عرابي والخديوي عشرة من عشرة، فقد كانت للخديوي رغبة في التخلص من وزارة رياض باشا التي كانت على غير هواه وعلى هوى الأجانب، قبل أن يستسلم بعد ذلك ويفوض أمره ويرهن مصيره للأجانب، هذا عن السلطة التنفيذية أو مجلس الوزراء فهي ليست أكثر من واجهة، بينما تُدار السلطة التنفيذية الفعلية من أعلاها، ومن أسفلها أي من الحاكم تحت أي لقب كان ملكاً أو رئيساً ثم من البيرقراطية الإدارية والأمنية والسيادية.

أما سُلطة الشعب أو البرلمان أو ما يمثل حضور الشعب في السياسة والحكم والقرار والإدارة، فهو أمر ثانوي، الدولة الحديثة منذ مؤسسها الأول محمد علي باشا يضيق صدرها من فكرة حضور الشعب في السياسة، ولقد سن الباشا السٌنة الباقية إلى اليوم والغد وهي: يبدأ كل حاكم مصري عهده بالتخلص من الحضور السياسي للشعب، حضور الشعب ليس محل ترحيب، وهذا هو جوهر الديمقراطية المصرية: ديمقراطية تمتعض من ريحة الشعب، وينقبض صدرُها من منظره، ديمقراطية تود الشعب مادة خام هينة لينة، يتم تشكيلها وفق القوالب المؤسسية التي يراها الحاكم: مجلس المشورة في عهد محمد علي باشا، مجلس شورى النواب في عهد إسماعيل، مجلس شورى القوانين في عهد توفيق، الجمعية التشريعية في عهد الاحتلال، كانت السلالة العلوية أوروبية الهوى استعمارية المزاج، فكانت ترى المجالس وسيلة لوضع الشعب المصري الفلاح على طريق التمدن والتحضر، وهكذا كانت الجمعية التشريعية تحت الاحتلال. ثم اختلف الأمر بعد ثورة 1919، كانت ثورة حقيقية، فرض الشعب بعض كلمته على الاحتلال، فحصل على نصف استقلال، كما فرض الشعب كلمته على طغاة أسرة محمد علي باشا، فحصل على نصف ديمقراطية، لم تكن الثورة تستطيع أن تحسم وجود الاحتلال، فتحصل مصر على استقلال كامل، كما لم تكن الثورة تستطيع أن تحسم وجود السلالة العلوية، فتحصل على ديمقراطية كاملة، اضطرت ثورة 1919 للتعايش مع الخصمين: الاحتلال والديكتاتورية فأرهقوها واستنزفوها، حتى تسلمت الراية ثورة 1952، فحسمت وجود الاحتلال، فحصلت مصر على الاستقلال، كما حسمت وجود أسرة محمد علي باشا، لكن دون أن تحصل مصر على الديمقراطية، لكن حصلت على استبداد جديد يستمد جذوره من الاستبداد القديم. 

لكن الاستبداد الجديد كان أشد وطأة وعُتواً من الاستبداد القديم لعدة أسباب:

1- استغل نفور الجماهير من الأحزاب القديمة فقضى عليها ولم يسمح بأحزاب جديدة، بل جعل من الدولة هي الجهاز السياسي الوحيد، والدولة تملك التنظيم السياسي الوحيد من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي، وفي هذا السياق تطورت فكرة الوطنية، فبعد ثورة 1919 كان معنى الوطنية هو مقاومة الاحتلال والاستبداد، لكن بعد ثورة 1952 بات معنى الوطنية هو التسابق في كتابة التقارير الأمنية وصناعة النتانة السياسية من باب الغيرة على الوطن وحماية الثورة.

2- وحتى يقبض الاستبداد الجديد على مقاليد الأمور دون أحزاب ودون ديمقراطية، كان يلزمه بعد إلغاء الأحزاب، أن يذهب خطوات أبعد فُيحكِم سيطرته على النقابات المهنية والعمالية والجمعيات المستقلة والجامعات وكافة التنظيمات الاجتماعية ذات الطابع المستقل عن الجهاز الإداري للدولة.

3- وحتى ينجح الاستبداد الجديد، فيما سبق كان عليه أن يمنع منعاً باتاً أي صوت حر إلا صوت الدولة وصوت الزعيم وصوت الثورة، لاعتبارها صوت الجماهير ككتلة صماء لا يعلو فوق صوتها صوت، وهنا كان يلزم السيطرة الكاملة على منابر الإعلام القائمة مع ابتكار منابر جديدة؛ بغية غسيل الأدمغة والتلاعب بالعقول والمشاعر الذي حقق فيه الاستبداد الجديد نجاحاً منقطع النظير.

