في سياق متابعة تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وقراءة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2803، أصدر مركز  التنمية والدعم والإعلام “دام” ورقة تقدير موقف تحلل التأثيرات المباشرة للقرار على قطاع غزة، وانعكاساته على القضية الفلسطينية.

 تنطلق الورقة من فرضية مركزية مفادها، أن القرار يمثل انتقالًا من مرحلة “حرب الإبادة” إلى مرحلة “إعادة هندسة” الواقع السياسي والأمني في غزة، بما يتقاطع مع الأهداف الإسرائيلية للحرب.

وتبحث الورقة التي كتبها الباحث عصام شعبان، فرص نفاذ القرار من خلال تحليل تفاعلات القوى الدولية والإقليمية مع الفاعلين الفلسطينيين، وبقاء الأهداف الإسرائيلية المرتبطة بتغيير بنية الحكم في القطاع، ونزع سلاح المقاومة، مع فرض ترتيبات طويلة الأمد تغير واقع القطاع سياسيا وأمنيا.

 وتساهم معالجة القرار لتداعيات الحرب في تسييل وتمييع القضية الفلسطينية وتحويلها إلى عملية إدارة للسكان لا قضية تحرر وطني في مواجهة الاحتلال، ما يهمش الحقوق الفلسطينية، ويخدم مسار الهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط، في ظل اختلال موازين القوة.

وتحدد الورقة فرص سريان القرار وفق ثلاثة محددات رئيسية:

أولًا، مواقف القوى الدولية والإقليمية والتوازنات التي أفرزت القرار. ثانيًا، مواقف القوى الفلسطينية، بما يشمل السلطة والفصائل وقوى المجتمع المدني. ثالثًا، الأهداف الإسرائيلية والأبعاد الأمنية والعسكرية للصراع.

واقع قطاع غزة بعد القرار

ترصد الورقة التحولات العميقة التي فرضتها حرب الإبادة في قطاع غزة، حيث أدى الدمار الشامل وانهيار سبل الحياة إلى جانب اختلال موازين القوى وغياب أوراق ضغط عربية فاعلة، إلى قبول فلسطيني قسري لمبادرة ترامب التي تفرض وصاية أمريكية عبر هياكل دولية لإدارة الأمن والإغاثة والحكم.

وبموجب القرار، جرى تهميش الدور السياسي الفلسطيني لصالح “مجلس السلام” بوصفه هيئة حكم انتقالية، تتولى مهام الإدارة والحكم، إلى جانب أدوار أمنية عبر “قوة الاستقرار الدولية”، بما يؤطر أحد الأهداف المركزية للحرب الإسرائيلية، والمتمثل في تغيير البنية السياسية للقطاع، وليس فقط تحييد القدرات العسكرية.

وتشير الورقة، إلى أن هذا المسار يتزامن مع استمرار الخروقات الإسرائيلية وتنفيذ عمليات تصفية واغتيال ضد المقاومة ومحيطها الاجتماعي، رغم توقيع اتفاق هدنة في إطار سياسة؛ تستهدف تعميق التحولات السياسية وإضعاف القوى الفاعلة، تحت لافتة “نزع التطرف” التي يروج لها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وقد أسفرت الحرب عن 241 ألفًا من الضحايا الفلسطينيين بين شهيد وجريح، إضافة إلى آلاف المفقودين والأسرى، دون أن يترتب على هذه التكلفة العالية، والتضحيات، أي تغيير جوهري في التعاطي مع تداعيات الأزمة، بل يجري محاسبة الغزيين وتجريمهم وإدانتهم.

تغير الهياكل السياسية: إبعاد حماس ورفض عودة السلطة

توضح الورقة، أن التحول السياسي الجاري لا يقتصر على إزاحة حركة حماس عن الحكم، بل يمتد إلى رفض عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، إلا بشروط إصلاحية، تتعلق بالفساد والشفافية وتغيير المناهج التعليمية ووقف مخصصات أسر الأسرى. وقد تبنت هذه الاشتراطات عدة دول بينها: بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وربطت بها التمويل إلى جانب تبني بعض الدول العربية لها.

