يدخل السودان عام 2026، وهو يقف عند واحدة من أكثر لحظاته التاريخية هشاشة منذ الاستقلال. فالحرب المندلعة منذ 15 إبريل (نيسان) 2023 لم تعد مجرد صراع على السلطة بين طرفين مسلحين، بل تحولت إلى أزمة دولة شاملة، تتقاطع فيها رهانات الداخل مع حسابات الإقليم وضغوط النظام الدولي. وفي ظل توصيف الأمم المتحدة، لما يجري في السودان، باعتباره “أكبر كارثة إنسانية في العالم”، يصبح السؤال المركزي مع اقتراب العام الجديد: هل تملك القوى المؤثرة أدوات حقيقية لوقف الحرب، أم أن السودان يتجه نحو تثبيت وقائع تقسيم فعلي بحكم الأمر الواقع؟
من حرب داخلية إلى ملف دولي يحظى باهتمام
خلال العامين الماضيين، تدرجت الحرب السودانية من صراع عسكري محدود في العاصمة إلى نزاع متعدد الجبهات، شمال دارفور وكردفان وأطراف النيل الأزرق، مع انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة، ونزوح أكثر من عشرة ملايين شخص داخلياً وخارجياً. هذا التدهور السريع جعل السودان ينتقل من خانة “الأزمات المنسية” إلى أحد الملفات الساخنة على طاولة العواصم الكبرى، ليس فقط لأسباب إنسانية، بل لما يحمله الانهيار السوداني من تهديد مباشر لاستقرار القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وللأمن القومي لدول الجوار، وعلى رأسها مصر.
في هذا السياق، جاءت خارطة الطريق التي أقرتها “الرباعية الدولية” في 12 سبتمبر (أيلول) 2025– الولايات المتحدة، والسعودية، والإمارات، ومصر– كمحاولة لإعادة ضبط المسار، عبر الانتقال من إدارة الأزمة إلى السعي لحل تدريجي، يبدأ بوقف القتال قبل الانتقال إلى السياسة.
خارطة الرباعية: توافق خارجي وتحفظ داخلي
تنص خارطة الرباعية على هدنة إنسانية أولية لمدة ثلاثة أشهر، تفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار، ثم إطلاق عملية انتقالية سياسية شاملة، تنتهي خلال تسعة أشهر بتأسيس حكومة مدنية مستقلة. من حيث البناء النظري، تبدو الخارطة متوازنة، إذ تفصل بين المسار الإنساني والمسار السياسي، وتمنح الأولوية لحماية المدنيين وإيصال المساعدات.
غير أن الإشكال الحقيقي لم يكن في نص الخارطة، بل في استقبالها داخل معسكر بورتسودان. فبعض حلفاء الجيش السوداني لم يروا مصالحهم ممثلة في هذا المسار. الإسلاميون، بقيادة علي كرتي، يخشون أن تفضي أي عملية سياسية برعاية دولية إلى إقصائهم مجدداً من المشهد، بعد أن أعادوا بناء نفوذهم جزئياً في ظل الحرب. كما أن بعض قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا 2020، وعلى رأسهم مني أركو مناوي، ينظرون بقلق إلى ترتيبات انتقالية، قد تعيد خلط الأوراق على حساب مواقعهم الحالية.
هذه التحفظات لا تعبّر عن رفض للسلام بقدر ما تعكس صراعاً حول “شكل النهاية”: من يخرج رابحاً، ومن يدفع ثمن التسوية.
البرهان وإعادة التموضع السياسي
في هذا المناخ المعقد، تحرك قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بخطوات محسوبة، تعكس إدراكه لتغير ميزان الضغوط. لقاؤه مع مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا، في زيورخ، ثم زيارته إلى الرياض، أعقبها خلال 24 ساعة لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة، تشي بمحاولة واضحة لإعادة التموضع، لا القطيعة مع المسار الدولي.
البرهان يسعى إلى تقديم نفسه كشريك مشروط في أي تسوية، لا كطرف معرقل. وهو يركز في خطابه، على ثوابت يراها غير قابلة للتفاوض: وحدة السودان، الحفاظ على مؤسسات الدولة، ومنع تفكك الجيش. في هذا السياق، لعبت النرويج– وفق مصادر مطلعة– دوراً مهماً في إزالة الجفوة بين البرهان والفريق الأمريكي، وتهيئة أجواء أقل توتراً للحوار.
الدور السعودي: إعادة الزخم للملف السوداني
زيارة البرهان إلى الرياض لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحرك السعودي الأوسع. فالسعودية، التي باتت أكثر حضوراً في ملفات الوساطة الإقليمية، تنظر إلى السودان باعتباره جزءاً من أمن البحر الأحمر، وأي فوضى ممتدة فيه تشكل تهديداً مباشراً لمصالحها الاستراتيجية.
إعادة الزخم للملف السوداني، جاء بعد لقاء ولي العهد السعودي بالرئيس الأمريكي، وطلبه تدخلاً مباشراً لوقف الحرب. الرياض هنا لا تنافس واشنطن، بل تعمل على استكمال أدوات الضغط، مستفيدة من علاقاتها المتوازنة مع الأطراف الإقليمية، وقدرتها على مخاطبة المؤسسة العسكرية السودانية بلغة أقرب إلى حساباتها الأمنية.
