لم يُعلن أحد رسميًا، أن النظام الدولي قد تغيّر، ولم يصدر بيان، أن القواعد التي حكمت العلاقات الدولية لعقود لم تعد صالحة.

 ومع ذلك، تصرّفت القوى الكبرى طوال عام 2025، كما لو أن واقعًا جديدًا قد فُرض بالفعل، واقع لا ينتظر التسمية، ولا يحتاج إلى اعتراف صريح.

 بدا العالم، كأنه يتحرك وفق منطق مختلف تماما، من دون أن يتوقف أحد؛ ليشرح متى بدأ هذا التحول ولماذا؟ أو كيف جرى تثبيته؟

اللافت في هذا العام لم يكن فقط تصاعد الأزمات، بل طريقة إدارة القرارات في ملفات مختلفة، وبدا إحساس بأن الوقت لم يعد يسمح بالمسارات التفاوضية الطويلة، ولا النقاشات المفتوحة، ولا الوساطات المعقّدة.

 القرارات اتُّخذت بسرعة غير مسبوقة، وتقدّم الحسم على الحوار، وغابت اللغة الإجرائية التي اعتادت المؤسسات استخدامها لتبرير أفعالها.

و بدا كأن القوة لم تعد استثناءً، بل واقعًا للتعامل رغم انف الجميع.

في هذا السياق، لم تختفِ المؤسسات الدولية، لكنها لم تعد تحتل الموقع نفسه ولا القدرة التي ألفناها تبعا لمسئولياتها، بل ظهرت أحيانًا كواجهة شكلية لا أكثر، تُستدعى بعد اكتمال الفعل، لا قبله.

أما القانون الدولي، فبدا أقرب إلى مجرد شعار مرن، يُستحضَر عند الحاجة، لا مرجعية حاكمة وضابطة لاتخاذ القرار.

 لم يعد معيار الفعل هو التوافق أو الشرعية، بقدر ما أصبح مرتبطًا بالقدرة على التنفيذ وتحمل تبعاته والفرض على المجتمع الدولي.

من هنا يفرض السؤال نفسه، لا بوصفه خاتمة للعام، بل مدخلًا للتفكير:
هل كان عام 2025 مجرد عام استثنائي لكسر المألوف؟
أم أنه اللحظة التي تغيّر فيها منطق الحكم الدولي في العالم؟

الولايات المتحدة.. من يصنع القرار في الدولة التي تقود العالم؟

السلوك الأمريكي على امتداد عام 2025، لم يأتِ من فراغ، ولم يبقَ بلا صياغة رسمية، فكل ما مرت به الولايات المتحدة من قرارات عاصفة على يد الرئيس دونالد ترامب، جعلت الجميع يتساءل عن مصير أكبر دولة مؤسسات في العالم.

 في نهاية العام، ظهرت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة لا بوصفها إعلانًا عن مسار جديد، بل كتلخيص متأخر، لما كانت الدولة تمارسه فعليًا منذ شهور.

اللغة التي حملتها الوثيقة لم تُفاجئ من تابع الأداء الأمريكي على مدار العام، بل بدت كأنها تضع إطارًا نظريًا لسلوك سبقها،  تقليص الانخراط غير الضروري، أولوية المصالح المباشرة، والاحتفاظ بحرية الحركة بوصفها عنصرًا مركزيًا في ممارسة القوّة

بهذا المعنى، لم تكن الاستراتيجية لحظة تأسيس، بل لحظة تثبيت. لم تُغيّر الاتجاه، بل منحته شرعية مكتوبة، وحوّلته من سلسلة قرارات ظرفية إلى تصور مُعلن لكيفية إدارة القوّة في عالم مضطرب. الوثيقة لم تُقيد القائد، لكنها وفّرت له لغة دولة، تُبرّر الفعل السريع وتُقدّمه كخيار عقلاني لا كمغامرة، كما كان البعض يتصور.

