بعد أيام قليلة تنتهي الانتخابات البرلمانية، الملاحظة الشكلية الرئيسة بشأنها، أنها هي أطول انتخابات في تاريخ مصر. قد يلتمس القارئ عذرا لكل غريب عن المشهد المصري حين يقرأ تلك الملاحظة آنفة الذكر، لأنه سيعتقد أن تلك الانتخابات هي الأكثر نزاهة وديمقراطية في تاريخ مصر الحديث. موضوعيا، ترتبط مدى نزاهة أي انتخابات بكافة الأوضاع المتصلة بالتدخلات غير الطبيعية في العملية الانتخابية ماديا ومعنويا، بما يُفضي إلى تغيير النتائج أو العبث فيها، بشكل يُسفر عن تغيير واضح في هيكل العضوية في المجالس التشريعية في هذا الإطار، نكون أمام سلوك غير نزيه يتصل بتصرفات طرف أو بعض أو كل من: إدارة الانتخابات، المرشحون، الناخبون.
أساليب مصرية للتزوير لم تعد قائمة
بداية تتحتم الإشارة إلى أن الأساليب المصرية السابقة التي كان يتم بها تزوير إرادة الناخبين من تلاعب في أعمال الاقتراع عبر أدوات كتلك المرتبطة بتقسيم الدوائر الانتخابية لصالح حزب دون آخر، وأعمال مثل إخفاء صناديق الاقتراع، والتدخل الأمني المباشر؛ لمنع الناخبين من الوصول إلى مقرات الاقتراع، وتسجيل أصوات لبعض الناخبين، وهي ليست لهم عبر أساليب عديدة، منها العبث بسجلات(جداول) الناخبين أو قاعدة البيانات وغيرها. كل ما سبق من أمور وغيره من أساليب ووسائل تقليدية، كان قائمًا حتى وقت قريب، لم يعد موجودا، عقب أحداث 25 يناير 2011.
لقد أصبحت الدولة المصرية في غنى عن تنفيذ تلك الأساليب بعد المقرطة المؤقتة التي حلت بقواعد الانتخابات عقب تلك الأحداث مباشرة، وعقب اتباع أساليب جديدة مبتكرة بعد عدة سنوات من تلك الأحداث، كسن قانون الانتخاب عبر أسلوب الكتلة الحزبية أو ما يسمى إعلاميا بالقائمة المطلقة، وهو الأسلوب الذي تتحكم السلطة من خلاله في شكل العضوية بالبرلمان.
لقد أثمرت عملية تقسيم الدوائر في انتخابات 2025 رغم صعوبتها في مصر، بسبب عدم تناسق التوزيع السكاني مع الرقعة الجغرافية، عن تقسيم أكثر عدالة من التقسيم القائم منذ الأخذ بأسلوب القائمة المطلقة، رغم المثالب الجمة من اتساع الدوائر في تلك القائمة، إذ لم تعد هناك فوارق كبرى بين عدد الناخبين وعدد مشرعيهم في البرلمان، وهو أمر يحسب للدولة وللتشريع الذي سنه للبرلمان في هذا الصدد، ونُشر في الجريدة الرسمية يوم 4 يونيو 2025 باسم قانون 85 لسنة 2025 لتعديل بعض أحكام قانون مجلس النواب 46 لسنة 2014، وأحكام القانون 174 لسنة 2020 بشأن تقسيم دوائر انتخابات مجلس النواب.
أسوأ أسلوب انتخابي عرفه العالم
لكن رغم هذا النجاح، بقى النكوص- آنف الذكر- الذي نال من نزاهة انتخابات مجلس النواب 2025. إذ أنه وبدلا من أن تقوم الدولة بالانغماس عبر استخدام أشكال التدخل التقليدية آنفة الذكر، تم استخدام وسائل أخرى، بدت مشروعة من حيث الشكل فقط. عبر تلك الوسائل، تم التحكم بالفعل في طبيعة العضوية في مجلس النواب. هذا الأمر حدث– كما ذكر آنفًا- من خلال بقاء أسوأ وأبغض تشريع انتخابي عرفه العالم، كونه يُتيح أسلوبا انتخابيًا ينتمي لعائلة النظام الأغلبي، هو القائمة المطلقة مع الفردي، وقد حدث ذلك منذ انتخابات 2015، وزاد وطأته بزيادة نسبة القائمة المطلقة إلى الفردي في انتخابات عامي 2020 و2025 وذلك من 21%:79% في الانتخاب الأول إلى 50%: 50% في الانتخابين الأخيرين. وهو نظام تزوير مقنن لإرادة الناخبين قولا وفعلا.