القاهرة وخطوط الأمن القومي
زيارة البرهان إلى القاهرة، وما أعقبها من بيان رئاسي مصري واضح، كشفت عن مقاربة مصرية، تقوم على دعم مشروط للمسار الدولي. مصر أعلنت تأييدها الكامل لرؤية واشنطن لوقف الحرب، لكنها في الوقت نفسه رسمت خطوطاً حمراء، لا يمكن تجاوزها: وحدة السودان، عدم الاعتراف بأي كيانات موازية، والحفاظ على مؤسسات الدولة، مع التأكيد على حقها في اتخاذ ما يلزم لحماية أمنها القومي.
هذا الموقف يعكس إدراكاً مصرياً، بأن انهيار السودان أو تقسيمه سيخلق فراغاً أمنياً خطيراً على حدودها الجنوبية، ويهدد بتدفقات لجوء وفوضى عابرة للحدود، وهو ما يجعل القاهرة حريصة، على أن يكون أي حل سياسياً، لا تفكيكياً.
الدعم السريع: تمدد عسكري وعزلة سياسية
على الجانب الآخر، ورغم التمدد العسكري لقوات الدعم السريع في دارفور وأجزاء من كردفان، وتسريبات عن وجودها في مناطق حساسة كالمثلث الحدودي الشمالي ومناطق متاخمة للنيل الأزرق، فإن هذه المكاسب الميدانية جاءت مقرونة بتكلفة سياسية وأخلاقية متصاعدة.
الانتهاكات الواسعة التي وثقتها تقارير حقوقية في الفاشر، بعد سيطرة الدعم السريع عليها في 26 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، دفعت مجموعات حقوق الإنسان إلى التحرك نحو مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة. كما تشير تقارير صحفية إلى تراجع أو وقف دعم خارجي من بعض الجهات الإقليمية، ما يضع الدعم السريع تحت ضغط متزايد، ويحد من قدرته على تحويل السيطرة العسكرية إلى شرعية سياسية.
عودة للمدنيين
وسط هذا الاستقطاب العسكري، بدأت ملامح حراك مدني جديد تظهر، وإن بشكل حذر. لقاءات نيروبي في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، وتوقيع إعلان مبادئ مشترك من قوى مدنية، كان من أبرزها عبد الواحد محمد نور، تعكس محاولة لإعادة بناء كتلة مدنية مستقلة عن الاستقطاب العسكري.
في القاهرة، جاءت لقاءات القوى المدنية بدعوة من “تضامن” مجموعة الضباط المتقاعدين، لتضيف بعداً آخر لهذا الحراك. كما أن توجيه البرهان بعدم منع أي سوداني من استخراج أوراقه الثبوتية، فُسّر كرسالة تطمين للمدنيين وقادة الأحزاب، وإشارة إلى استعداد محدود لفتح المجال العام، ولو في حدوده الدنيا.
واشنطن والضغط الزمني
تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، التي تحدث فيها عن مهلة عشرة أيام لتثبيت هدنة إنسانية، تمثل تحولاً نوعياً في النهج الأمريكي. فواشنطن نادراً ما تضع سقفاً زمنياً معلناً دون مؤشرات على توافقات أولية.
هذا الضغط الزمني يعكس شعوراً، بأن استمرار الحرب بات مكلفاً دولياً، وأن نافذة الفرصة قد لا تبقى مفتوحة طويلاً. لكنه في الوقت نفسه يضع الأطراف السودانية أمام اختبار حقيقي: إما الاستجابة للضغوط، أو تحمل تبعات سياسية وقانونية متزايدة.
سيناريوهات السودان في 2026
استناداً إلى هذه المعطيات، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية السيناريو الأول– الأكثر ترجيحاً نجاح الرباعية في فرض هدنة إنسانية مطلع 2026، تليها مفاوضات شاقة لوقف دائم لإطلاق النار. هذا السيناريو لا ينهي الحرب سريعاً، لكنه يمنع الانهيار الشامل، ويعيد فتح المجال أمام السياسة.
السيناريو الثاني– إدارة الأزمة
هدنة هشة ومتقطعة، تُستخدم لتخفيف الضغوط الإنسانية دون معالجة جذور الصراع، مع استمرار الاشتباكات في الأطراف، وبقاء السودان في حالة استنزاف طويلة.
السيناريو الثالث– الأسوأ
فشل الضغوط الدولية بسبب تباين مواقف الحلفاء المحليين، ما يدفع الأطراف إلى فرض أمر واقع بالقوة، ويجعل سيناريو التقسيم الفعلي أو التفكك التدريجي احتمالاً قائماً.
خاتمة
السودان في 2026، لن يكون كما كان قبل الحرب، أياً كان السيناريو. فالسؤال لم يعد فقط متى تنتهي الحرب؟ بل كيف؟ وعلى أي صورة للدولة. التفاهمات الإقليمية والدولية تبدو اليوم أكثر نضجاً، لكن نجاحها يظل رهناً بقدرة الفاعلين السودانيين على تقديم تنازلات مؤلمة، والاعتراف بأن استمرار الحرب لم يعد خياراً قابلاً للاستدامة.
بين هدنة محتملة وانقسام مقلق، يقف السودان أمام عام مفصلي، ستتحدد فيه ملامح الدولة، أو ما تبقى منها، لسنوات طويلة قادمة.