غير أن هذا التثبيت لم يمرّ من دون ردّ مؤسسي مدروس وبدقة، فبعد صدور الاستراتيجية، تحرّك الكونجرس الأمريكي باتجاه مغاير في الجوهر، لا في الخطاب. التشريعات التي صدرت عبر الكونجرس لاحقًا اقرت تقييد قدرة السلطة التنفيذية على تقييد الانتشار العسكري، خاصة في أوروبا وآسيا،

وكذلك تثبيت الالتزامات العسكرية طويلة الأمد في الساحات الأمنية التي تعتبرها المؤسسة الأمنية نقاط تماس، لا يجب الإضرار بها، وربط التمويل بساحات بعينها، سعى الكونجرس إلى منع تحوّل مرونة القائد إلى تفكيك فعلي للبنية المؤسسية للدولة بدون مواجهات عاصفة.

هنا يتّضح توزيع القوّة داخل النظام الأمريكي، القائد يملك لحظة إطلاق القرار، تحديد الإيقاع، وصناعة الصورة العامة. في المقابل، تملك المؤسسة التشريعية الأمنية في تثبيت المسار دون انعطافات حادة، تهدد استقرار العلاقات الخارجية.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا من صاحب القرار الفعلي؟   

الإجابة لا تكمن في المفاضلة المباشرة، بل في فهم الوظيفة. القائد أقوى في اللحظة، والمؤسسة أقوى عبر الزمن. الصورة التي تصل إلى الخارج هي صورة القائد وقراره، لكن ما يبقى بعد تغيّر الإدارات هو ما ثبّته المؤسسة بالقانون والتمويل والالتزام. هكذا تحافظ الدولة الأمريكية على مؤسسية، لا تمنع تغوّل الفعل، لكنها تُحاول احتواء نتائجه.

في هذا الإطار، لا تبدو الولايات المتحدة نموذجًا لانفلات القائد باستعمال القوة كما يبدو لا لانتصار المؤسسة، بل نموذجًا لنظام يسمح بتقدّم صورة القرار على آلياته، من دون أن يتخلى تمامًا عن تلك الآليات. القوّة تُمارَس أولًا، ثم تُدار لاحقًا.

 وما بين الفعل والتثبيت، يتشكّل شكل الحكم الأمريكي في 2025: دولة تقبل المجازفة، لكنها لا تسمح بانفلاتها الكامل.

روسيا والصين: بين الممانعة والاستعراض

ما جمع موسكو وبكين في 2025، لم يكن تنسيقًا معلنًا، بل تشابها واضحا في منطق الفعل.

في الحالتين، شاهدنا نمطا متكررا، القرار يُنفَّذ أولًا، ثم يُترك للآخرين تفسيره أو التكيّف معه.

 لم يتم تقديم التنازلات بوصفها حقًا للطرف الآخر، بل كخيار مشروط قد يتحوّل إن تحقق إلى مكسب متبادل. أما الضغط، فلم يُستخدم لفتح مسار تفاوضي، بل لتوسيع مساحة الاستعراض أو الممانعة، بحسب السياق.

في هذا الإطار، لم تكن تايوان ملفًا منفصلًا، بقدر ما كانت مسرح اختبار.

اختبار سرعة ردّ الفعل الغربي، وحدود الردع دون الانزلاق إلى حرب، واختبار إلى أي مدى يمكن إدارة قضايا سيادية بالقوّة المتدرّجة.

على مدار العام، تكثّفت المناورات العسكرية حول الجزيرة، واتسعت دوائر التحليق والانتشار البحري، وظهرت إجراءات تُحاكي الحصار المرحلي، أكثر مما تحاكي الضربة الواحدة.

 التوقيت كان دقيقًا، كل تصعيد جاء متزامنًا مع تحركات سياسية دولية أو إشارات دعم غربية لتايوان.

 الرسالة لم تُقدَّم بوصفها تهديدًا فوريًا، بل كاختبار حدود، إلى أي مدى يمكن دفع الواقع دون إطلاق الحرب؟

في المقابل، لم تُسجَّل مؤشرات على فتح ملف تايوان للتفاوض السياسي بمعناه التقليدي. ما ظهر هو إدارة للملف بالقوّة الرمزية والعملية معًا: فرض الإيقاع، وتوسيع مساحة السيطرة الفعلية، وترك الخصوم أمام خيارين أحلاهما مُكلِف التصعيد أو القبول بالأمر الواقع المتدرّج هذا النمط وصفه توماس فريدمان: عالم بات أسرع من قدرته على الفهم. حيث لا تستخدم القوة لإغلاق الملفات، بل لفرض إيقاع مربك في الاستجابة لدى الطرف الآخر.