دور مهمش لرقابة المجتمع المدني
من ناحية أخرى، كان للمجتمع المدني في تلك الانتخابات دورا مهما، فيما يتعلق بنزاهة الانتخابات، وكان لهذا الدور زاويتان متناقضتان. الزاوية الأولى، الرقابة على نزاهة العملية الانتخابية من خلال المؤسسات المصرية والدولية ووسائل الإعلام وغرف المتابعة الخاصة ببعض الأحزاب السياسية. هنا تمت عملية متابعة الانتخابات ومدى سلامتها، خاصة أثناء وبعد عملية الاقتراع. وكان بعض مواقف تلك المؤسسات، رغم ملاحظاتها الكثيرة لم يشكك- كالغالبية العظمى من تلك التقارير التي تصدُر بشأن الانتخابات التي تجريها عديد النظم السياسية حول العالم- في النزاهة العامة للعملية الانتخابية، إلى حد عدم الاعتراف بها. لكن الأمر بدا مقلقًا للإجراءات والاشتراطات الكثيرة والمانعة للتصويت بحرية، والتي شاركت فيها الهيئة الوطنية للانتخابات، التي ما فتأت أن تضع قيودا على “رقابة” المجتمع المدني المصري والدولي، أو ما يحلو للمشرع ولإدارة الانتخابات، أن يسمونه بـ”المتابعة”، وهي مفهوم مقصود منه عدم الانغماس في رقابة جادة على الانتخابات. وقد لاحظنا كيف أن قاضي الصندوق تورط في شجار مع مرشحين، أتوا للرقابة على الانتخابات، فما بالنا بتصرفاتهم مع مؤسسات المجتمع المدني (نموذج طلعت خليل بالسويس، ولميس خطاب في الظاهر). الزاوية الثانية لدور المجتمع المدني، وفقا لما ذكرته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وغرف متابعة بعض الأحزاب السياسية، كانت عبر استخدام بعض أحزاب الموالاة للسلطة وبعض المرشحين المستقلين لمؤسسات المجتمع المدني غير المسجلة لدى الهيئة الوطنية كمتابع للعملية الانتخابية، في رشاوى الناخبين لحثهم على الاقتراع لصالح تلك الجهات، وقد تم ذلك في مرحلتي الانتخاب.
سلوك إدارة الانتخابات أضعف المشاركة
وغير التشريع بدا سلوك الإدارة الرسمية للانتخابات غامضا ومستعصيا على الفهم من عدة جوانب، يذكر منها جانبان إحداهما شكلي والآخر مضموني. الجانب الشكلي، هو عدم الشفافية وعدم الوضوح في إصدار الإحصاءات والبيانات الكافية لنتائج الانتخابات، كما كانت تفعل اللجنة العليا للانتخابات. إذ باستثناء القائمة الفريدة، والتي أعلنت إدارة الانتخابات نتائجها تفصيلا، غابت الإحصاءات المتعلقة بالمشاركة في الشق الفردي، فحُرم الباحثون والمهتمون والرأي العام من معرفة عدد الناخبين المؤهلين للاقتراع، وعدد من اقترع، وعدد الأصوات الصحيحة والباطلة وغيرها من أرقام، كان من الممكن الاستدلال من خلالها على واقع العملية الانتخابية في كل دائرة، ومن ثم إصلاح المثالب في المستقبل. أما المأخذ المضموني المأخوذ عليها، فهو ترتيب التقدم للترشيح، وهو أمر يُنظم بموجب أولوية حضور الراغبين في الترشح لتقديم أوراق الترشح. ولعل منبع أهمية هذا الإجراء أنه يترتب عليه تحديد أولوية كتابة المرشحين في ورقة الاقتراع. هنا لاحظ عديد من المرشحين المستقلين الذين باتوا ليلتهم الأولى على أبواب مقرات التقدم للترشيح، أن غيرهم احتل المرتبة الأولى في ورقة الاقتراع. غيرهم تعني آليا مرشحي حزب مستقبل وطن. هذا الأمر قد يبدو مقبولا في بعض المرات بدعوى قدوم المرشحين من هذا الحزب مبكرًا وقبل غيرهم، لكن ما بدا غريبا- وفق شكاوى بعض المرشحين- هو سيادة نمط حجز الأرقام الأولى في الترشيح (وبالتالي الأولوية في كتابة ورقة الاقتراع) في كل الدوائر باستثناء واحدة، وهو أمر يُسهل بموجبه توجيه الناخبين لاختيارات المرشحين الأوائل في بطاقة الاقتراع، ما يشكل عمليا دعاية لمستقبل وطن، وهو ما حظره القانون كلية.
