لا يختلف اثنان على ما يدور في الأفق السياسي العام؛ بشأن ما يحدث في انتخابات مجلس النواب الحالية، وبشكل أخص بعد ما أبداه رئيس الدولة من ملاحظات بالسلب على المسار الديمقراطي للعملية الانتخابية، وهو الأمر الذي أفرز، سواء من خلال الهيئة الوطنية للانتخابات أو عن طريق القضاء ممثلاً في المحكمة الإدارية العليا من بطلان ما يقارب 70% من الدوائر في المرحلة الأولى من الانتخابات، بخلاف ما تم إحالته من طعون إلى محكمة النقض، بحسب الاختصاص، كما أن أكثر المعلقين على هذه الانتخابات، وأعظم ما تناولته الأقلام، أن هذه الانتخابات لم تشهد إقبالًا قويا أو معتدلًا، كما لم تشهد تواجدا حقيقيا للأحزاب المعارضة، سواء من خلال القائمة الوطنية التي حسمت نصف مقاعد مجلس النواب دون جهد انتخابي حقيقي، يعبر عن حالة الديمقراطية، ولا من خلال التنافس على المقاعد الفردية، والتي شهدت مغالبة لأعضاء الأحزاب الكبرى القريبة من النظام الحاكم، إضافة إلى بعض المستقلين، والذين لن يختلف وجودهم عن المنتمين لأحزاب السلطة.

وإذ أن الأمر لا يوحي بقدوم مجلس نواب، بشكل يعبر عن حقيقة الإرادة الشعبية في ظل وجود خافت للناخبين من أصله، حيث لم تتجاوز النسب بشكل كبير ربع الناخبين في معظم الدوائر الانتخابية.

وإذ إنه بعد الجولة الأولى للانتخابات بدأت تتعالى الأصوات المطالبة بمراجعة النظام الانتخابي، والمتمثل في قانون مجلس النواب، وبشكل محدد، القائمة المغلقة، والتي طالب العديد من الكتاب، حتى ومن قبل الانتخابات ومن خلال جلسات الحوار الوطني، بعدم تناسب ذلك النظام الانتخابي مع الواقع المصري، كما أنه يحسم أمر الأغلبية البرلمانية لصالح فئة محددة، وهو ما يعوق مسيرة الحق في المشاركة السياسية، وكذلك نظام الدوائر الانتخابية المصاحبة لهذا النظام لاتساعها المفرط، بما لا يسمح بتواجد حقيقي للنواب بين الناخبين، كما أنه من البدء لا يسمح بتواصل حقيقي ما بين الناخب والمرشح.

وإذ إن الحق في المشاركة السياسية يعد من أهم الحقوق المرتبطة في المجال العام؛ لكونه يشمل الحق في الترشح والانتخاب وحق تقلد الوظائف العامة، وهو بقول مغاير مساهمة المواطنين في النظام السياسي، وبلغة علمية فقد عرفها صاموئيل هنتنجتون، بأنه يعني ذلك النشاط الذي يقوم به المواطنون بقصد التأثير في عملية صنع القرار الحكومي، سواء كان نشاطاً فردياً أم جماعياً منظما أو عفويا، متواصلاً أم منقطعاً، وهو شكل مهم من أشكال الممارسة السياسية، تتعلق ببنية النظام السياسي وآليات عمله، ومن زاوية مغايرة فإن المشاركة السياسية تُعد من المؤشرات الدالة على مدى نضج المجتمع، بما يتيحه من فرص للانخراط في نشاطات الحياة العامة وممارسة الحقوق المدنية والسياسية المكفولة دستورياً وحقوقياً. كما أن المشاركة في الشأن العام، هو ذلك الحق الذي بمقتضاه يساهم المواطنون بشكل أو بآخر في إدارة شؤون بلادهم في كافة أمور الحياة السياسية العامة، ويمثل حق المشاركة في الحياة السياسية والعامة عنصراً مهماً في تمكين الأفراد والجماعات، وهو أساسي للقضاء على التهميش والتمييز. ولا تنفصل حقوق المشاركة عن حقوق الإنسان الأخرى مثل الحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، والحق في حرية الرأي والتعبير والحق في التعليم والحق في الحصول على المعلومات.