 هذا المنطق نفسه ظهر في السلوك الروسي: ليس الدفاع عن ملف بعينه، بل تثبيت قاعدة عامة مفادها أن من يفرض الواقع يفرض شروط النقاش وهو ما فرضته موسكو في كل جولات التفاوض المختلفة التي خاضتها فيما يخص أوكرانيا هذا العام

على الناحية الأخرى، جاء الاستعراض العسكري الصيني الضخم بحضور قادة وممثلي دول كبرى؛ ليُكمل الصورة.

لم يكن العرض مجرد احتفال عسكري، بل رسالة سياسية مكتملة العناصر: قدرة وجاهزية، حضور دولي يتابعه العالم، وقوّة تشاهد علنًا لا للاستخدام الفوري، بل لترسيخ ميزان ردع جديد لقطب جديد.

 التوقيت والحضور ونوعية العتاد، تم تقديمه بعناية في هذا العرض، لتقول إن القوّة قائمة معلنة قابلة للترجمة عند الحاجة.

في هذا السياق، لا يبدو السلوك الروسي– الصيني تعبيرًا عن “قادة أقوياء” بقدر ما هو انعكاس، لما يصفه الكاتب فريد زكريا بأزمة النظام لا أزمة القادة.

 حين تفقد القواعد قدرتها على الضبط، يملأ الفاعلون الفراغ بسلوكيات متشابهة، حتى دون تنسيق. القوّة هنا ليست انحرافًا عن النظام، بل نتاج فراغه

في 2025، رجحت كفّة “فرض الواقع” لدى موسكو وبكين على أي منطق تفاوضي تقليدي، دون أن يتحوّل ذلك إلى اندفاع نحو حرب كبرى، وهو ما يجعل القوّة هنا أداة توسعة للعلاقات، تستثمر في عنصر الوقت.

ما تغيّر في 2025، ليس ميزان القوّة فقط، بل موقعها داخل عملية الحكم نفسها: من أداة تُستخدم عند تعثّر السياسة، إلى لغة تُدار بها السياسة منذ البداية.

أوروبا: القوّة كاستجابة للخوف الوجودي

في 2025، لم تتحرّك أوروبا بدافع الطموح، بل تحت ضغط الخوف.

 الخوف من الحرب على حدودها الشرقية، من انكشافها العسكري، ومن تراجع المظلّة الأمريكية العابرة للأطلسي أو تذبذبها.

هذا الخوف هو الذي دفع القارّة، خطوة بعد أخرى، إلى تبنّي منطق تعزيز القوّة بعد عقود من الارتهان لمنطق القواعد والوساطة والتبعية.

التحوّل الأوضح كان نحو تبنى منطق تعزيز القوة والاندفاع نحو بناء قدرة دفاعية أوروبية مشتركة.

لم يعد الحديث عن “التكامل الدفاعي” مجرد فكرة مؤجلة أو مشروع بيروقراطي بطيء، بل جرى التعامل معه كضرورة أمنية عاجلة. إعلانات متتالية عن تنسيق صناعات السلاح، وزيادة الإنفاق العسكري، والحديث الصريح عن نواة جيش أوروبي، عكست إدراكًا جديدًا: الاعتماد المطلق على الترتيبات العابرة للأطلسي، لم يعد كافيًا لضمان الأمن الأوروبي.

على التوازي، تغيّر موقع الوساطة في السلوك الأوروبي. لم تختفِ، لكنها فقدت مركزيتها.


في الحرب الأوكرانية، انتقلت أوروبا من البحث عن تسوية سياسية شاملة، إلى دعم عسكري طويل الأمد، اتفاقات دفاع ثنائية، والتزام مفتوح بمنع الخسارة بدل السعي إلى إغلاق الملف تحت مسمى  “إدارة ميزان الاستنزاف”. السؤال الحاكم لم يعد «كيف ننهي الحرب؟» بل «كيف نمنع اختلال الميزان؟».

 في هذا الإطار، أصبحت الوساطة مسارًا ثانويًا؛ لأن الزمن لم يعد يسمح بها كأداة أولى.

