في (26) يوليو (1956) أمم “جمال عبد الناصر” قناة السويس.
كان ذلك حدثا جوهريا هز حسابات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بالتداعيات والخطط المسبقة جرى العدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي على مصر.
لم ترضخ مصر لإرادة العدوان، ولا تراجعت عن تأميم قناة السويس.
قاتلت بكل ما تملكه من إرادة تحرر، حتى فرضت إرادتها بدماء أبنائها في (23) ديسمبر من نفس العام الفارق.
تحت النيران أعادت مصر اكتشاف نفسها من جديد.
على مدى (150) يوما، أكد المصريون أحقيتهم بالنصر.
ما معنى النصر.. وما معنى الهزيمة؟!
في الحصاد الأخير يقاسان بالنتائج السياسية.
خرجت مصر بعد الحرب قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التي لا يمكن تجاهلها.
اكتسبت مصر أدوارها القيادية في إفريقيا بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزانا استثنائية في عالمها الثالث بإلهام أن دولة نامية واجهت تحديا شبه مستحيل وكسبته.
هناك من يريد أن يكرس الهزيمة في الوجدان العام لدرجة العدوان على الذاكرة الوطنية، إننا انتصرنا فعلا على العدوان الثلاثي، أو حرب السويس حسب التوصيف الغربي، أو حرب بورسعيد وفق التوصيف الشعبي والإعلامي.
عندما تغيرت الدفة السياسية والاستراتيجية، تحول فجأة النصر إلى هزيمة، وأصبح “عيد النصر” محض ادعاء.
إنها الحرب على الذاكرة الوطنية.
ألغي التاريخ وأي معنى وطني في حملة الهجوم المتصلة على “عبد الناصر”، إرثه ومشروعه.
المفارقة الكبرى أن الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية لا ترددان مثل هذا الكلام الأجوف.
حاولت بالدراسات المعمقة والأفلام الوثائقية، أن تجيب على هذا السؤال:
ماذا حدث؟.. وكيف هُزمنا؟
عند تأميم قناة السويس لم تكن احتمالات الحرب غائبة عن “عبد الناصر”، لكنه قَبل “المخاطرة المحسوبة” وعرض مستقبله وحياته للخطر الداهم، كسبا لاستقلال وطني حقيقي، وأن تمتلك مصر مقاديرها وقرارها.
حسب ما هو مؤكد بالأوراق والمستندات والشهادات، أخذ قرار التأميم وقته في الدراسة وجمع المعلومات، والتحضير لإدارتها بعد تأميمها.
إذا كان هناك من يعتقد أن استقلال القرار الوطني يُمنح ولا يُنتزع فهو واهم، فلكل استقلال تكاليفه وتضحياته ومعاركه.
كانت الحرب نقطة الذروة في الصراع على المنطقة.
هناك من يتصور أن مصر كان يمكنها تجنب العدوان عليها، إن لم يُقدم “عبد الناصر” على قرار التأميم.
بالوثائق هذا استنتاج متعجل، فلم يكن مسموحا لمصر، بأن تتطلع لاكتساب قرارها الوطني بالتأميم، أو بغير التأميم.
بحسب تقرير استخباراتي أمريكي- ربيع (١٩٥٦)- كشف عنه الأستاذ “محمد حسنين هيكل” في كتابه “ملفات السويس”، فإن خطط الانقلاب والغزو وقتل “عبد الناصر” سبقت قرار التأميم.
انطوى ذلك التقرير على دعوة بريطانية صريحة لاستخدام القوة المسلحة، لإسقاط الحكومة المصرية بالمشاركة مع إسرائيل.
لم يكن كلاما في فضاء الاجتماعات السرية، بقدر ما كان شروعا في تحديد الأدوار قبل التنفيذ.
كان الدور الإسرائيلي ـ وفق التصور البريطاني ـ الهجوم المباشر على غزة ومناطق الحدود الأخرى، والقيام بعمليات خاصة ضد مخزون مصر من إمدادات الذخيرة والطائرات والدبابات.
هذا ما حدث بالضبط في الحرب، بعد إضافة فرنسا لقوة العدوان، بدافع ثأرها من الدور المصري في دعم وتأييد ثورة الجزائر.
بين الاقتراحات التي عرضت على “عبد الناصر”، أن يقدم على “نصف تأميم”، حتى لا يستثير القوى العظمى.
لم يكن مستعدا لأنصاف حلول وأنصاف تأميم، “نأخذ حقنا كاملا، وليكن ما يكون”.
الكلام عن استعادة قناة السويس دون تأميم، أو قتال، أقرب إلى الخزعبلات السياسية.
كان “شارل رو”، رئيس مجلس إدارة شركة قناة السويس واضحا مع “شيمون بيريز” رجل “ديفيد بن جوريون”: “مطامع المصريين لا تقف عند حد، وجمال عبد الناصر هو العدو الحقيقي”.
كان ذلك قبل تأميم القناة.