وفي ظل الحالة الضبابية التي أفرزتها انتخابات مجلس النواب الحالية عن جدوى الديمقراطية، أو عن مدى ضرورة الحراك السياسي، في ظل انتخابات لم تكن مقنعة في فتح المجال العام لجموع المصريين، وإذا كان الشأن العام لا بد له من مجال عام يتواجد خلاله، ويدور في فلكه، حيث يشكل مفهوم المجال العام المساحة التجريدية التي يتناقش من خلالها المواطنون والجماعات المجتمعية المتباينة، ويتجادلون حول مختلف القضايا والاهتمامات العامة، ووفقاً لهذه الرؤية، فإن المجال العام يفترض وجود مناقشات مفتوحة لكل الاهتمامات العامة، التي يمكن من خلالها أن يوظف الجدل المنطقي؛ للتأكد من تحقيق المصالح العامة، فالمجال العام يحث على حرية التعبير والحوار والمناقشة، ويُؤكد على حق المشاركة في صُنع القرار السياسي في المجتمع، ويشجع المهمشين على الانخراط في الحوار العام حول مختلف القضايا والموضوعات، ويمكننا القول إن فكرة  المجال العام تهدُف إلى إتاحة ساحة من الحرية، تحترم حقوق الأفراد وتزيد من قوة المجتمع، لأن الاتصال الذي يحدث في المجال العام يخلو من الإكراه المؤسسي، كما أن الحوار الذي يتم خلاله، يمكن أن يُؤسس لخطاب ديمقراطي، ويشكل الحوار وسيلة للحفاظ على تحقيق التفاهم وتقريب بين الرؤى والإقناع بضرورة تعديل التصورات الخاطئة، كما تكمن أهمية الحوار في السماح لجميع الأطراف بطرح كل أفكارهم، التواضع واحترام الآخر، الاستماع الجيد وعدم المقاطعة للآخرين، تهيئة المناخ لحوار هادئ.

ومن خلال متابعة العدد المهيب من الطعون المقامة، سواء تم الفصل فيها، أو إحالتها إل محكمة النقض، فإن أمراً كهذا يدق ناقوس الخطر أمام أعين المختصين، وأهل الحل والعقد في السلطة، من أن ذلك المجلس القادم يحمل بين طياته مشاكل بنيوية أكثر من متطلبات الشارع المصري له، وأنه بحالته القادمة والتي أفرزتها انتخابات لا تعبر حقيقة عن قول المواطن المصري وصوته، فإنني أرى المخرج من هذا المأزق قد يتحقق من خلال خطوات قضائية، قد تنهي عمره مبكراً، ويكون ذلك من خلال إحالة إحدى هذه الطعون إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستورية أي من القوانين المنظمة لأمور الانتخابات، وأخصها نظام الانتخاب بالقائمة المغلقة، والتي ستنتهي حتما بعدم دستورية هذه المنظومة التشريعية، التي أفرزها مجلس نواب كان أيضاً معبراً عن رغبات الحكومة ومسايراً لخطواتها وسياساتها، أكبر من تعبيره عن صوت المواطن وشكواه وتطلعاته، وهو الأمر الذي يستتبع حل هذا المجلس، بكل ما يحمله من مساوئ وسلبيات، تقتضي فعلياً حلاً لها ولا تبشر بمستقبل سياسي كبير لهذا المجلس.

وأرى أن هذه الخطوات قد ترضي الشارع العام، وتفتح باباً موارباً ما بين السلطة الحاكمة وبين المواطنين، قد يمنح الحكومة بعضاً من الثقة المفقودة في ظل تردي الأوضاع العامة بشكل عام، مما ينتج بعض الرضا لدى المواطن عن بعض هذه السياسات، أو بعض هذه الهيئات، وهو الأمر الذي يستتبع تبعاً مزيدا من التوسع في المجال العام، وهو الأمر الذي يصب في خانة التعبير، بأن الديمقراطية هي النسق الذي ارتضاه غالبية المجتمع الدولي؛ ليعبر عن أهم مواصفات الحكم السياسي الرشيد، وارتضته معظم أو غالبية النظم السياسية، وهو الذي يؤكد على أن يحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه، كمبدأ عام ، وهذا المنطق هو ما يدعو لأن تكون هناك علاقة قوية ووطيدة ما بين الحكم الديمقراطي وسيادة القانون، حيث لا تعيش الديمقراطية الصحيحة ولا تنمو، إلا بسيادة قانون عادل، يطول جميع المنتمين إلى البلد الديمقراطي، يحدد لكل مواطن مسئول وغير مسئول، سلم الحقوق والواجبات، ويمنع جميع المخالفات على وفق مبادئ واحدة، تسري على الجميع، كما أنه يحدد واجبات السلطات الحاكمة وحدودها، ويبين مدى احترامها لنفاذ حقوق المواطنين.