هذا التحوّل تكرّر في ملفات أخرى عبر تقديم أدوات الضغط السريع على المسارات التفاوضية الطويلة، عقوبات فورية بدل انتظار نضج سياسي، اصطفافات واضحة بدل إدارة مناطق رمادية، وقرارات تُتخذ ضمن تكتلات متقاربة بدل إجماع كامل. هكذا تراجعت الأطر متعددة الأطراف لحساب ترتيبات أصغر وأسرع، لأن الردع يحتاج سرعة، بينما الوساطة تفترض صبرًا وغموضًا ومسارات متوازية، وهي عناصر اعتُبرت عبئًا في عام 2025.

ظهر هذا التحوّل بوضوح في الطريقة التي تعامل بها الغرب، لا سيّما أوروبا، مع ملف الحرب في أوكرانيا خلال عام 2025. فبعد أعوام من المراوحة بين حديث عن مفاوضات ممكنة وتسويات مؤجلة، تغيّر النهج بصورة جذرية: عقوبات تُفرض وتُوسع بشكل فوري دون انتظار انفراج سياسي، ودعم عسكري مباشر ومستدام، بدلًا من التلويح بحلول تفاوضية، وقرارات تُتخذ داخل دوائر مغلقة بعيدًا عن قنوات الدبلوماسية المعتادة.

في غزة، ظهر هذا المنطق بوضوح مختلف.

 لم تمتلك أوروبا أدوات ضغط صلبة لفرض مسار تفاوضي، ولم تنجح في لعب دور الوسيط الذي يفرض الحسم، فانتقلت بعض دولها الى الرمزية السياسية كأداة ضغط بديلة، لا كحلّ. لم يُنهِ ذلك الانحيازات، لكنه كشف محاولة لاستعادة هامش تأثير في ساحة، تحوّلت إلى قضية قوّة حين تغيب القدرة على الوساطة الفاعلة، تتحوّل الرمزية إلى سياسة.

اقتصاديًا وعسكريًا، انعكس هذا التحوّل بوضوح في سوق السلاح الأوروبي. ألمانيا انتقلت من ضبط النفس العسكري إلى إعادة تسلّح واسعة عبر صندوق دفاعي ضخم وبرامج تحديث عاجلة، فيما دفعت دول شرق أوروبا، وعلى رأسها بولندا، نحو سباق تسليح كثيف، باعتباره سياسة بقاء لا خيارًا سياسيًا.

في المقابل، استخدمت فرنسا صادرات السلاح وبرامج التسليح المشتركة لتثبيت موقعها كفاعل أمني مركزي داخل القارة، بينما تحوّل الاتحاد الأوروبي نفسه من إطار تنسيقي إلى مشترٍ جماعي للذخائر والتجهيزات لتعويض الاستنزاف ودعم الردع. هكذا لم يعد السلاح أداة دفاعية فقط، بل عملة سياسية واقتصادية لإعادة ترتيب العلاقات داخل أوروبا ومع محيطها، في لحظة تقدّم فيها الردع على الوساطة، والجاهزية على الانتظار..

هذا المسار يلتقي مع ما يرصده روجر كوهين من داخل التجربة الغربية نفسها:” تراجع الإطار القيمي بوصفه قيدًا سابقًا على الفعل “فيقول: في 2025، تقدّم القرار الأمني، ثم جاءت اللغة الأخلاقية لاحقًا لتبريره أو تخفيف حدّته.

 وهذا ينسجم طرحه مع طرح فريد زكريا حول أزمة النظام لا أزمة القادة: حين تضعف القواعد، لا ينهار النظام دفعة واحدة، بل يُفرَّغ من داخله، وتتحوّل القواعد من ضمانة إلى عبء في مواجهة الخطر.

الشرق الأوسط: القوّة كبديل عن الشرعية… وغزّة كنقطة كشف

في 2025، لم يعد الشرق الأوسط ساحة اختبار للنوايا أو للتسويات المؤجّلة، بل مساحة تُدار بمنطق القوّة المباشرة.

برزت غزة بوصفها نقطة الكشف الأوضح. لم تكن مجرّد أزمة إنسانية أو ملف تفاوضي، بل تحوّلت إلى قضية قوّة عارية: من يسيطر ميدانيًا؟ من يتحكّم بإيقاع النار؟ ومن يفرض شروط الإدخال والمنع؟ محاولات الوساطة لم تختفِ، لكنها لم تعد قادرة على ضبط المسار، إذ بات الفعل العسكري يسبق أي إطار سياسي، وتُستدعى اللغة الدبلوماسية لاحقًا لتفسير وتبرير ما وقع لا لتقييده.