4- سيطر الاستبداد الجديد سيطرة مطلقة على السلطة التنفيذية، ثم السلطة التنفيذية سيطرت سيطرة مطلقة على السلطة التشريعية، وكانت الخلاصة أن باتت السلطة القضائية تحت الحصار بين شقي الرحى التنفيذي والتشريعي، وترتب على ذلك العصف العملي بالحريات والحقوق المدنية، إلا ما سمحت به السلطة التنفيذية، ولم يكن لها اعتراض عليه.

5- معنى كل ما سبق هو تهميش الشعب في السياسة والقرار والحكم والإدارة، وهو يبدو- لأول وهلة- من صُنع الاستبداد الجديد منذ ثورة 1952، ولكن الحقيقة كلا الاستبدادين محطات على طريق واحد، الفرق هو في درجة القوة التي تزداد عنفاً بمرور الزمن، فجهاز الدولة يزداد بمرور الزمن اتقاناً لفنون الاستبداد، فما بدأه محمد علي باشا على نطاق ضيق أخذ بمرور الوقت يتسع نطاقه أكثر فأكثر، وما زال يشق طريقه نحو المزيد من الاستبداد باتساع مصر على امتداد المليون كيلو متر مربع برها وبحرها وجوها.

6- الفرق بين الاستبدادين: استبداد ما قبل 1952 لم يجرم الديمقراطية ولم يشوهها، ولم يُخون من يطالبون بها، كانت الديمقراطية تحت راية الدستور هي توأم المطلب الأسمى وهو الاستقلال وجلاء الاحتلال، لكن الاستبداد بعد 1952 اعتبر الديمقراطية، وما زال يعتبرها، طعنة في ظهر الوطنية أو في صدرها، الديمقراطية والوطنية لا يلتقيان، لو كنت وطنياً بحق، فعليك أن تقبل الاستبداد الوطني الذي يحمي البلاد من المخاطر والمؤامرات، صار الاستبداد ضرورة وطنية، بدأ لحماية الثورة، ثم حماية الدولة، ثم حماية الوطن، بات اسم الوطن لا يُذكر إلا بذكر تكوينات استبدادية محضة، يتم تقديمها على أنها تجليات الوطنية المثالية.

7- وجود الاحتلال قبل 1952 كان ذا وجهين، فيما يخص مسألة الديمقراطية والديكتاتورية: الوجه السلبي أنه تناغم مع السراي وأحزاب الأقلية ضد الوفد، بما أجهض الديمقراطية في نهاية المطاف عندما ظهرت عاجزة بعد ثلاثين عاماً من ثورة 1919، على أن تنجز مطلب الاستقلال، ظهرت كما لو كانت ديمقراطية فاشلة عاجزة غير مثمرة. أما الوجه الإيجابي: فهو العكس تماماً، فمثلما كان وجود الاحتلال مُجهضاً للديمقراطية، إلا أنه في الوقت ذاته كان ضمانة استمرارها، كان الإنجليز مما يرضيهم أن يكون نظام الحكم في مصر على نمط نظام الحكم البريطاني: دستور وملك ووزارة ومجلس نواب ومجلس شيوخ وأحزاب ونقابات مهنية وعمالية وصحافة متعددة الأصوات ومجتمع مدني، كان هذا الرضاء الإنجليزي ضمانة لاستمرار التجربة، لكن لم يضمن بقاءها بعد رحيلهم، بل وئدت التجربة قبل جلائهم، ديمقراطية الإنجليز رحلت قبل رحيل الإنجليز، وعادت مصر بعد 1952 إلى تراث ما قبل ثورة 1919، وقبل الإنجليز عادت إلى الاستبداد الخديوي الحديث الذي نما وترعرع من حكم الباشا حتى حكم الخديوي إسماعيل، عادت مصر إلى الخديوية الجديدة حيث الحاكم يقبض سيطرته على عصبة قليلة من الرجال، ثم هذه العصبة القليلة تبسط سيطرتها على المؤسسات، ثم المؤسسات تبسط سيطرتها على الدولة، ثم الدولة تبسط سيطرتها على الشعب، ثم الشعب لا تقوم له قومة، وإن قامت له قومة لا تلبث أن تتلاشى.

……………………………..

هذا يفسر لك ما قاله المأمور لتوفيق الحكيم في يوميات نائب في الأرياف.

أما ما قاله الحكيم رداً على المأمور: شيء جميل، قلتُها باستغراب ممزوج بخيبة الأمل.

فهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل “خيبة أمل المثقفين وخيبة الأمل فيهم”.