إعادة تشكيل المشهد

وتخلص الورقة، إلى أن القرار مقرونًا بتداعيات الحرب، يساهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي الفلسطيني عبر فرض آليات حكم بإرادة خارجية من خلال “مجلس السلام” مع غياب التمثيل السياسي الفلسطيني، واقتصار المشاركة الفلسطينية على لجنة تكنوقراطية لتسيير الشؤون اليومية دون تمثيل للقوى السياسية.

ويقارن تقدير الموقف، هذا المسار بالمبادرة المصرية لإنشاء “لجنة مجتمعية” لإدارة غزة، التي طُرحت في ديسمبر 2023، وجرى التوافق عليها فلسطينيًا لاحقًا بعد خلافات ومعارضة حركة فتح، غير أنها تواجه تحفظًا إسرائيليًا، باعتبارها مدخلًا محتملًا لعودة الفصائل إلى المشهد.

وترى الورقة، أن إدارة غزة باتت من أعقد الملفات في ظل الدور الواسع الممنوح لمجلس السلام، وهيمنة أمريكية يصعب قبولها فلسطينيًا، وقد يفتح ذلك الباب أمام صيغ بديلة، مثل توسيع دور اللجنة التكنوقراطية أو فرض وصاية عربية مؤقتة، تقترب عمليًا من أطروحات إسرائيلية غير حكومية، وتخفف عن الاحتلال كلفة إدارة القطاع.

الواقع الميداني والترتيبات المستقبلية للوضع الأمني والعسكري

تشير الورقة إلى الواقع العسكري الميداني، تمركز قوات الاحتلال وسيطرتها على نحو 50– 53% من مساحة قطاع غزة، خاصة في المناطق الشرقية وجنوب شرق القطاع، بما في ذلك محافظة رفح، بينما تتركز بقايا هياكل المقاومة في المناطق الغربية. وبالتوازي، تنتشر مجموعات مسلحة محدودة العدد مناهضة للفصائل في شمال القطاع وجنوبه، قرب قواعد استخباراتية ومحاور عسكرية إسرائيلية.

وترى الورقة، أن هذه المجموعات استغلت الفراغ الأمني، وتعمل كأداة ضغط ضد المقاومة بالتعاون مع الاحتلال، بما يجعلها عاملًا قابلًا للتوظيف مستقبلًا، وفق تطورات الوضع الميداني.

ومن المفترض نظريًا، أن يتم انسحاب إسرائيلي تدريجي مع تشكل القوة الدولية وبدء عملها، يعقبه تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، بما يشمل الإعمار. غير أن ذلك يبقى مرهونًا بحسم مسألة إزالة البنية العسكرية، وهي نقطة خلافية جوهرية بين الأطراف، إذ ترى بعض القوى الإقليمية دور القوة الدولية مقتصرًا على حفظ السلام، بينما ترفض فصائل المقاومة نزع السلاح أو وجود قوات أجنبية، وتطالب بحصر دورها في تثبيت وقف إطلاق النار والحجز بين جيش الاحتلال والمدنيين المحاصرين .

وتتوقع الورقة، أنه في حال فشل التوافق قد يستمر الوضع القائم مؤقتًا، مع انقسام فعلي للقطاع، وفصل بين الشرق والغرب عبر القوات الدولية، مع احتمالات تصعيد لاحقًا، إذا طال أمد هذا الوضع.

الوضع الأمني ومحاولات التكيف بآليات الضبط الاجتماعي

يتسم الوضع الأمني، باستقرار هش؛ نتيجة انهيار حكومة حماس، واستهداف الاحتلال لأجهزة الأمن والشرطة وبنيتها التحتية، بهدف شل أي دور أمني وخلق فراغ وفوضى، في سياق ممارسة عقاب جماعي ضد السكان.