في هذا السياق، أعادت دول الإقليم ترتيب أولوياتها، خاصة بعد ضرب الدوحة، فلم يعد الرهان على حلول شاملة بل على إدارة المخاطر: تحصين الحدود، ضبط الامتداد ومنع انتقال الصراع الى أراضيها، هكذا تقدّمت الحسابات الأمنية على أي مسار سياسي طويل النفس.

المشهد الإقليمي الأوسع عزّز هذا التحوّل. المواجهة بين إسرائيل وإيران خلال العام لم تتّخذ شكل حرب شاملة، لكنها كشفت عقيدة حكم وأمن لدى الطرفين: ضربات محسوبة تحت عتبة الحرب، استهداف مفاصل القدرة، وحرب استخباراتية تُدار لإبطاء الخصم ورفع كلفة استمراره. الاغتيالات هنا لم تكن أحداثًا منفصلة، بل أدوات ضمن صراع قوى متبادل، يُدار بالزمن والإنكار والتدرّج، مع إبقاء الباب مفتوحًا لجولة ثانية، تُستخدم فيها القوّة لفرض الوجود لا لإغلاق النزاع.                                                  

إقليميًا، انعكس ذلك في سباق تسلّح وتحوّط أمني. صفقات دفاعية، ترتيبات ردع، وتفاهمات أمنية ثنائية باتت تحلّ محل الصيغ الجماعية الهشّة. القوة العسكرية والأمنية أصبحت اللغة المشتركة التي تُعاد عبرها هندسة العلاقات، بينما تراجعت الشرعية إلى موقع الخطاب المرافق لا المُنظِّم.

هذا المسار لا يُفهم بوصفه مفاجئًا، بل كنتيجة لتآكل طويل في أدوات الحكم التقليدية. ومع ضغط الزمن وتراكم الصدمات، بدا أن المنطقة دخلت مرحلة تُدار فيها السياسة بمنطق “منع الخسارة” لا “تحقيق المكاسب”، حيث تُستخدم القوّة لضبط الانفلات لا لبناء تسويات مستدامة.

في 2025، كشف الشرق الأوسط وغزة في قلبه، أن القوّة حلّت عمليًا محل الشرعية كأداة حكم. الفعل يسبق الإطار، والردع يسبق الوساطة، وتُدار الصراعات لإبقائها تحت السيطرة لا لإنهائها، في مسار يُمهّد لجولات قادمة، تُحسم فيها المواقع لا الملفات.

التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.. السرعة والبيانات أدوات حكم

في 2025، لم تعد التكنولوجيا خلفية محايدة للصراع، بل ساحة قوّة قائمة بذاتها. القرار لم يُصنع فقط في غرف السياسة أو القيادة العسكرية، بل عبر أنظمة تُقاس فيها السرعة، وتُدار فيها البيانات، وتُختصر فيها المسافة بين الرصد والفعل.

 هنا، لم تعد القوّة تعني امتلاك السلاح فقط، بل امتلاك الزمن نفسه، وهو ما وصفه توماس فريدمان مرارًا بوصفه عالمًا، أصبح أسرع من قدرة البشر والمؤسسات على الفهم.

برزت الحروب السيبرانية بوصفها جبهة دائمة منخفضة الضجيج. لم تُعلن حروب رسمية، لكن تعطيل البنى التحتية، واختراق الشبكات، والتلاعب بالأنظمة، بات جزءًا من إدارة الصراع اليومية. قوّة لا تحتاج إلى إعلان عن نفسها؛ لأنها تعمل بعيدا عن عتبة المساءلة.

الذكاء الاصطناعي دخل المشهد بوصفه أداة تسريع لا صانع قرار مستقل. في مجالات الاستطلاع وتحليل البيانات وتوقّع السلوك، تقلّص زمن الفعل إلى حدّ غير مسبوق. هذا التسريع لم يُلغِ المؤسسية نظريًا، لكنه أفرغها عمليًا من قدرتها على الضبط، وهو ما يلتقي مع طرح فريد زكريا حول أزمة النظام لا أزمة القادة: القواعد ما زالت قائمة، لكنها لم تعد قادرة على مجاراة سرعة التنفيذ.