قبل التأميم وبعده لم يكف رئيس الوزراء البريطاني “أنتوني إيدن” بما يشبه الهستيريا عن طلب رأس “عبد الناصر”: “أريد أن أدمره تماما”، “أريده جثة أمامي”، لكنه اضطر في النهاية؛ لأن يستقيل من منصبه بعد فشله الذريع.
لم يكن “أنتوني إيدن” وحده من يطلب رأس “عبد الناصر” وتدميره كليا.
التقت مصالح واستراتيجيات على نفس الهدف.
بالوقت نفسه، نهضت دول العالم الثالث والقوى الحرة في الغرب لرفض العدوان وإدانته.
تحفظت الولايات المتحدة على العمل العسكري تخطيطا وتنفيذا من خلفها، دون اعتبار أنها قد آلت إليها قيادة العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان الموقف السوفيتي حاسما إلى درجة التلويح برد، قد لا تحتمله فرنسا وبريطانيا.
بدا العالم كله، لأسباب متناقضة في جانب مصر.
في (٢٦) يوليو (١٩٥٦) ولدت زعامة “جمال عبد الناصر” بميدان المنشية، الذي تعرض فيه قبل عامين (١٩٥٤) لمحاولة اغتيال من جماعة “الإخوان المسلمين“.
ألهمت صرخته من على منبر الأزهر الشريف: “الله أكبر.. سنقاتل ولن نستسلم أبدا”، حركات التحرير في العالم الثالث.
لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات، وأي زعم آخر تجديف في الوهم.
رغم آلاف الوثائق والشهادات والكتب التي نُشرت عن حرب السويس، فإن هناك من يطلب نزع أي قيمة عن التضحيات التي بُذلت حتى يكون استقلال القرار الوطني مستحقا.
جرى بناء السد العالي أكبر مشروع هندسي في العالم بالقرن العشرين، وبنت “يوليو” بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات، وعمّرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرمانا.
كان ذلك من النتائج السياسية للحرب.
تحت وهج النيران تضافرت إرادة المصريين، وبرز من بين صفوف بورسعيد شابان صغيران هما “محمد مهران” و”السيد عسران”.
الأول، تطوع في الحرس الوطني، وتدرب على السلاح وقاد سرية صغيرة لحماية مطار الجميل في بورسعيد.
حاول بقدر ما يستطيع أن يوقف مع رفاقه المتطوعين هبوط المظليين البريطانيين بعد قصف كثيف للمطار، ألحقوا خسائر فادحة بقوات الغزو، لكن لم يكن ممكنا وقفه وسقط أسيرا، وكان الانتقام مروعا.
خضع لمحاكمة عسكرية ميدانية، وتقرر الحكم عليه بأغرب حكم في تاريخ الحروب، أن تنزع مقلتاه، بزعم أنه تسبب بزخات رصاصه في إصابة ضابط بريطاني بالعمى، حتى يمكن نقلهما إليه.
حملته طائرة حربية إلى قبرص، حتى تتم تلك الجراحة، التي تخاصم القوانين الدولية على نحو فاحش في التعامل مع أسرى الحرب.
والثاني، نجح في اغتيال قائد المخابرات البريطانية “وليامز”، الذي اشتهر بدمويته المفرطة، باستخدام قنبلة مخبأة داخل رغيف خبز.
كلاهما من سن مقارب، ما يزال إرثهما حاضرا في الذاكرة العامة لمدينة بورسعيد.
هذه مجرد إشارة للبطولات الشعبية، التي برزت أثناء تجربة الحرب.
في الحرب اكتشفت مصر نفسها من جديد، وبدت أمام “الباب المفتوح”- وفق رواية الدكتورة “لطيفة الزيات” عن تلك الفترة والروح التي بثتها.
جرت أحداث الرواية بين عامي (١٩٤٦)، حيث ولد جيل جديد، صاغت تجربته حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية و(١٩٥٦)، حيث ألهمت حرب السويس روحا استقلالية وتحررية ونظرة مختلفة لقضية المرأة، كما لخصتها “ليلى” بطلة النص الروائي، التي تمردت على قيودها ونظرة المجتمع إلى دور المرأة، واكتسبت حقها في الحرية بالانضمام إلى الفدائيين في بورسعيد؛ إسعافا لجرحى وتضميدا لآلام.
“أردت أن أقول إن طريق الخلاص هو بالارتباط بقضايا أكبر يجد الإنسان نفسه فيها” ـ كما قالت المؤلفة.
في تجربة الحرب، تأكدت حقيقة أساسية، أن من يقاتلون ويدفعون فواتير الدم هم أصحاب الحق الأصيل في البلد، في الصحة والتعليم وحق العمل والترقي بالكفاءة دون تمييز بين امرأة ورجل.
عند منحنيات التاريخ الحادة قد تتلخص المعاني الكبرى في بعض الرجال.
ذات مرة قال الأديب الفرنسي “أندريه مالرو”: “إن كل فرنسي هو ديجولي في مرحلة من حياته على الأقل” المعنى، أن الزعيم الفرنسي “شارل ديجول” لخص الوطنية الفرنسية في ذروة المواجهة الكبرى لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي.
كذلك كان “عبد الناصر” في ذروة حرب المائة والخمسين يوما.