وفي ظل هذا الواقع، تحاول بقايا الأجهزة الأمنية القيام بمهام محدودة؛ لمنع السرقات والتعامل مع مخلفات الحرب، بينما يواصل الدفاع المدني، رغم نقص المعدات والاستهداف المتكرر، جهود انتشال الضحايا. كما تلجأ هياكل حماس إلى التنسيق مع العائلات كآلية للضبط الاجتماعي، مع توسيع دور الشرطة المجتمعية لحل النزاعات.

قوات الأمن الجديدة ومخططات الدمج

ما يزال مصير عناصر الشرطة التابعة للجهاز الحكومي غامضًا، وهناك رغبة إسرائيلية باستبعادهم، في ظل عدم الاعتراف بسلطة حماس. بينما تحاول مصر دمج جزء من هذه القوات مع العناصر التي يجري تدريبها خارج القطاع على مهام الأمن الداخلي، في إطار نص القرار الأممي 2803.

 ويهدف الاتحاد الأوروبي، الذي يمول منذ 2006 بعثة تدريب الشرطة في الضفة الغربية بميزانية تقارب 13 مليون يورو، إلى تثبيت الاستقرار في غزة عبر قوة شرطة مؤهلة بعد الحرب.

ويستند خيار الدمج إلى عدة اعتبارات: منها الاعتراف بالواقع القائم والاستفادة من خبرة عناصر الجهاز السابق لملء الفراغ الأمني وحماية المدنيين والمساعدات الإنسانية. ثانياً، تجنب الصدام مع الفصائل أو التشكيلات القائمة، والحد من آثار تسريح عناصر أمنية نظامية.

أما حال استبعادها وتجاوزها، فان المخاطر مفتوحة ومنها: الصدام بينها وبين القوات التي جرى تدريبها وستدخل القطاع واحتمال تنسيقها مع الجيش الإسرائيلي ومليشيات تابعة له، ما يجعلها هدفا. غير مخاطر نشوء أمن موازٍ، وإنتاج الفوضى، من عمليات النهب والتخريب.

غير ما يمكن أن تفرزه حالة الفراغ الأمني من تعدد مراكز ومجموعات الأمن (أشكال موازية فصائلية وعائلية).

ورغم أن غزة لا تشبه ليبيا أو العراق، من حيث البنية الاجتماعية والسياسية، فإن تجاهل المسألة الأمنية قد يقود إلى سيناريو اضطراب متوسط المدى. وعليه يبرز خيار الدمج الذي طرحته القاهرة، كأقل البدائل كلفة، ويجب الضغط لتنفيذه رغم المعارضة الإسرائيلية، التي ترى في الجهاز الإداري والأمني في حكومة حماس، جزءا من بنية الحركة، تطالب باستبعاده.

الاقتصاد السياسي للإعمار والإغاثة

يربط القرار عملية إعادة الإعمار بتحقيق الاستقرار الأمني، وإزالة البنى العسكرية، وإخراج المكونات السياسية من المشهد، وهي اشتراطات، تبنتها الولايات المتحدة وإسرائيل، ووافقت عليها أطراف عربية مرجح مشاركتها في التمويل.

وقدّر البنك الدولي كلفة التعافي والإعمار بنحو 70 مليار دولار، مقارنة بتقدير سابق ب53 مليارًا قبل عام، في ظل دمار طال نحو 85% من مساكن غزة، إضافة إلى شبكات الطاقة والمياه والصحة.

 كما تُقدّر إزالة الركام البالغ نحو 68 مليون طن، مع ضغوط أمريكية لإسناد المهمة لشركات مرتبطة بإسرائيل، بما يمنحها قدرة إضافية على تدمير الأنفاق.

ويدار صندوق إعادة الإعمار تحت إشراف “مجلس السلام”، ما يجعل التمويل مشروطًا بمهامه وقيادته، ويعزز السيطرة الأمريكية على آليات التنفيذ، مقارنة بتجارب إعمار 2014 و2021 التي شهدت مشاركة فلسطينية أوسع.

وعلى صعيد الإغاثة، يشير تقدير الموقف، إلى تسييس المساعدات وتهميش دور وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، إذ يشرف مجلس السلام على تدفق المساعدات، ما يحولها إلى أداة ضغط مستمرة.