في 2025، أصبحت التكنولوجيا، وخاصة الذكاء الاصطناعي محرّكًا صامتًا لمنطق القوّة، خاصة في ساحة الحرب واتخاذ القرار.

 السرعة صارت سلطة، والبيانات موردًا سياديًا، والخوارزميات قلّصت المسافة بين الرصد والتنفيذ، على حساب الضبط المؤسسي والمساءلة، ممّا يجعل عالم القوّة القادم أكثر فاعلية… وأقل قابلية للمحاسبة.

2025.. الفعل يسبق العقل والقانون

لم يُعلن أحد أن عام 2025 هو عام القوّة، لكن الوقائع تعاملت معه كذلك.

 ما رُصد عبر الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وأوروبا، والشرق الأوسط، وإسرائيل وإيران، ثم في ساحة التكنولوجيا، لم يكن تشابهًا عَرضيًا، بل تراكُبًا متزامنًا لمسارات انتهت إلى النتيجة نفسها:الفعل يسبق القاعدة، والقرار يسبق صنع الإطار، والسرعة لا تدع مجالا للضبط.

طبقها عزيزي القارئ على سلوكيات القادة، وستفهم بوضوح معنى عام القوة.

في هذا العام، لم تختفِ المؤسسات الدولية، لكنها تحرّكت في معظم الملفات بعد أن تغيّر الواقع.

 مجلس الأمن صوّت ولم يحسم، القضاء الدولي قال ولم يُلزِم أحد، الوساطة حضرت، ثم تراجعت أمام الترتيبات الأمنية المباشرة.

في المقابل، تقدّمت أدوات القوة العسكرية والاقتصادية والرقمية لتفرض الوقائع، ثم تُدار تبعاتها سياسيًا وقانونيًا لاحقًا.

النمط لم يقتصر على أنظمة بعينها، ولا على أقاليم محددة. اختلفت الدوافع وتباينت الأدوات، لكن المنطق واحد، في واشنطن صراع بين من يطلق القرار ومن يثبّته. في موسكو وبكين، فرض واقع قبل تسميته، واختبار حدود الرد دون حرب. في أوروبا، ردع واستعداد واعترافات سياسية كضغط، بدافع الخوف لا الهيمنة. في الشرق الأوسط، إدارة صراعات بالقوّة، وغزة كقضية ميزان لا تسوية، بين إسرائيل وإيران، حرب استخبارات وضربات تُنتج واقعًا، ينتظر جولة ثانية. وفي التكنولوجيا، سرعة تسبق التشريع، وسيبرانية وسرد ورقائق تُعيد تعريف السيادة.

هنا، لا يعود السؤال من يملك القوّة؟ بل من يضبطها حين تخرج عن الطوق؟ فالخطر الذي كشفه 2025 ليس صعود القوّة في حد ذاته، بل اختلال التوقيت بين الفعل والرقابة.

حين يصبح زمن الخوارزمية أسرع من زمن التشريع، وزمن الضربة أسرع من زمن التحقق، وزمن الصفقة أسرع من زمن الوساطة، تتراجع القدرة على المساءلة، دون أن تختفي نصوصها.

لم يكن هذا التحول غائبًا عن المجال الفكري. خلال الفترة نفسها، صدرت كتب وتحليلات من زوايا مختلفة، تلتقي عند أسئلة متقاربة: تآكل الدولة المؤسسية، صعود القرار الفردي، الحكم عبر الطوارئ، وإدارة المجتمعات بالقوّة أو السرعة.

هذه الكتب لم تصنع الوقائع، لكنها التقطت الإشارات المبكرة، لما أصبح في 2025 سلوكًا مُشاهَدًا. ومرايا تُظهر أن الفكرة كانت تتشكّل قبل أن تُرى كاملة.

ما بعد 2025: هل تنجح المؤسسة في كبح انفلات القوة؟

بعد هذا العام، لم يعد الرهان على “عودة بسيطة للقواعد”.

 الرهان الحقيقي هو، هل تستطيع القواعد أن تبتكر سرعةً تُوازي سرعة القوّة؟ سيظل السؤال مفتوحا، لأن الحكم عليه سيقرره ما هو قادم من ضبط مؤسسي أو انفلات القوة.