استخدام المال الانتخابي الفاسد بتبجح ودون خجل
إضافة إلى ذلك، كان هناك المال الانتخابي الفاسد، وهو الوسيلة الأكثر شيوعا لخرق قواعد النزاهة، وهو أمر مُرتبط بعديد الانتخابات في بلدان العالم الثالث، حيث يترافق عادة هذا الأسلوب الانتخابي مع استخدام المال الفاسد بشراهة. وعامة، كان استخدام تلك الوسيلة يتم من خلال واحد أو أكثر مما يلي: – تجاوز السقوف المحددة للمال المصرح له بالصرف، أو تجاوز الحد الأقصى للتبرعات الموجهة للمرشحين، أو الرشى وشراء الأصوات، خاصة يوم الاقتراع، أو الإنفاق من خارج الحساب البنكية طوال فترة الدعاية الرسمية وغير الرسمية، أو عدم الإمساك بسجلات مالية للصرف، أو التمويل الأجنبي. هنا يمكن القول إن كافة الأساليب السابقة عدا الأخير قد استخدم في انتخابات مجلس النواب 2025. ولعل المثير في الأمر أن هذه التجاوزات باستثناء الأخير منها، عقوبتها في القانون لا تصل لحد شطب المرشح، بل تكتفي وفق المادة 68 من قانون مباشرة الحقوق السياسية بالغرامة التي تتراوح ما بين 10- 100 ألف جنيه.
وكان العديد من المرشحين قد قاموا من خلال ذواتهم أو أحزابهم، بخرق سقوف الدعاية الانتخابية في الكثير من الدوائر، وقد تم ذلك على مرأى ومسمع من الإدارة الانتخابية، التي وقفت عاجزة عن فعل شيء، بسبب اكتفائها بمراقبة الحسابات البنكية التي تنفق منها الأحزاب والمرشحين الفرديين، وهي حسابات ثبُت عمليا، أنها لا علاقة لها بكونها مصدر الإنفاق الرسمي والوحيد للمرشح، لوجود مصادر صرف أخرى خلفية من الصعب مراقبتها، وإن كان من السهل ملاحظة الخروقات. هنا يلاحظ أن إدارة الانتخابات قامت عقب الإنذار المبطن للرئيس السيسي للهيئة الوطنية للانتخابات في 17 نوفمبر 2025- لإعمال النزاهة والعدالة الانتخابية عشية إعلان نتائج الجولة الأولى من المرحلة الأولى– بتوجيه تحذير لثلاثة من الأحزاب القريبة من السلطة، لسرعة رفع وسائل الدعاية في الشوارع والميادين التي تتخطى السقوف في عدة محافظات. من هنا، بدأت إدارة الانتخابات تخرج من تحت سيطرة من لم يرد لهذه الانتخابات أن تكون حرة ونزيهة، وتنحو نحو ملاحظة الرئيس الذي يبدو أنه هاله ما ورد إليه من تقارير من جهات سيادية، من أن البعض يريد أن يصل بالبلاد لحد عدم الاستقرار، الذي ظهر فيما وصلت إليه البلاد عشية 25 يناير 2011 من خلال عدة أمور رئيسة، منها تزوير الانتخابات البرلمانية كما حدث بشأن انتخابات مجلس الشعب 2010. وهذا الأمر الأخير ألمح إليه رئيس الدولة في حديث آخر يوم 18 نوفمبر 2025 عقب ساعات من إعلان الهيئة الوطنية لنتائج المرحلة الأولى بقوله: “مصر كانت على حافة الهاوية عام 2011” وقوله إن حديثه قبل يوم عن التجاوزات، وموقفه من إدارة الانتخابات كان بمثابة “فيتو”.
وللحديث بقية