وتشير الورقة، أنه وبعد أشهر من إقرار الهدنة في 10 أكتوبر 2025، بقيت المساعدات دون المستوى المتفق عليه، رغم تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة مجددًا لتنفيذ توصية محكمة العدل الدولية بشأن إدخال المساعدات مع معارضة أمريكية للقرار على الرغم من نص خطة ترامب (البند الثامن) على إدخال المساعدات وتوزيعها عبر الأمم المتحدة ووكالاتها، والهلال الأحمر، مع فتح معبر رفح في كلا الاتجاهين.

سيناريوهات مستقبلية لنفاذ القرار ومستقبل القطاع في المدى القريب

يمثل القرار تحولًا في المقاربة الدولية، من معالجة الصراع بوصفه قضية حقوق وطنية وسياسية، إلى إدارته كملف أمني وإنساني خاضع لإشراف دولي بقيادة أمريكية، وبشروط ترتبط بالأهداف الإسرائيلية.

ويؤسس لإعادة ترتيب الحكم والإدارة والأمن في قطاع غزة بمرجعية ذات تفويض خارجي، وتهميش الدور السياسي الفلسطيني، سواء للفصائل أو حتى للسلطة الفلسطينية، التي تُربط عودتها بشروط، ويحد هذا الإطار من قدرة الفلسطينيين على التحكم في مسار الحكم، والإعمار، وإدارة الموارد والمعابر.

على الصعيد الأمني والعسكري، يكرس واقع السيطرة الإسرائيلية الواسعة على القطاع، مع انسحاب مرحلي مشروط، ويطرح القوة الدولية كأداة لضبط الوضع، مع تباين في تفسير مهامها بين أطراف الصراع، إسرائيل، والدول العربية، والقوي السياسية الفلسطينية. هذا الغموض يجعل احتمالات الاستقرار محدودة، ويزيد مخاطر استمرار السيولة الأمنية واضطراب الوضع على كل الأصعدة.

في ملف الإعمار والإغاثة، يربط القرار التمويل وإعادة البناء بتحقيق معايير أمنية ونزع البنية العسكرية للفصائل، ويضع العملية تحت إشراف دولي مباشر، ما يجعلها أداة ضغط سياسي، ويقيد بدرجة أكبر مهام التعافي، مقارنة بتجارب الإعمار السابقة. ويضعف دور وكالات الأمم المتحدة في المساعدات الإنسانية لاعتبارات سياسية وأمنية، بما يفاقم هشاشة الوضع الإنساني.

وهناك انقسام فلسطيني حيال القرار؛ إذ ترفض بعض بنوده قوى سياسية وأخرى من المجتمع المدني، باعتباره يفرض وصاية دولية، ويكرس فصل غزة عن الضفة، بينما تتعامل معه السلطة الفلسطينية كمسار لاستعادة دورها السياسي وتجنب العزلة الدولية. وقد يؤدي هذا التباين إلى تعميق الانقسام، رغم وجود مسار محتمل لتفاهمات تحت ضغط الواقع.

تخلص الورقة إلى طرح سيناريوهين رئيسيين لمستقبل غزة:

الأول، استقرار نسبي وتعافٍ بطيء مشروط بتوافق فلسطيني محدود ودور عربي ضاغط وتراجع نسبي للوجود العسكري الإسرائيلي.

الثاني، تكريس الأمر الواقع، واستمرار الاحتلال الجزئي، وتعطيل الإعمار، واستخدام المساعدات كأداة ضغط، بما يمهد لاحتمالات عودة التصعيد.

وتؤكد الورقة، أن مستقبل قطاع غزة، في ظل القرار 2803 سيبقى رهينًا بالتوازنات الخارجية، وبقدرة الفاعلين الفلسطينيين والدول العربية على تقليص كلفة ما يفرضه القرار من الوصاية الدولية، وتحقيق النقاط الخاصة بالمطالب الفلسطينية وتقريب وجهات النظر بين الفصائل والقوى السياسية.

لقراءة الورقة كاملة: